‫الرئيسية‬ مقالات كيف تَعَكَّرَ صفوُ رمضانَ وتغيَّرَ انطباعُنا عنه إلى أجلٍ غيرِ مُسمًّى؟
مقالات - 26 أبريل 2022, 9:20

كيف تَعَكَّرَ صفوُ رمضانَ وتغيَّرَ انطباعُنا عنه إلى أجلٍ غيرِ مُسمًّى؟

محمد خلف

يتَّفقُ المعتادون على صيام رمضان بأنَّه شهرُ إبطالٍ للعاداتِ المُتعارَف عليها بشأنِ الأكل والشُّرب، وانقطاعٍ للعبادات المتعلِّقة بتجويد الصَّلاة وتلاوة القرءان وقيام اللَّيل. إلَّا أنَّ رمضانَ في الأساس هو عصفٌ مُخَلخِلٌ للزَّمن في بُعدَيْهِ النَّفسيِّ والعصبيِّ على حدٍّ سواء. على المستوى النَّفسي، تطولُ ساعاتُ النَّهارِ في رمضانَ لغيرِ المعتادين على صيامِه أو الذين يربطونه فقط بالتَّخلِّي عن الأكلِ والشُّربِ والمكيِّفاتِ في ساعاتٍ معلومة، بينما تقصُرُ لديهم ساعاتُ ليلِه فيفاجئهمُ اليومُ التَّالي بوطأةٍ أشدَّ وأكثرَ طولا. وعلى المستوى العصبي، تختلُّ السَّاعةُ البيولوجيَّة لدى الصَّائم حتَّى ينقلبَ ليلُه نهاراً ونهارُه ليلا؛ ويزدادُ ذلك الاختلالُ تبعاً لبُعدِ البلادِ في مدنِ الشَّتاتِ عن خطِّ الاستواء أو حسبَ تفرُّقِها في شتَّى مناحي نصفَيِ الكرةِ الأرضيَّة.

ورمضانُ في الأساسِ “أيَّامٌ معدوداتٌ” في السَّنةِ القمريَّة؛ تغمرُها كالمُعتادِ الشَّمسُ بالضِّياء، ويُحدِّدُ بزوغُها إمساكَ الصَّائمِ فيما يأذَنُ غروبُها بإفطارِه. وقبل انتباه غاليليو غاليلي إلى تساوي مدَّة تأرجُحِ البندول مهما طال مدى تذبذبِه واستخدام كريستيان هايجينز لهذه المعلومة في اختراع رقَّاص السَّاعة، كانتِ الشَّمسُ والقمرُ هما الجسمانِ الفلكيَّانِ الأساسيَّانِ اللَّذانِ يُستخدمانِ في حسابِ الزَّمن، وحسبما جاء في التَّنزيلِ قولُه: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ”؛ (سورة “يونس”، الآية رقم “٥”). والشَّهرُ لغةً هو ظهورُ القمرِ أو انبثاقُه هلالاً بعد سِرارٍ أو فترةِ احتجابٍ معلومة؛ ومدَّتُه تسعةٌ وعشرون يوماً ونصف، وتُجبَرُ إلى (أو تُكبَسُ في) ثلاثينَ يوماً فتُصبِحُ أساساً أيضاً للشَّهرِ الشَّمسيِّ الذي تتراوحُ مدَّتُه بين ثمانيةٍ وعشرين إلى واحدٍ وثلاثين يوماً؛ وفي عددٍ من اللُّغاتِ الأوروبيَّة، تُشتَقُّ كلمة “شهر” من أصلِ كلمة “قمر”؛ على سبيل المثال، كلمة “مونات” من”موند” في الألمانيَّة، وكلمة “ماند” من “مان” في الهولنديَّة، و”مَنث” من “مون” في الإنكليزيَّة.

وفي رمضانَ، تواجهُ السَّاعاتُ الدَّاخليَّة البيولوجيَّة صداماً حادَّاً مع السَّاعاتِ الخارجيَّة – سواءً كانت هي الشَّمسُ أو القمر، أو السَّاعاتُ البندوليَّة أو تلك التي تعملُ ببلُّورِ الكوارتز التي تصِلُ تردُّداتها إلى (٣٢٧٦٨) تردُّداً في الثَّانية – خصوصاً إذا تجاهلَ الصَّائمُ الجانبَ التَّعبُّديَّ من شهرِ الصَّوم وأخذ يتعاملُ معه كحِرمانٍ فقط من الأكلِ والشُّرب. ففي الأصل، جُعِل النَّهارُ لمعاشِ النَّاسِ واللَّيلُ لراحتِهم؛ ووفقاً لهذا النَّاموس، تنضبطُ السَّاعاتُ الدَّاخليَّة للبشر، كما هو الحال عند بقيَّة الكائنات الحيَّة؛ فالغطاءُ النَّباتيُّ في الأرض يعكفُ على صناعة التَّمثيل الغذائي نهاراً، بينما تشرعُ الخلايا الحيَّة في الانقسام ليلاً خشيةً من الأشعَّةِ فوق البنفسجيَّة التي تُسبِّبُ تكاثُراً عشوائيَّاً لخلايا الجلد إن لم يكن مغطًّى بصبغةِ الميلانين التي تحميه من التَّسرطُن، لذلك يُنصَحُ في مدنِ الشَّتاتِ الباردة بمسحِ الجلدِ عند سطوعِ الشَّمسِ بدهانٍ يحتوي على نسبةٍ من الميلانين. ورمضانُ بصفته نقضاً للنَّاموس، يضعُ الصَّائمَ أمام تحدٍّ شبهِ مستحيل يتمثَّل في قدرته على ممارسة الحياة العاديَّة رغم تخلِّيه عن كثيرٍ من العاداتِ الرَّاسخة؛ فإن نجح، ظفر بالنَّجاةِ وإلَّا وقع فريسةً لارتجاجٍ للوقتِ أشدَّ عصفاً من اختلافِ التَّواقيتِ (“جيت لاغ”) الذي يُحدِثُه السَّفرُ بالطَّائرة لمسافاتٍ طويلة، خصوصاً من الغربِ إلى الشَّرق.

يلجأُ بعضُ الصَّائمين في صدامٍ تامٍّ مع السَّاعاتِ البيولوجيَّة إلى نقلِ ما استطاعوا من الأنشطة النَّهاريَّة وترحيلِها إلى ساعاتِ اللَّيل، فيقضونَ سحابةَ يومِهم في التَّناوُمِ والتَّكاسُل والتَّثاقُلِ، بحسبانِ أنَّ ما تمَّ تأجيلُه سيتمُّ إنجازُه بعد مغيبِ الشَّمس أو بالأحرى بعد الإفطارِ بفترةٍ وجيزة؛ وهكذا تتسلَّلُ رويداً رويداً أعمالُ النَّهارِ إلى أطرافِ اللَّيل، فيُصبِحُ الإنسانُ النَّهاريُّ (داييرنال) بفضلِ هذا العملِ المُرَحَّل إنساناً ليليَّاً (نوكتيرنال)، فيحتاجُ إيقاعُه اليوميُّ (سيركيديان) إلى إعادةِ ضبط، (ريكاليبريشن)، لأنَّه اختار بمحضِ إرادته أن يعمل بنظام ورديَّة اللَّيل من غير أن يكونَ بالضَّرورةِ عاملاً في الحقلِ الطِّبِّيِّ أو الشُّرَطيِّ أو سائقاً لشاحنةٍ عابرةٍ للقارَّات. في المقابل، يجتازُ الإنسانُ المؤمن المُترَع بنفحاتٍ من اليقين ساعاتِ اليومِ الرَّمضانيِّ في سهولةٍ ويُسر، ويُوصِلُها بقيامِ اللَّيل من غيرِ مشقَّة إذا دعا داعي الإيمان إلى إحيائه بالعبادة؛ فهكذا ينهضُ عبد الواحد “لأداءِ الصَّلواتِ الجميلة، والسُّجودِ فوق الغمامة” ليلاً ونهارا، وهكذا ملأ “نوعٌ بشريٌّ جديد” ساحةَ الاعتصامِ في رمضانَ بالهتافِ والصَّلاةِ ليلاً ونهارا.

دينيَّاً، يكتسبُ شهرُ رمضانَ أهميَّةً استثنائيَّة، إذ إنَّه الشَّهرُ الذي أُنزِلَ فيه القرءان وبه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهر. وثقافيَّاً، يحفَلُ رمضانُ بأنواعٍ متميِّزة من الأطعمة والمشروبات التي تُعَدُّ خِصِّيصاً لهذا الشَّهر، ولا يكون لها في واقعِ الأمرِ طعمٌ أو نكهةٌ إلَّا عند تناولِها خلالِه. هكذا شمَّ عادل القصَّاص رائحةَ “الآبري” قبل شهرٍ من تناولِ الصَّائمينَ له في الشَّهرِ الفضيل، وهكذا تهفو قلوبُ المقيمينَ في مدنِ الشَّتاتِ إلى “اللُّقمة” و”القُرَّاصة” “ومُلاح التَّقليَّة”، وهكذا تُرسِلُ الأُمُّهاتُ لفافاتٍ أو “طَرَقاتٍ” من “الحلو مر” مع أقربِ مسافرٍ إلى مدنِ الاغتراب. أمَّا اجتماعيَّاً، فإنَّه يحفلُ بسلَّةٍ من التَّناقضات؛ فهو من جهةٍ رِفقٌ ورَحمةٌ بالفقراء وحسنُ ضيافةٍ للغرباء وتقديمٌ للوجباتِ تكريماً للموتى ورحمةً لهم في يومِ “الرَّحمتات”. ومن جهةٍ أخرى تفاخرٌ وصرفٌ بذخيٌّ وتبذيرٌ للمالِ وتبديدٌ للطَّعام، علاوةً على تضاعُفٍ لعملِ المرأةِ في البيت من غيرِ أن تلقى مساعدةً في صناعةِ مستلزماتِ الإفطار، فهي التي تسعى مثل غيرها للعملِ المُشَرِّف فيما تُشرِفُ في ذاتِ الوقتِ على تربية الأطفال وتُقسِّمُ وقتَها للاضطِّلاعِ بكلِّ ذلك من غيرِ أن تتخلَّى عن صيامِها أو قيامِها.

إلَّا أنَّ سُحُباً أكثرَ دُكنةً وإظلاماً قد أخذت تُغطِّي على سَماحةِ هذا الشَّهر في ذاكرةِ السُّودانيِّين المعاصرين. كان أوَّلُها وقوعَ ظُلمٍ بَيِّنٍ على ثمانيةٍ وعشرين ضابطاً تمَّ إعدامُهم من غيرِ تَرَوٍّ أو إعمالٍ لفكر أو إقامةٍ لمحاكمةٍ تزعمُ إحقاقاً لحقٍّ أو تتظاهرُ بنُصرةٍ لمظلوم. وكان بينهم المقدَّم بشير عامر أبو ديك الذي لم نرَ منه سوى خُلُقٍ فاضل والتزامٍ مهنيٍّ صارم وحبٍّ جارفٍ للوطن. كما كان بينهم النَّقيب طيَّار مصطفى عوض خوجلي، الذي لم نتشرَّف بمعرفته لكنَّا لمسنا صورةً من فضائله من سِماتِ شقيقِه محمَّد ذي الخُلُقِ النَّادرِ الرَّفيع ومن أنشطةِ شقيقاتِه “الميماتِ الثَّلاث” (منى وماجدة ومنال)، اللَّائي رفعنَ ذِكرَه ونافحن للدِّفاعِ عنه وعن رفاقِه بتأسيسِ منظَّمةٍ تُطالبُ بالكشفِ عن قبورهم ورَدِّ اعتبارهم وتعريف منظَّمات حقوق الإنسان المحلِّيَّة والإقليميَّة والعالميَّة بقضيَّتِهم وإطْلاعِهم على الظُّلمِ الذي وقع عليهم والكارثةِ التي حلَّت بالسُّودانيِّين جميعِهم من جرَّاءِ الحُكمِ الفاسد الذي تجاهلَ حقَّهمُ الأساسيَّ في الحياة.

غير أنَّه ما من كارثةٍ لوَّثت سماحة رمضانَ وما من فجيعةٍ حدثت أثناءه فغيَّرتِ الذَّاكرةَ الجمعيَّةَ بشأنِ هذا الشَّهرِ الفضيلِ مثل مذبحةِ ساحةِ الاعتصام. لم يكن ما حَدَثَ فضَّاً للسَّاحةِ في روايةٍ مخاتلةٍ للأحداث أو “تنظيفاً” لمنطقة “كولمبيا”، بل كان مذبحةً على رؤوسِ الأشهاد وعلى مرأًى ومسمعٍ من شاشاتِ التَّلفزةِ العالميَّة وعلى شرائط الفيديو التي لا تُحصى التي بثَّتها جوَّالاتٌ خاصَّة بالأفرادِ المشاركين في الاعتصام في ذلك اليومِ الرَّمضانيِّ الكئيب. وكُنَّا في مدنِ شتاتنا نُشاهِدُ الأحداثَ ساعةً بساعة ودقيقةً بدقيقة وثانيةً بثانية، وقد حفِظَتها ذاكرتُنا الجمعيَّة وصانتها بقوَّةٍ في مشابِكَ غائرةٍ بين عُصبُوناتِنا الثَّقافيَّة. ولا نحتاجُ لِمَن يُغرِّرُ علينا بنفيها أو يزعمُ تبريراً لوقوعِها أو يسعى للتَّنصُّلِ من المسؤوليَّة القانونيَّة والأخلاقيَّة لحدوثِها. قد رأينا بأُمِّ أعيُنِنا أشنعَ جريمةٍ مُعلَنةٍ في تاريخ السُّودان الحديث. وقد وصلتنا تقاريرُ من شهودِ عيانٍ عن اقتناصٍ لأفرادٍ واغتصابٍ لفتياتٍ وتعذيبٍ لناشطينَ وعُنفٍ مفرَطٍ مَوجَّهٍ لجميعِ المشاركين في اعتصامِ القيادة.

وقد قادت هذه الأحداثُ المؤسِفة إلى تشويهٍ عميقٍ لسُمعةِ الجيشِ السُّودانيِّ ومليشياتِه الشَّريكة. كما قادت إلى طرحِ تساؤلٍ أكثر عُمقاً حول نقاءِ بعضِ الأحزابِ السُّودانيَّةٍ المعروفة وعِلمِها المُسبَقِ بوقوعِ الجريمة، إنْ لم نقُلْ تواطئها في ارتكابِها. إلَّا أنَّ أشنعَ ما قادت إليه هو التحامُها بأبركِ وأقدسِ الشُّهور، بحيث لن تأتيَ الآنَ أواخِرُه التي يقتربُ فيها النَّاسُ من خالقِهم بالعبادة، إلَّا واقتربت معه في ذاتِ الوقتِ في انطباعاتِهمُ الجمعيَّة ذكرى أبشعِ جريمةٍ يشهدونها بأُمِّ أعيُنِهم في العصرِ الحديث. فهذا الجُرحُ سيظلُّ نازِفاً وغائراً في عُمقِ ذاكرتِنا الجمعيَّة، وسوف لن يبدأ في الاندمالِ إلَّا بالبدءِ في خطواتٍ جادَّة، تبدأ بتقديمِ المسؤولينَ عنها والمتواطئينَ مع مرتكبِيها لمحاكماتٍ عادلة وعاجلة وعلنيَّة ومُعاقَبَةِ المذنبين – ليس تشفِّياً منهم، وإنَّما من أجل خلاصِهم الذَّاتيِّ بتخليصِهم من العذابِ الأبدي، وتقديمِ اعترافاتٍ من الجُناةِ وشهاداتٍ صادقة من المطَّلعين على الأحداث، والاستتابة التَّامَّة للمؤيِّدين لوقوعِ الجُرم المشهود أو المتعاطفينَ مع الجهاتِ التي أمرت بارتكابِه.

عندها، سيعودُ رمضانُ كريماً كما كان دائماً وقد برأ جُرحُه وتبرَّأت سيرتُه العطِرة من أيِّ ارتباطٍ يُقيِّدُه إلى الأبد بجُرمٍ ارتكبته فئةٌ ضالَّة مفتقِرةٌ لأيِّ وازعٍ دينيٍّ أو أخلاقي. وعندها، سيعودُ “قمرُ الدِّينِ” معزَّزاً بنكهتِه الرَّمضانيَّة المحبَّبة وسيتحلَّى “الحلو مر” بتخلِّيه عن نصفِه الأخير. وستعودُ أواخرُ الشَهرِ ممتلئةَ الجيوبِ، غنيَّةً بالعبادة، وسيعودُ عبد الواحد، كما تنبَّأ له سيد أحمد بلال، إلى أوَّلِ السَّطرِ “لأداءِ الصَّلواتِ الجميلة والسُّجودِ فوق الغَمامة”.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 3 / 5. Total : 2

كن أول من يقيم هذا المقال