‫الرئيسية‬ ثقافة الناقد محمد جميل: التعبير عن الأحداث الكبرى شعرياً يحتاج إلى وقت (2 – 2)
ثقافة - 30 يونيو 2020, 0:09

الناقد محمد جميل: التعبير عن الأحداث الكبرى شعرياً يحتاج إلى وقت (2 – 2)

متابعة – مغيرة حربية

 

قدَّم تجمّع السودانيين بالخارج لدعم الثورة ندوة رقمية عبر صفحته على (فيس بوك)، الأحد 28 يونيو، وذلك بمناسبة (ذكرى مجزرة فض اعتصام القيادة العامة) في العاصمة والولايات. حملت الندوة عنوان: (انعكاسات المجزرة في الأدب والفنون)، قدمتها الكاتبة إشراقة مصطفى، وناقشها الكاتب والناقد الأستاذ: محمد جميل، الذي ابتدر حواره بالمقاربة بين نصي الشاعرين عباس بيضون، “ساحة بوتسدام” و”ساحة الاعتصام” للشاعر بابكر الوسيلة، وهو أحد النصوص موضوع الندوة الرقمية والتي استقرأت ثلاثة نصوص أخرى للشعراء: رانيا مامون، وعادل سعد يوسف، وعفيف إسماعيل وأسامة علي أحمد.

 

وحول قصيدة الشاعر عادل سعد يوسف “في حزيران” يقول جميل: “هي قصيدة كتبت بقصد عن مذبحة فض الاعتصام. بمعنى أنها قصيدة عن المذبحة وليس عن الساحة ذاتها كقصيدة بابكر الوسيلة؛ لكن قصيدة  عادل في تقديري هي قصيدة تقارب قصيدة “القناع” من حيث شكلها الاستعاري، ولكن لا بمعنى الإبدال الكامل الذي تقتضيه قصيدة القناع، لأن هناك ثيمة واضحة في القصيدة تسبغ معنى المشاركة الوجدانية في حزن العصافير. وقصدية “في حزيران” للشاعر عادل سعد يوسف، هي بطبيعة الحال قصيدة نثر، تتناول المذبحة بمتقابلات رمزية لها دلالة عميقة في التأويل. ذلك أن ما يحيله الشاعر إلى العصافير بافتراضه معنى ضمنياً لبراءتها ونقائها ووداعتها يتوازى مع المعاني التي أرادها الشاعر في الفرق بين الذين تعرفهم ولا تعرفهم من طرفي الحدث العظيم في المجزرة”.

 

يقرأ:

الْعَصَافِيرُ

 

فِي حُزَيْرَانَ

 

فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ مِنْ عَامِ الْمَذْبَحَة

 

قَدْ لا تَعْرِفُ الْبُكَاءَ

 

لَكِنَّهَا تَعْرِفُ الْفَرَقَ الشَّاسِعَ بَينَ الْقَاتِلِ والْمَقْتُولِ

 

بَيْنَ سُنْبُلَةٍ فِي حَقْلٍ مِنَ الحُبِّ

 

وأخْرَى

 

فِي حَقْلِ مِنَ الضَّغِينَة.

 

ويواصل: “حرص الشاعر عادل على التأريخ للمذبحة وتكراره من جل تقرير إحالة زمنية واضحة فالزمن والتوريخ في القصيدة هو الذي سيحيل على موضوع القصيدة بما يصرف الدلالة الوضعية للعصافير إلى دلالة رمزية تجسد المفارقة في طبيعة المواجهة التي فوجئ بها الثوار، كمدخل لجو القصيدة وتثبيت الحدث/المأساة”.

 

ويؤكد: “بقية القصيدة هي خطاب رمزي وتتمثل فيها العصافير انحيازاً يتواطأ مع معنى الخير والحب والحق والجمال في مقابل أضدادها، ولكي يدين الشاعر  عبر  حزن العصافير ومعرفتها، ويكثف التفاصيل بحميمية جميلة في ما تعرفه العصافير في ساحة الاعتصام  ويجمل باختصار يضمر إهمالاً وإطراحاً من الذاكرة؛ ما لا تعرفه تلك العصافير، ما يعني في النهاية مصيراً للنسيان واللعنة للمجرمين الذين ارتكبوا المذبحة:

 

الْعَصَافِيرُ

 

تَعْرِفُ الرِّجَالَ

 

وَاحِدًا

 

وَاحِدًا

 

تَعْرِفُ الْجُثَّةَ الْمُلْقَاةَ فِي النِّيْلِ

 

الصَّرْخَةَ الْوَاجِمَةَ مِنَ عَضَّةِ الْكَوَابِيسِ اللَّيْلِيَّةِ

 

الظَّهِيرَةَ الْمُرَّةَ لِقَلْبٍ يُعَلَّقُ فِي صِنَّارَةِ الْفَاجِعَةِ

 

تَعْرِفُ الْوَلَدَ الَّذِي يُشْبِهُ خَطَابَ اللهِ للْمَسِيحِ

 

(إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)

 

تَعْرِفُ البِنْتَ الَّتِي تُشْبِهُ صُورَةً عَمِيقَةً

 

فِي قَصِيدَةِ لِويسْ أرَاغُونْ

 

لَكِنَّهَا

 

لا تَعْرِفُ مُطْلَقًا

 

وإلى الأبَدِ

 

الرَّجُلَ الَّذِي يَغْــدِرُ

 

الرَّجُلَ الَّذِي يَحْنَثُ

 

الرَّجُلَ الَّذِي يَخْدَعُ

 

الرَّجُلَ الَّذِي يَمْكُرُ

 

الرَّجُلَ الَّذِي يَكْذِبُ

 

– مَاذَا بَعْدُ؟

 

الْعَصَافِيرُ

 

أبْنَاءُ اللهِ والتَّجْرِ”.

 

غمٌّ راعف

 

يقول محمد جميل: “على الرغم من أن تاريخ قصيدة عفيف اسماعيل يشير إلى أنها كُتبت بعد المذبحة بأيام، إلا أن الشاعر نجح في تجاوز فخاخ ضغوط اللحظة التعبيرية، فهو في القصيدة لا يرصد الحدث الزمني كما جرت به الوقائع؛ لكنه يتناول أثر الشهيد كنموذج لابن الحياة الطافح بحب الحياة والأمل عبر صورة فتوغرافية؛ وذلك عبر استهداف هوية واضحة للشهيد إذ يرصد أثرها على عيون الأمهات والأخوات والصديقات والآباء والإخوان والأصدقاء والمعارف يكون في الوقت ذاته قد كشف وفضح وحشية من تسبب قتل الشهيد. ومن خلال الوصف تتكبر صورة الشهيد وانعكاس أثره على جميع الشعب السوداني الذي يعبر عنه الشاعر بكلمة (نحن)”.

 

ويواصل: “إن قدرة الوصف الإيحائي لعفيف إسماعيل في هذه القصيدة تعمل في خدمة معنى واحد وتعكس في الوقت ذاته إجماعاً لهوية الشهيد الطيبة وأثرها على كل من يعرفه من خلال دوائر تنداح وتكبر عبر الحزن الذي يصفه الشاعر في بداية النص وصفاً محايداً ويصف طبيعة ذلك الحزن في كل دائرة من دائرة علاقات الشهيد (الأمهات والآباء الأخوات والإخوان الصديقات والحيران ثم المعارف):

 

بصرخات وحشرجات يمامات مذبوحة

 

من الوريد إلى الوريد

 

تبكي الأمهات والأخوات

 

والصديقات والجارات

 

وفي نهاية القصيدة يصبح الشاعر ذاته جزءاً من دائرة العلاقات ذاتها وناطقاً في الوقت ذاته باسم الشعب.

 

كل ذلك من خلال صورة الشهيد التي تدفع براءتها وحبها للحياة، كل من عرف الشهيد ومن لم يعرفه إلى البكاء وكذلك إلى صبِّ اللعنات على الطغاة وأعداء الحياة. إن علامة البكاء هي العلامة المُشتركة لجميع من عرف الشهيد، وهذه الدالة ذاتها هي التي نتعرَّف بها على ذلك الإجماع الذي بكى به الجميع الشهيد – كل على طريقته – لكن دالة إذ تحيل على صورة، تتجاوز الدلالة الفردية لمعنى الصورة أي أن تنكير الصورة هنا هو أيضاً إحالة إلى كل شهيد وليس شهيداً بعينه”.

 

ويؤكد جميل: “إن بكاء الشعب لا يشبه بكاء الآخرين، لأن صور الشهيد في ذاكرة الثورة هي تجديد دائم  لسيرة الشهداء الذين أصبح الوطن مكاناً أفضل للعيش بفضل تضحياتهم لهذا يختم عفيف قصيدته بهذه الخاتمة الدالة والمعبرة حين يصف حزن الشعب دموعاً لا تنضب أبداً لأنها هي دالة الثورة الأبدية:

 

بدموع صامتة لا تنضب وغم راعف

 

نبكي نحن الذين لم نعرف الشهيد إلا من صورة يطل منها وجهه الوضيء مبتسماً.

 

شهيد

 

وعن الشاعر أسامة علي أحمد، في قصيدته (شهيد) ذات النمط التفعيلي يقول محمد جميل إن الشاعر هنا يقارب الحدث الكبير لمأساة مذبحة الاعتصام من زاوية غيبية وفردية، ويضيف: “يبدأ الشاعر قصيدته بالتنويه على نفي قدرة القصيدة على الكمال حتى في أقصى مطالبه المجانية: الأمنيات، في تمهيد للقارئ بأن صوت المتكلم هنا هو صوت من الأبدية؛ صوت الشهيد الذي نال أكثر مما تمنى؛ حيث يتخيل الشاعر حواراً في شكل وصية للشهيد حيث يبدو الشهيد في أحسن من أي اختبار قد يعرضه للمساومة على مبادئ الثورة، عبر استعارة دينية جميلة لمعنى الخلاص الطهوري، وظفها الشاعر في الوصية لتعكس مضموناً وطنياً”.

 

فالشهيد – كما بدا لجميل في قصيدة أسامة – يبدو كما لو أنه يتذكر آخر ما رآه في الدنيا في ساحة الاعتصام، أي الغدر؛ يشدد في وصيته لرفيقه (مناضل الدنيا) على أن سعادته الأبدية في الأعالي لا ينقصها انكساره لهذا ينصحه بالوفاء والصمود قائلاً للمناضل الدنيوي:

 

“فاحفظ العهد الذي إن خنته قد خنتَ أرضك لم تَخنِّي”.

 

“الشاعر أسامة علي، أضمر فكرة الخلود للقيم والمبادئ حين تتجسَّد في الشهداء، لهذا حين يقول الشهيد لمناضل الدنيا “لم أمت”، فهو يوحي له من طرف خفي بأن المبادئ والقيم العليا لا تموت لأنها بكل بساطة هي معنى الحياة الحقة. لهذا كذلك ينصح الشهيد رفيقه الدنيوي بأن الطريق واضح جداً كي يتبعه في هذا الطريق”، يقول جميل ثم يضيف واصفاً إيقاع القصيدة: “إيقاع القصيدة السريع من خلال استخدام التفاعيل بناءً على حركات اللغة جعل من تسخينها الإيقاعي  كما لو أنه رسالة عاجلة وسريعة وواضحة”.

 

وتنتهي الوصية بتبيين أن الانكسار لن يضر الشهيد بل يضر المناضل الدنيوي لأنه قد يكون باع نفسه في سوق النخاسة إذا انكسر، فيما لشهيد باع نفسه لله، وهي مقابلة يصفها جميل بأنها جميلة من الشاعر، ختم بها المعنى الديني للشهادة والشهيد في توظيف وطني بديع عبر مقاربة ذكرى المذبحة من مكان آخر.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال