رؤية الأستاذ محمود محمد طه تجاه التنمية تثير حراكاً واسعاً (7-6)
مقاربة د. عبد الله الفكي البشير بين آراء الأستاذ محمود محمد طه والبروفيسور أمارتيا سن تجاه التنمية تلهم المتخصصين في التنمية وتدفعهم لفتح باب المقارنات دون الاعتراف بالفضل
(6-7)
بدر موسى
“والتبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المبشِّر، من سعة العلم بدقائق الإسلام، وبدقائق الأديان، والأفكار، والفلسفات المعاصرة، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز امتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكيَّة”. (محمود محمد طه، الثورة الثقافية، 1972، ص 17).
الكتاب “المرجع” كما وسمه البروفيسور عصام البوشي يُحدث الثورة والانقلاب الفكري
وصف البروفيسور عصام البوشي، مدير جامعة ود مدني الاهلية، السودان، كتاب عبد الله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، في تقديمه للكتاب، قائلاً: “الكتاب الذي بين أيدينا كتاب عظيم وجليل وخطير.. وهو كتاب يقف بنا في مفترق الطرق، ويؤرخ لمرحلة جديدة وفريدة في كتابة وصناعة التاريخ”.. وأضاف البروفيسور عصام: “إن هذا الكتاب ذو طبيعة موسوعية غطت ما أهمله المؤرخون، عمداً أو سهواً، وما أخفاه أو تخطاه الأكاديميون والباحثون جهلاً أو خوفاً أو حسداً. وهو بذلك حرِيٌ بأن يكون “المرجع” (المعرف بالألف واللام) لكل من يود الكتابة عن الأستاذ محمود محمد طه منذ اليوم”. وهذا وصف لأستاذ من كبار الجمهوريين، كان متابعاً لكل مراحل الكتاب منذ أن كان فكرة وحتى تبويبه وكتابته، ومن ثم نشره، وما بعد النشر، كما أوضح مؤلف الكتاب في صدر كتابه. وقد ظلت الأوصاف التي أطلقها البروفيسور عصام على الكتاب في مقدمته، تتبدى وتتجسد لنا مع مرور كل يوم جديد. كانت مقدمته كافية وعميقة ووافية، لإعادة التربية المعرفية وسد النقص في التربية الروحية لكل دارس للتطور السياسي والفكري السودان، ولكل عامل في إعادة قراءة التاريخ، أو مراجع للتاريخ المعلن، أو دارس لما بعد التاريخ المعلن، (هذه مصطلحات استخدمها الدكتور عبد الله في رده على البروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه)، كما ستأتي الإشارة لاحقاً. فقلد لاحظت أن أوصاف البروفيسور عصام للكتاب قد تبدت وتجلت في غزل المثقفين في الكتاب.
لقد وصف البروفيسور عبد الله علي إبراهيم كتاب عبد الله، قائلاً: “هذا كتاب فحل”، ووصفه كذلك، قائلاً: “هذا الكتاب هو ثورة”، وعلق البروفيسور يوسف فضل حسن عندما استلم نسخته من الكتاب، قائلاً: “هذا ليس بكتاب هذا انقلاب”. ووصفه الدكتور محمد مستقيم، جامعة الجديدة، المغرب، قائلاً: “يتضمن هذا العمل الضخم ثمانية عشر فصلاً… تجعلنا أمام موسوعة فكرية شاملة”. ووسمه الدكتور حيدر إبراهيم، قائلاً: “يعطي المؤلف درساً في التوثيق المحكم واليقظ والمتابع. إذ يبدو وكأنه يريد أن يقول: لن أفرط في الكتاب من شيء… إن الكتاب في حقيقته هو محاكمة للمثقفين السودانيين، والاكاديميا، والإعلاميين وكل من ساهم في تجاهل الاستاذ محمود أو تعمد اخفاء سيرته ومساهمتة المقدرة والمميزة”. وكتب عنه الأستاذ فيصل محمد صالح، قائلاً: “هذا كتاب ثقيل في الوزن المادي وفي محتواه الفكري والثقافي والسياسي… هذا كتاب يستحق القراءة، وهذا الكاتب يستحق الانتباه له ومتابعته، فمشروعه الفكري والثقافي قد بدأ، وما زال في جرابه الكثير”. وزعم الأستاذ صديق محيسي، قائلاً: “أزعم ان الكاتب الباحث عبد الله الفكي البشير قدم للمكتبة السودانية مالم يقدمه كاتب وباحث سوداني قبله في تاريخ الكتابة في السودان”. وغيرها كثير. فما هو موقف قصي من كتاب عبد الله: محمود محمد طه والمثقفون؟
لم نقرأ للدكتور قصي ولم نسمع منه شيئاً عن كتاب عبدالله هذا، إلا بعد أن نشرت البروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه نقداً للكتاب، جاء بعنوان: نقدٌ وتوضيح لما ورد عن بعض الأطروحات الجامعية في كتاب الأستاذ عبد الله الفكي البشير: صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، رؤية للنشر والتوزيع القاهرة 2013″، ونشرته في 7 يناير 2015. ما أن نُشر النقد للكتاب، إلا وحضر الدكتور قصي في الساحة، وكأنه كان ينتظر النقد والنيل من الكتاب والتخطئة لعبدالله، فكتب، قائلاً:
“لم أقرأ للبروفيسورة فدوى عبد الرحمن قبل اليوم، لكني أرى مقالها أعلاه غاية في الأناقة والدّرَبة المنهجية، ولست على دراية بصحة ودقة محتوى التوثيق فيه، لكني أفترض فيه الصحة حتى الآن، فليس عندي أي سبب الآن لافتراض العكس. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فأرى أن عموم قولها عن ان ضعف الأثر الكمّي للحزب الجمهوري في الساحة السياسية السودانية حتى اليوم عايد إلى قلة ممارسة الحزب الجمهوري للعمل السياسي الجماهيري، قول صحيح في عمومه، فالحزب الجمهوري اختار هيكل الحزب السياسي العام، لبعض الوقت، في حين أن عمله الرئيسي لم يكن عمل حزب سياسي؛ إنما كان عمل حركة دينية، اجتماعية-سياسية (socio-political movement) تعتمد على التغيير من الجذور – التغييرالفكري والثقافي – بأدوات التوعية والإقناع. هذه ليست أدوات الأحزاب السياسية (نسبيا)، لأن الأخيرة تعتمد أكثر على استراتيجيات التنظيم وتكتيكات الحشد (organization and mobilization) والصوت العالي. صحيح أنه كانت للأستاذ محمود شخصيا مواقف سياسية قوية وسابقة لزمانها، لا تخطئها العين، لكن ذلك لا يُترجَم بالضرورة إلى أثر سياسي واسع في الميدان العام. الكثير من أصحاب الرؤى الثاقبة والمواقف القوية عبر التاريخ لم تلحق المجتمعات باحترام قدرهم إلا بعد فترة، ولكونهم كانوا سابقين لزمانهم كان ذلك أيضا حاجزا موضوعيا بينهم وبين التأثير المباشر على سيرورة الأحداث السياسية في زمانهم”. وأضاف قصي، قائلاً: “بعد مرحلة الإشادة بالكتاب، وبالمجهود الضخم الذي بذله أخانا عبد الله الفكي البشير، تأتي مرحلة التفاعل النقدي الجاد في مثل هذا المستوى، الأمر الذي يعطي الكتاب تواجدا أكبر وأكثر استدامة في ساحة التفاكر السودانية، فأي إنتاج لا يلقى سوى عموم المدح سرعان ما يبدأ في الغياب من الساحة، في الغالب، لتناقص معدل التفاعل معه”. ثم ألتفت معلناً تشوقه لقراءة تعقيب عبدالله، إذ كتب، قائلاً: “أتشوق لقراءة تعقيب أخي وصديقي عبد الله الفكي، فما أراه أن هذا المقال يخاطب عبدالله في مستوى الاحترام الأكاديمي الذي يستحقه بجداره، وعليه أتوقع أن يكون عبدالله سعيدا بهذا المقال ومتحمسا للتجاوب معه بنفس القدر من الأناقة المنهجية”. مع وافر المحبة والتقدير للجميع، قصي همرور.
إن قول الدكتور قصي: “لم أقرأ للبروفيسورة فدوى عبد الرحمن قبل اليوم، لكني أرى مقالها أعلاه غاية في الأناقة والدّرَبة المنهجية، ولست على دراية بصحة ودقة محتوى التوثيق فيه، لكني أفترض فيه الصحة حتى الآن، فليس عندي أي سبب الآن لافتراض العكس”. يكشف هذا القول عن جهل كبير بدور الأستاذ محمود في تاريخ السودان، وعن جهل بحجم وطبيعة العمل الذي قام به. كما يكشف القول كذلك عن عجلة قائلة ومكابرته، بل يعبر عن قصر نظره وانخفاض سقف تصوره تجاه الفكرة الجمهورية، وتجاه الكتاب ومستقبله، كون الكتاب أحدث انقلاباً في الأكاديميا السودانية، وفجر ثورة في العديد من المجالات، منها على سبيل المثال، لا الحصر، تاريخ السودان السياسي، والعلوم السياسية والعلوم الاجتماعية، والدراسات الفكرية، ودراسات المرأة، … إلخ. بل جعل من دور الأستاذ محمود محمد طه ورؤيته تجاه السودان، بمثابة البوصلة التي تحدد المسار القراءة للتطور السياسي والفكري في السودان. وأذكر أن العديد من المثقفين عبروا عن أنهم بعد صدور كتاب عبد الله هذا، فإنهم صاروا لا يقدمون على الكتابة عن الأستاذ محمود أو الفكر الجمهوري، أو عن مسار السودان السياسي، أو الفكري، إلا والكتاب بجوراهم، يستشيرونه، ويدققون معلوماتهم على ضوء ما جاء فيه. لم يكن الدكتور قصي مدركاً لكل هذا، بل ظل يكابر حتى بعد تعقيب الدكتور عبد الله على البروفيسور فدوى.
الشاهد: لم تمر أيام قليلة، إلا وجاء تعقيب عبد الله على نقد البروفيسور فدوى، فكان زلزالاً هز كل أركان العلوم السياسية والفكرية والدراسات التاريخية والعلوم الاجتماعية، والمؤسسات الأكاديمية والبحثية. وفي تقديري الخاص، أن عبد الله بكتابه وتعقيبه على البروفيسور فدوى، قد أشعل الثورة في سماء السودان، وفي عقول شبابه ومثقفيه. جاء رد عبد الله في ثلاث حلقات بعنوان: “تعقيب على البروفيسور فدوى عبد الرحمن على طه: التنقيب عن (ما بعد التاريخ المعلن) في صحائف المؤرخين وإرث الأكاديميا السودانية”. ولقد كان تأثير التعقيب، الذي أعدكم بإعادة نشره كاملًا قريباً إن شاء الله، كبيراً وأحدث دوياً عاتياً، وسأكتفي هنا بشهادة أكبر أستاذ لتاريخ السودان الحديث والمعاصر، والذي ظهر، في تقديري، بأكبر قامة للتواضع أمام كتاب عبد الله، وهو البروفيسور حسن أحمد إبراهيم، أستاذ كرسي تاريخ السودان بكلية الآداب، جامعة الخرطوم. (لقد سبق وأن نشر الدكتور عبد الله شهادة البروفيسور حسن وتعليق البروفيسور عصام البوشي عليها في صالون الإخوان الجمهوريين). فبعد أن أطلع البروفيسور حسن على حلقات عبد الله في الرد على البروفيسور فدوى، كتب إلى الدكتور عبد الله، قائلاً: “أطلعت بِحِرْصٍ شدِيدٍ علي المقَالات الثلاث التي أَجدها محقة في ما ذهبت إِليه من قُصورٍ في الدراساتِ السُّودانيَّةِ وفجوة لابد من الاعتراف بِها والتداعي لسدها بدلا من دفن رؤُوسِنا في الرمال. ولا أَدرِي لماذَا يُكَابِر الناس حيث أَن ما قلته في سفرِك القيَّم عين الحقيقَة. أَشكرك علَي لفت نظَرِنا جميعاً لهذا الأَمر المهم. لك الود والتقدير”. وهذه شهادة كبيرة ومن عالم كبير، وقد علَّق البروفيسور عصام عبد الرحمن البوشي على شهادة حسن أحمد إبراهيم أعلاه، قائلاً: “قِلَادَةُ شَرَف لك، وَاِعْتِرَاف عَالِم انْحنَى للحق”.
وبعد كل هذا جاء الدكتور قصي، وبعد أن قرأ تعقيب عبد الله “المزلزل” على البروفيسور فدوى، فكتب، قائلاً: لا أزال عند موقفي بأن الحزب الجمهوري اختار هيكل الحزب السياسي العام… إلخ. وقد أدهشني قول قصي في ذلك الوقت ولا أزال، ولا تعليق هنا لشدة المكابرة والتعالي على الحق. ولقد ظللت أردد بأننا في حاجة لبعث فضيلة الرجوع إلى الحق في المجتمع الجمهوري. فمن يستعصى عليه الرجوع إلى الحق يكون قد فقَد الكثير، كون عدم الرجوع إلى الحق يسلب الفضائل، كما أن أنوار الحق لا تصدر من المتعالي غير المتواضع، الناكر للحق.
سأواصل التفصيل في الحلقة السابعة والأخيرة.