‫الرئيسية‬ مجتمع أخبار تحليل سياسي السياسة الأمريكية في السودان تفتقر إلى الخيال؛

السياسة الأمريكية في السودان تفتقر إلى الخيال؛

على واشنطن أن تبدي قدراً أكبر من حسن الظن بالقوى الديمقراطية

*ترجمة مداميك:Foreign Affairs

نشرت مجلة فورين أفيرز Foreign Affairs مؤخراً مقالاً للباحثة الأمريكية ميشيل قيفن Michelle Gavin تناولت فيه بالتحليل السياسة الأمريكية حيال السودان، وموقف واشنطن من التطورات الدرامية التي شهدتها المرحلة الانتقالية والتي بلغت ذروتها باستيلاء المكون العسكري على السلطة بالقوة وإجهاض التحول الديمقراطي.

وصفت الكاتبة، في صدر مقالها، رد الفعل الأمريكي على هذه التطورات بالمحبط. وقالت إنه كان لزاماً على واشنطن أن تحتضن وتدعم القوى المناصرة للديمقراطية لأنها حققت ما عجزت هي نفسها عن تحقيقه، “ولكنها بدلاً عن ذلك خلقت جفوة بينها وبين هذه القوى بسبب موقفها الغريب الذي يبدو أقرب إلى القادة العسكريين الذين يعملون جاهدين على المحافظة على النظام القديم”. وتمضي الكاتبة إلى القول بأن هذه المفارقة البيّنة تنبع من أسلوب تعاطي واشنطن مع هذا البلد، والذي يركز على الأشخاص لا على الأنظمة- “فبعد عقود من اتباع سياسة قائمة على الضغط على البشير وحزبه، أضحت الولايات المتحدة (بعد ذهاب البشير) غير مهيأة للتعامل مع النظام السياسي الذي تركه وراءه، وغير قادرة على تخيل أي شيء مختلف”.

وتُنبّه الكاتبة إلى أن الولايات المتحدة استمرت في تبني ذات السياسة “التي تفتقر إلى الخيال” التي اتبعتها خلال حكم البشير. وتجلى خطل هذا النهج، في رأي الكاتبة، خلال عهد البشير، مثلما تجلى خلال التطورات الدرامية التي بلغت ذروتها بالانقلاب العسكري. فقد ظلت مراهنة واشنطن مركزة على شخص حمدوك، وحال ذلك دونها ورؤية حقيقة كانت واضحة كالشمس للسودانيين في الشارع وهي أن الجيش لن يسمح للمدنيين بالتحكم في مفاصل السلطة التنفيذية.

تقول الكاتبة: “لقد بدا أن الانتفاضة الشعبية التي انطلقت عام 2018 ماضية في طريقها لإحداث التغيير الذي طالما سعت له واشنطن. فقد أزيح البشير من السلطة في العام التالي وأودع السجن، وسنّت الحكومة الانتقالية قانوناً حلّت بموجبه حزب المؤتمر الوطني الحاكم، كما حلّت جهاز الأمن الذي كان يتولى التنكيل بالمعارضين وحماية أركان النظام. وعلى الرغم من ذلك فإن الجهة التي بسطت نفوذها خلال المرحلة الانتقالية كانت هي المكون العسكري، وليس التحالف العريض للقوى الديمقراطية التي شكلت الوقود للثورة ضد البشير.

ومضت إلى القول بأن الحكومة الانتقالية بنيت على شراكة “قلقة” بين مدنيين يتوقون إلى إصلاح حقيقي، والقوى المسلحة التي أطلقت يدها في استثمارات لا حد لها، معظمها بطريقة غير مشروعة، مستفيدة من الحصانة التي وفرها لها نظام البشير. وكان طبيعياً أن تشهد المرحلة الانتقالية حالة من التنازع المستمر بسبب وقوف القادة العسكريين حجر عثرة في سبيل تسليم قيادة الفترة الانتقالية للمدنيين حسب الاتفاق، كما سعوا لتعويق الجهود الرامية لاستعادة الأصول المنهوبة وإلغاء الصفقات الفاسدة. ولم يتحقق تقدم يذكر على صعيد تطوير أجهزة الدولة أو تحسين مستوى حياة المواطنين، الأمر الذي أثار غضب المعارضين فعادوا مرة أخرى إلى الشوارع مرددين مطالباتهم بالإصلاح الديمقراطي.

وقد أثبت قائد الجيش، الفريق البرهان، عدم رغبته في تقاسم السلطة حين قام بانقلاب عسكري في أكتوبر 2021 وعزل رئيس الوزراء المدني عبد الله حمدوك ووضعه رهن الاعتقال إلى جانب بقية ممثلي المدنيين في الحكومة، كما حل الحكومة الانتقالية وشكل منفرداً حكومة جديدة.

وعلى الرغم من ذلك، تقول الكاتبة، جاء رد الفعل الأمريكي “فاتراً” مما أثار استياء النشطاء السودانيين. “فقد أحجمت إدارة الرئيس بايدن عن استخدام كلمة “انقلاب” في بياناتها التي أدانت فيها استيلاء العسكر على السلطة، كما امتنعت عن فرض عقوبات على البرهان والقادة العسكريين الآخرين. وبدلاً عن ذلك ضغطت باتجاه إطلاق حمدوك من الإقامة الجبرية وإعادته إلى رئاسة الوزارة، وتشجيع العودة إلى نفس صيغة تقاسم السلطة التي أثبتت فشلها.

وفي معرض انتقادها لهذا الموقف، تضيف الكاتبة: “ظل صناع السياسة في أمريكا على مدى أسابيع يعلقون آمالهم على عودة حمدوك، كما لو أن مجرد وجوده في الحكومة يمكن أن يحقق مطالب واشنطن بشأن التحول الديمقراطي في السودان، على الرغم من أن الرجل بدا في نظر أنصار الإصلاح والديمقراطية، بلا حول ولا قوة. وبالفعل اتفق حمدوك مع البرهان في نوفمبر على العودة لمنصبه ولكن كان واضحاً أنه لن يستطيع أن يقف نداً للمكون العسكري؛ ولذا لم يستغرب أحد لاستقالته في يناير والتي وقعت برداً وسلاماً على الجنرالات فمضوا في قتل المحتجين وإعادة استيعاب سدنة النظام القديم.

وترى الكاتبة أن تلكؤ واشنطن وإحجامها عن المبادرة طوال الفترة الانتقالية وفّر لعسكر السودان الوقت والحيز الكافي لبسط نفوذهم على مفاصل السلطة التنفيذية شيئاً فشيئاً، وشجعهم في نهاية الأمر على ابتلاع السلطة بأكملها.

وتعيد الكاتبة التركيز على نقطة أثارتها في صدر مقالها، وهي أن المعضلة التي تواجهها واشنطن في التعاطي مع الشأن السوداني تتمثل، في جانب منها، في تركيزها على الأفراد بدلاً عن النظام. وتقول في هذا الصدد: “ربما حَسِبَ بعضُ صنّاع السياسة في الولايات المتحدة أن الإطاحة بالبشير هو التغيير الذي يحتاجه السودان، على الرغم من أن النظام الذي بناه البشير وأدار به البلاد ظل قائماً دون تغيير يذكر.” وتضيف: “إن مشكلة الولايات المتحدة مع السودان والتي استمرت لعدة عقود لم تكن بسبب حفنة من الأشرار يجلسون على قمة السلطة. وفي حين أن محاكمة هؤلاء على أفعالهم تصرف صحيح وعادل إلا أنه لن يقضي على الورم الخبيث القابع في قلب الدولة السودانية: وهو منظومة الفساد والمحسوبية والحصانة التي أنشأها البشير وما تزال قائمة حتى الآن”. وتصف الكاتبة هذه المنظومة بأنها “تزدري الإرادة الشعبية، وتنظر بعين الريبة للمخالفين والمعارضين، ولا تلقي بالاً للسودانيين خارج الخرطوم بل وتعاديهم، وتُظْهِر براعة فائقة في تضليل القوى الأجنبية بحيث تبدو القيادات التي على رأس السلطة بمثابة أخف الضررين.”

وتؤكد الكاتبة أن هذه المنظومة، أياً كان اسمها أو الذين يقودونها، لن تتفكك من تلقاء نفسها، ولهذا تُشدّد على أن الضغط باتجاه العودة لــ “مهزلة الحكومة الانتقالية وفق صيغة تقاسم السلطة السابقة”، هو “وصفة للفشل”، وأنه “لن يستطيع أي فرد نزيه أو مجموعة من الأفراد النزيهين إذا شاركوا في هذه المهزلة أن يستعيدوا ثقة الشعب السوداني أو يجبروا العسكر على تبني مسار الإصلاح. ولذا فإقحام أشخاص مستقيمين في نظام سيء السمعة سيؤدي فقط إلى تلطيخ سمعتهم بينما سيبقى النظام القديم كما هو يمد لسان التهكم لمناصري الديمقراطية”.

وتعود الكاتبة مجدداً لتأكيد أن إنفاق الولايات المتحدة سنوات عديدة لإحداث تغيير في قمة السلطة في السودان قد حجّم من طموحها. “ظل صناع السياسة الأمريكية زماناً طويلاً يركزون على القضاء على مشكلة، لا على بناء حل مستدام. وبقيت فكرة بناء نظام ديمقراطي في السودان قائم على حكم القانون، فكرة خيالية لا تستثير أي رغبة في ترجمتها إلى استراتيجية أو خطة عملية. وقد ثبت الآن أن هذا الموقف الأمريكي المفتقر للطموح يقف على طرفي نقيض من الآمال العريضة للشعب السوداني الذي، وقد شهد سقوط البشير، بات الآن يطالب بتغيير شامل يطال النظام بأكمله.”

على أن الولايات المتحدة، حسب رأي الكاتبة، يجب ألا تفترض أن قدر السودان المحتوم هو الوقوع في براثن الشمولية. “فهؤلاء الناشطون الشجعان ما يزالون يمثلون قوة هائلة للتغيير والتحول الديمقراطي على الرغم مما يتعرضون له من حملات القمع المفرط والتقتيل المستمرة. صحيح أن واشنطن شرعت في اتخاذ خطوات لحرمان الحكومة العسكرية من الاستفادة من إعفاءات الديون والمساعدات المالية التي تحتاجها للصرف على القواعد المناصرة لها وأنها كثفت مؤخراً من تواصلها مع المؤسسات المدنية التي تقف وراء حركة الاحتجاجات. غير أنها تحتاج لمزيد من الجهد لكي تستوعب تطلعات هذه المؤسسات وخطوطها الحمراء ولكي تدعم فرص مشاركتها في تشكيل مستقبل السودان. ينبغي أيضاً على الولايات المتحدة أن تنأى عن إضفاء الشرعية على الحوارات أو الهياكل الانتقالية التي من شأنها تمكين القادة العسكريين من إملاء الجداول الزمنية، أو التحكم في التعيينات في المناصب المدنية رفضاً أو قبولاً، أو تحديد مَنْ يُسمح له بموضع قدم في الساحة السياسية ومَنْ يحرم من ذلك.

ولكن هل تملك الولايات المتحدة نفوذاً كافياً يمكّنها من القيام وحدها بتغيير المسيرة السياسية في السودان؟ تجيب الكاتبة على هذا التساؤل بقولها: “لكي تستطيع لواشنطن احتواء العسكر بصورة فعالة لا بد لها من التأكد من أن الصين أو الدول الخليج لن تقدم لهم المساعدة. وهذا بدوره يتطلب التزاماً من أعلى هرم الحكومة الأمريكية وقناعة راسخة بإمكانية النجاح واستعداداً لتقديم تنازلات في بعض القضايا الأخرى المهمة. وفي غياب رؤية واضحة لعلاقات الولايات المتحدة مع سودان مختلف تماما – وليس فقط مع قائد سوداني مختلف- سيصعب على إدارة الرئيس بايدن حشد هذا النوع من الالتزام على الرغم من الجهود التي ظلت الولايات المتحدة تبذلها على مدى عقود لإصلاح أوضاع هذا البلد”.

*إعداد: فريق الترجمة والصحافة الدولية في مداميك
*نبذة عن الكاتب: ميشيل قيفن تشغل منصب زميل أول للدراسات الأفريقية بمجلس العلاقات الخارجية وسبق لها تولي منصب مدير أول الشؤون الأفريقية بمجلس الأمن القومي بين عامي 2009 و2011 وسفيرة الولايات المتحدة لدى بوتسوانا بين عامي 2011 و2014.
المصدر: Foreign Affairs, (DATE)

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 4

كن أول من يقيم هذا المقال