رؤية الأستاذ محمود محمد طه تجاه التنمية تثير حراكاً واسعاً (7-2)
- (2-7)
بدر موسى
“والتبشير بالإسلام أمر يتطلب أن يكون المبشِّر، من سعة العلم بدقائق الإسلام، وبدقائق الأديان، والأفكار، والفلسفات المعاصرة، بحيث يستطيع أن يجري مقارنة تبرز امتياز الإسلام على كل فلسفة اجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، بصورة تقنع العقول الذكيَّة”. (محمود محمد طه، الثورة الثقافية، 1972، ص 17).
قراءة موجزة في وعد قصي همرور بإجراء مقارنات بين كتابي “الحرية والتنمية” و”التنمية كحرية”
نشر الدكتور قصي همرور مساهمة يوم 11 مارس الجاري في صفحته على الفيسبوك، وجاءت في نحو (1300) كلمة. تمحورت المساهمة حول كتاب أماريتا سن: Development as Freedom آنف الذكر، وكتاب نيريري (الحرية والتنمية) الذي يحوي، كما بيَّن الدكتور قصي، أوراقا وخطابات له بين العامين 1968 و1973، وتوسع في ذلك. وبمجرد الانتهاء من قراءتي لهذه المساهمة قفزت إلى ذهني عدة أسئلة، منها: لماذا لم ترد فيها كلمة واحدة عن آخر مقارنة صدرت في الخرطوم، وهي مقارنة الدكتور عبد الله آنفة الذكر، والتي أحدثت حراكاً واسعاً في السودان وخارجه، وقد وصفتها صحيفة المدائن التي تصدر في ألمانيا باللغة العربية، بأنها: “أكبر مقاربة في تاريخ السودان والفهم الجديد للإسلام عن آخر أطروحات الفكر التنموي في العالم: التنمية حرية”؟ وقد حملت تلك المقاربة رؤية الأستاذ محمود محمد طه تجاه التنمية. ولماذا تجاوز الدكتور قصي رؤية الأستاذ محمود للتنمية، وهي الرؤية الأشمل والأدق من كلا رؤيتي المعلم نيريري والبروفسير أمارتيا سن لمفهوم التنمية كحرية، كما أنها الرؤية السابقة لكلتيهما بعشرات السنين، كما فصل الدكتور عبد الله الفكي البشير في كتابه العظيم والمهم، والملهم، للدكتور قصي ذات نفسه، إذ لولا كتاب عبد الله لما خرج علينا الدكتور قصي في يوم 11 مارس 2022 بمساهمته هذه، أو بوعده للقراء بإجراء مقارنات قادمات.
وتساءلت لماذا أهمل الدكتور قصي في مساهمته الإشارة لرؤية الأستاذ محمود التي شهد بتميزها كبار المفكرين الرواد في مجال التنمية، من أمثال البروفيسور علي عبد القادر علي، أستاذ اقتصاديات التنمية، والذي شهد له الدكتور قصي نفسه، قائلاً: إن البروفيسور علي عبد القادر سلطة في مجاله. ثم شهد بتميزها وريادتها الدكتور الخبير، والباحث في مجال التنمية، خالد التجاني، رئيس تحرير صحيفة إيلاف المعنية بالاقتصاد والسياسة. لقد تحدث الدكتور خالد عن هذا الكتاب في ندوة عقدت بمركز الخاتم عدلان للاستنارة بالخرطوم في 20 أكتوبر 2021، قائلاً:
“حقيقة قدم عبد الله الفكي البشير أطروحة قوية ومتماسكة في مقاربتها عن التنمية بين البروفيسور أمارتيا والأستاذ محمود.. أذكر أن الدكتور الباقر هاتفني وسألني، قائلاً: هل أكملت قراءة الكتاب؟ فقلت له قل لي كم مرة قرأت الكتاب؟ حقيقة إن هذا الكتاب جاء في وقت مناسب جداً، فهو يقدم خدمة كبيرة جدا للثورة، وخدمة كبيرة جدا للتغيير.. أنا أطلعت على كتاب أمارتيا سن من قبل: التنمية حرية، ولكن لأول مرة حقيقة اتلمس من المقاربة التي قام بها دكتور عبد الله أن هناك طرحاً لمشروع، أو ركائز لمشروع وطني للتنمية، قدمه الأستاذ محمود.. وأن الإنسان هو غاية التنمية وجوهرها، وقضية الحرية ودور المرأة ودور المجتمع وقضية الديمقراطية… إلخ. وقد أوضح لنا عبد الله كل ذلك عبر المقاربة بين أمارتيا، وهو رجل لا ديني، مع الأستاذ محمود الذي ينطلق من منطلق روحاني مستمد من القرآن الكريم، وهنا بعد أخلاقي.. هذا الكتاب القيم للغاية، قدم لنا معاني كثيرة عن التنمية التي طرحها الأستاذ محمود، ورصدها الدكتور عبد الله.. ونحن حقيقة في حالة فراغ كبير جدا.. ليس لدينا أطروحات وطنية تجاه التنمية.. هذا الكتاب، بهذا العمق الذي طرحه وقدمه لنا الدكتور عبد الله، جعلنا نكتشف أن لدينا قواعد ومرتكزات لمشروع وطني للتنمية، طرحه الأستاذ محمود…”. “فما انتهى إليه البروفيسور أمارتيا سن، أستاذ الاقتصاد والفلسفة الشهير، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في العام 1998، من أفكار وآراء تدعو لأنسنة قضية التنمية، وتجعل من قضية الحرية هي ذروة سنام العملية التنموية، فقد سبق للمفكر السوداني المعروف الأستاذ محمود محمد طه إلى طرح العديد من معانيها في طائفة من كتاباته قبل نحو خمسة عقود”. (صحيفة المدائن، الأحد 13 مارس 2022).
والسؤال الثاني الذي قفز إلى ذهني هو: لماذا قرر الدكتور قصي (الآن فقط) كتابة هذه الورقة العلمية التي وعدنا بها، عن هذا الموضوع بالتحديد، وهو الذي يقول بأن لديه موقف أخلاقي من أمارتيا سن، لأنه ليس باشتراكي، ويقول كذلك بأنه قد درس كلا الرؤيتين حول التنمية وصلتها الوثيقة بالحرية، منذ العام 2016؟ هل عنده سبب لهذا التوقيت بخلاف صدور كتاب الدكتور عبدالله، والاهتمام الكبير والصدى الواسع والعريض والاحتفاء الذي وجده الكتاب، داخل وخارج السودان، والذي نترقب الآن صدور الطبعة الإنجليزية منه، وصدور طبعته الثانية بالعربية؟!
فإن صح أن هذا هو السبب وراء كتابة قصي لورقته الموعودة، فلماذا لا يصرح به، ويشكر عبدالله على حفزه لكتابتها؟!
والسؤال الثالث هو: لماذا صار قصي يصدر الأحكام الجزافية السالبة في حق كبار العلماء في مجال التنمية، من أمثال البروفيسور أمارتيا سن، والدكتور علي عبد القادر علي، ثم يعود ويناقض نفسه، ليشهد لكليهما بأعظم الشهادة، ويسجل لهما الإشادة والتبجيل، ولا يعتذر عن أحكامه الجزافية السابقة، التي أصدر نقيضها لاحقًا، وكأنه لا يشعر بهذا التناقض الذي تورط فيه؟!
ما الذي جرى لقصي بعد صدور كتاب عبد الله؟! فهو، على سبيل المثال وليس الحصر، كان قد أسهب في التقليل من شأن وأهمية وقوة تأثير مساهمات أمارتيا سن، وعلل تجاهله له بأنه مفكر رأسمالي وليس اشتراكي، وأنه شهرته سببها الآلية الرأسمالية الغربية، التي تقف وراءه، و، و…الخ، ثم عاد الآن، مناقضًا نفسه، فيشيد بأمارتبا سن وهو يعمل على إجراء المقارنات معه. فقد كتب الدكتور قصي عن كتاب أمارتيا سن، قائلاً:
“… ثم في 1999، صدر كتاب أمارتيا سن، “التنمية كحرية”، وكان قبلها بسنة قد حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد… يطرح سِن، كخلاصة من خلاصات انخراطه في قضايا التنمية لعقود، أن تعريف التنمية هو الزيادة في شروط ومحتوى الحرية، على المستويين الفردي والجماعي، والحرية هنا تشير إلى خمس حريات أداتية (أي وسائل) هي: الحريات السياسية المتعارف عليها، التسهيلات الاقتصادية، الترتيبات الاجتماعية، ضمانات الشفافية، والأمن الوقائي. مع ذلك يطرح أيضا أن تكامل هذه الأنماط من الحريات يقودنا إلى فهم أن الحرية هي غاية التنمية ووسيلتها الأساسية لتحقيق التنمية كذلك. في مجمل كتابه، يستند سن في أطروحته على كتابات الاقتصاديين اللبراليين المعروفين، مثل آدم سميث وفريدرك هايك، لكن الأطروحة العامة من الناحية الفلسفية التجريدية مترابطة ووافرة الإقناع، أما من الناحية التطبيقية وناحية النماذج المقدمة فقد استند سن على دراسات واسعة (منها دراساته هو نفسه)”.
كما وعدنا الدكتور قصي في مساهمته بورقة يعكف على كتابتها، سيتناول فيها، كما قال في ختام مساهمته: “الاتجاه الفكري التنموي القديم لدى الحركة الافروعمومية في الربط بين التنمية والتحرر، مع اعتبار نيريري أحد أعمدة التفكير التنموي ضمن الحركة الافروعمومية”. ثم في ختام خاتمة ورقته، أشار للأستاذ محمود حيث أضاف، قائلاً: “ثم لدينا بعد ذلك مقارنات أخرى وشخصيات أخرى (مثل التقاطعات الكثيرة، المثيرة للاهتمام، بين مواقف وآراء نيريري ومواقف وآراء محمود محمد طه في عدة مسائل)، ومنها المزيد من التفصيل حول المقارنة بين كتابي “الحرية والتنمية” و”التنمية كحرية” وملابساتهما.)”.
سأواصل التفصيل في الحلقات التالية…