‫الرئيسية‬ ثقافة النَّار في الخَمر والْجِنسِ والْبِدَايَات
ثقافة - مقالات - 18 أغسطس 2021, 9:56

النَّار في الخَمر والْجِنسِ والْبِدَايَات

ميرغني أبشر

تسيّدت “النار” طيلة الأسبوع الماضي المشهد الإخباري اليومي ،إذ أن غالبية الدول المتشاطئة ساحل الأبيض المتوسط تشتعل غاباتها، اليونان، وإسبانيا، وتركيا، وقبرص على الساحل الأوروبي. وسوريا، ولبنان على الساحل الآسيوي. الجزائر، وتونس، وليبيا، على الساحل الأفريقي. ودمر حريق غابة في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية مدينة “غرينفيل” في ساعتين فقط، وماتزال حرائق الغابات في أستراليا والبرازيل تشتعل. فيما أظهرت صور لوكالة (ناسا) حرائق في غابات “ياقوتيا” السيبرية الروسية تتجه نحو القطب الشمالي، في حدث وصفته بأنه غير مسبوق، والسبب في كل ذلك ارتفاع في درجة حرارة الأرض بصورة تدعو للذعر، تسبب في هكذا ارتفاع (كسب يد الناس) التي لم تستمع حكوماتها لنداء الطبيعة والمنظمة الدولية التي أعلنت في تقرير علمي أن النشاط البشري يغير المناخ بطرق غير مسبوقة، وأحياناً لا رجعة فيها. فتمددت الحيتان والتماسيح ميتة على ضفاف البحور، وغطى السموات دخان أسود، وهجرت الوعول والضواري غابتها، وساد الفساد البر والبحر. ولكن هل ينتبه العالم لصوت الطبيعة، ويهجر الوقود الأحفوري، ويلوذ بالطاقة المتجددة حتى لا تذوب أقطاب الأرض الجليدية، وتختفي بعض الدول عن خارطة العالم كما صرحت المنظمة الدولية بذلك؟!

صديقي القارئ، ما كان هذا المدخل الذي قرأته غير خاطرة فرضت ذاتها لانشغال منصات الإعلام بها. أما موضوعنا الأساسي فهو عن أثر حروق على أهداب وأطراف الحواس الناعمة لرجل حرفي يكاد يتوطن شارع بيتنا، ما وجد لها صاحبنا من تفسير. فقد سألني ذات يوم أثناء إصلاحه عطباً في جهازٍ كهربي لنا، عن هذا الذي حلّ بنواعم حواسه. وهي عندي حروق نار واضحة، ولكنها وفق خطوط دقيقة لا يمكن “لنار” طبيعية أن ترسمها على جلده بهكذا مهارة، حتى اهتاجت دواخلي نهار أمس على نحو صيحة أرخميدس: “وجدتها .. وجدتها .. وجدتها”، وأنا ألتهم سطور الفرنسي “جاستون باشلار” من مسطوره الوجيز الماتع “التحليل النفسي للنار”. والذي أكرمتني في سعره الوراقة والشاعرة الجميلة “إيماض بدوي”، من عند معرض للكتاب مقام في مركز أمدرمان الثقافي بمناسبة اليوم العالمي للشباب. كتب “باشلار”: “نقرأ في وقائع كوبنهاجن، أنه قد عثر عام 1692 على امرأة من الشعب كان غذاؤها يكاد يقتصر فقط على تناول مشروبات روحية بشكل مبالغ فيه، عثر عليها ذات صباح وقد أوتى عليها تماماً باستثناء المفاصل الأخيرة للأصابع والجمجمة”، (ذكر Annual Register السجل السنوي اللندني الخاص لعام 1763 الجزء الثامن عشر، ص 78 مثال امرأة تبلغ من العمر خمسين عاماً، مدمنة بشدة، وكانت تشرب كل يوم طوال عام ونصف، عثر عليها وقد تحولت كلها تقريباً إلى رماد، ملقاة بين مدفأتها وفراشها”. ونجد في الموسوعة المنهجية مقال: (التشريح الباثولوجي للإنسان): “قصة امرأة قارب عمرها نحو الخمسين عاماً، كانت تتناول بكثرة مشروبات روحية، وقد أتى عليها هي كذلك في بحر ساعات قليلة. وتقدم مذكرات الجمعية الملكية اللندنية ظاهرة ملفتة أيضاً … عثر ذات صباح على امرأة تبلغ الستين عاماً وقد تحولت لرماد، بعد أن أفرطت في تناول مشروبات روحية فيما يقال، في مساء اليوم السابق. لم يتأثر الأثاث كثيراً وكانت نار موقد مدفأتها منطفئة تماماً، وقد أكد الحدث بعض من شهود العيان”.

ويحكي “جان هنري” في كتاب مطبوع في أمستردام بعنوان (ضوء جديد على اشتعال الفسفور)، أن نبيلاً من زمن الملكة “بونا سفورزا” تقيأ بعد أن شرب كمية كبيرة من الخمر لهباً التهمه). وبهذه الأسطر التي قرأت صرخت دواخلي: “وجدتها”، فصاحبنا الكهربجي الحذق والدارس للفنون الجميلة وهندسة الكهرباء في جامعات بغداد الرشيدية، مدمن كحولي للدرجة التي لا تستطيع أن تنظر له مرتين لرَّثْية حاله و(بشتنته) حد إشاحة العين عنه حتى لا ترتد إليك متقيأة حزينة، واجتهدت صباح نهار حتى أرده لشمس الفنون وأميت فيه شهوة الإدمان. فقد فاجأني الرجل أنه قد قرأ “السرانية” و”الكوشي التائه” فأهديته من نفسي كتابي الثالث “موت وثن” عسى أن يجد سطراً أو بعض عبارة تحرره من سجن “باخوس”.وتنقذه من فاجعة الإحتراق الذاتي بسبب الكحول. يقول القس “بونسليه”: “.. ألم تر مدمنين، يشتعلون ناراً فجأة تلقائياً ويقضى عليهم بواسطة الاحتراق الذاتي ،لكون أجسامهم قد تشبعت بشكل مبالغ فيه للغاية لاعتيادهم تناول المشروبات القوية بكثرة. وهكذا، فإن الحريق بسبب إدمان الخمر ليس إلا حالة خاصة من التركيز الحراري غير الطبيعي”.

أما عن كتاب “جاستون باشلار” المعنون (التحليل النفسي للنار)، والذي استعصم فيه بمبدأ التحليل الفرويدي عن ماهية النار ومنبع دفقها؟ بسبب عجز المنهج العلمي التجريبي، والتفسيرات الموضوعية بحسب زَعْمه عن تقديم تفسير مقبول للواعية عن ماهية النار. وتبدو له هذه المسألة بشكل مباشر مسألة سيكولوجية، بحيث إنه لا يتردد في الحديث عنها وفقاً لأطروحات التحليل النفسي. يقول: “فقد أوضح الطب النفسي الحديث نفسية مشعل الحرائق، وأثبت الطابع الجنسي لميوله. ومن أوضح الأحلام وأكثرها تحديداً الاحلام التي تتخللها النار وتفسيرها الجنسي هو الأكثر يقيناً”. وبعد أن يقدم “باشلار” مشاهد من الحياة اليومية المتصلة بالنار يؤكد من خلالها تفسيراً مسرفاً للحدس الحيوي المصطبغ بالطابع الجنسي للنار، ينتهي إلى أن تقتية النار أو بالأحرى فلسفتها في الخيمياء تتحكم فيها تحديدات جنسية واضحة للغاية، كما تنطوي النار على المقدس والمدنس وهي تجمع بين المادة والروح، كما هي بداخلنا وخارجنا.

وعند هذه النقطة أكون قد قدمت لك ملخصاً لإطروحة “باشلار” في سايكولوجيا النار، ولكن الذي لفت فاكرتي كمهتم بالبشريات الأولى، وعلم الآثار رفض “باشلار” لنظريات علم الآثار التي تتناول اكتشاف النار، بوصفها أطروحات وتفسيرات تبدو موضوعية ولكنها لا يمكن أن تتناسب والإمكانيات السيكولوجية للإنسان البدائي، وتعجز عند اختبارها على محك استفهامته الأولية والتي يطلقها على هذا النحو: “لو وافقنا على أن المتاح له -الإنسان البدائي- كان بركاناً ثائراً، أو غابة أشعلتها الصاعقة، هل كان سيجري فوراً نحو النار ليتدفأ بها، وهو الذي اكتسب خشونة في عريه تحميه من تقلبات الفصول؟ ألم يكن الأقرب له أن يهرب منها؟ وحتى لو كان الإنسان البدائي قد جرب الآثار الطيبة للنار التي تقدمها له الطبيعة، كيف كان سيحافظ عليها؟ كيف كان سيعرف كيف يشعلها مرة أخرى بعد أن تكون قد انطفأت؟ ولو كانت قطعتا خشب جاف قد وقعتا بين يدي إنسان وحشي للمرة الأولى، فأي تجربة سابقة كانت سترشده إلى تخمين أنهما يمكنهما الأشتعال بفضل احتكاك سريع ومتصل طويلا بيهما؟”. ومن خلال هذه الاستفهامات ينتهي “باشلار” على أن التفسير العقلي والموضوعي ضعيف القبول، من حيث قدرته على تفسير اكتشاف النار من قبل عقلية بدائية على النحو الذي ذهبت إليه نظريات علم الآثار. ليبرهن أن التفسير النفسي هو الصحيح بالضرورة والمستند بالأساس على أطروحة الاحتكاك الجنسي المولد للحرارة. ومن ثْم قام البدائي بإعادة تطبيقه على الطبيعة مولداً بذلك النار.

إن تفسير “باشلار” هذا الذي تقدم لا يقل عن موضوعيات نظريات علماء الآثار مجازفة، إذا لم يكن الأكثر مغامرة. ولن أذهب في تفنيده طويلاً لضيق المساحة، بل أسارع للدمج بين أطروحتي مشاهدة الطبيعة وخبرة الصيد اليومية للإنسان البدائي في محاولته لإنتاج النار، فبعد مشاهدته اتقاد النار في الغابات بسبب الاشتعال الطبيعي: الصواعق، أو احتكاك أفرع الأشجار على سبيل المثال، وهذا الأخير يفترض “باشلار” انعدام فرصة تتبع خطواته وملاحظتها عند الإنسان البدائي وأوافقه في ذلك. أقول: دمج الإنسان الوحشي لهذه المعرفة ملاحظته لتطايُر الشرر من تحت حوافر طرائده أثناء عملية الصيد، كما لاحظ تحقق ذلك الشرر أيضاً في ليالي ركضه وراء الفرائس حين تتصادم الصخيرات تحت أقدامه. ومن هنا فحسب عرف البدائي كيفية حصوله على النار وطرق المحافظة عليها مشتعلة. وهو التفسير الأكثر معقولية بزعمنا من أطروحة “باشلار” الموضوعية لإشعال النار بواسطة الاحتكاك الذي توحي به تجارب وخبرات حميمية للغاية. لا يمكن أن تنتبه لها الفاكرة البدائية للإنسان المتوحش.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال