‫الرئيسية‬ مقالات الانتقال الديموقراطي (9)
مقالات - 12 أبريل 2021, 11:00

الانتقال الديموقراطي (9)

بولندا.. التحرر من الاستبداد الشيوعي

كانت الإشارة (غير المحتشمة) التي قام بها الرياضي البولندي فلاديسلاو كوزاكوفيتش Władysław Kozakiewicz بعد تغلبه على غريمه من الاتحاد السوفيتي كونستانيتن فولكوف في نهائيات مسابقات القفز بالزانة خلال الومبياد موسكو عام ١٩٨٠م، محققاً رقماً قياسياً عالمياً جديداً حينها (578 سم) و ميدالية ذهبية، وذلك بتوجيه ذراعه بصورة موحية إلى عشرات الآلاف من الجماهير الروسية العدائية جداً تجاهه في الاستاد، معنى سياسياً عميقاً أوجز في إشارة بذيئة واحدة قدرة الشعب البولندي الشجاع على تحدي الاستبداد والاستعمار والظلم وتطلعه الدائم نحو الحرية، كما عكس قوة المعارضة وتضعضع النظام الاوتوقراطي الشيوعي الحاكم في بولندا، الذي اضطر في نفس العام الجلوس إلى طاولة المفاوضات وتوقيع معاهدة غدانسك التي تضمنت تنازلات كبيرة من طرف الحكومة مع ليخ فاليسا زعيم نقابة التضامن العمالية Solidarność غير المعترف بها رسمياً.
يمثل تاريخ بولندا تاريخ بلاد ظلت تظهر وتختفي من الخارطة بصورة متكررة نتيجة لتعرضها المستمر للضغط من قبل جيرانها الأقوياء، بدءاً ببروسيا (ألمانيا اليوم) والإمبراطورية الروسية وليس انتهاء بالإمبراطورية النمساوية والمملكة السويدية، وفرنسا نابوليون وغيرها، وظلت شعوبها تحت طائلة قمع وعنف المستعمر وبطشه، حيث قضى مئات الآلاف في جرائم إبادة ارتكبتها الأنظمة المستعمِرة اللاحقة، النازي الألماني والستاليني السوفيتي.
العديد من المؤرخين يرجحون تأريخ بداية تاسيس الدولة البُولندِيَّة إلى 966م، علي يد مييزكو الأول Meiszko الذي نجح في توحيد أمارات سلافية/كازاكية متعددة تحت سلطته، ولمقاومة المد البروتيستانتي/البروسي القوي من الغرب والعداء الأورثوزكسي التليد من الشرق تبنت المملكة التي يرجع تاريخ تأسيسها الرسمي الي عام 1025م الدين المسيحي الكاثوليكي لتصبح البلاد وحتي يومنا هذا من أكثر البلاد الأوروبية تديناً وارتباطاً بالكرسي البابوي في روما. تمثل فترة الاتحاد البولندي الليتواني الذي دشن عام 1569م بضم دوقية ليتوانيا الكبري تحت التاج البولندي العصر الذهبي لهذه البلاد دون منازع، والتي امتدت حدودها من بحر البلطيق إلى البحر الأسود، وأنتجت هذه القوة السياسية والاقتصادية نشاطاً ثقافياً أسهم بأدوار متعددة في خروج الإنسان المعاصر من ظلام القرون الوسطى إلى عصر الأنوار ربما أهمها كان رفد التراث الإنساني بما عرف بالثورة الكوبرنكية المتمثلة في اكتشافات العالم العبقري نيكولاي كوبيرنيكوس لملامح النظام الكوني متحدياً العقائد الدوغمائية وواضعاً هذا الكائن المغرور أمام حقيقة أن الكرة الأرضية ليست إلا كوكباً صغيراً ضمن آخر تدور حول الشمس وأن اعتقاده بمكرزيته في الوجود وبالتالي كوكبه أيضاً ما هي إلا محض أوهام فرضها وعي ذاتي متضخم ومنقوص في آن.
من العام 1772م إلى العام 1795م اختفت المملكة البولندية من الوجود تماماً وخضعت للتقسيم بين بروسيا والإمبراطورية الروسية والنمسا، ثم عاودت الظهور مرة أخرى على الخارطة بعد ما يزيد عن المائة والعشرين عاماً، عقب نهاية الحرب العالمية الأولى وتوقيع معاهدة فرساي عام 1918م باسم الجمهورية البولندية. اختفت الجمهورية البولندية من الوجود مرة أخرى عام 1939م بعد تقسيمها بين المانيا النازية والاتحاد السوفيتي بناء على ميثاق مولتوف ريبنتروف بين هتلر وستالين، لتعاود الظهور مرة أخرى عام 1945م كدولة منقوصة السيادة وتابعة للاتحاد السوفيتي ومحكومة منذ 1948م بالحزب الشيوعي (حزب العمال البولنديون المتحدون PZPR) الذي كان يُعدُّ أحد فروع الحزب الشيوعي السوفيتي الأم ليتم تعديل الدستور مجدداً عام 1952م لكنها ظلت رغم ذلك جمهورية اسمية فقط بسيادة منقوصة تدور في فلك الكتلة السوفيتية وتحت حكم القبضة الحديدية لعين الحزب الواحد. غير أن هذه الحكومات والتي عرفت باستبداديتها المطلقة كما في كل النظم الشيوعية المماثلة جوبهت بمقاومة كبيرة من البولنديين منذ البداية، بلغت ذروتها في الثمانينيات من القرن الماضي. ففي العام 1980م اتسع نطاق المطالب العمالية والإضرابات الطلابية في مواجهة سلطة الحزب الحاكم، لدرجة دفعت بعض أعضائه إلى تغيير ولائهم والانضمام إلى نقابات التضامن، والمطالبة بتسجيل نقابات خاصة بهم تنوعت من نقابات رجال الشرطة والجهاز القضائي واتحادات الطلاب والكتاب، تطالب جميعها بمزيد من الإصلاحات. مما دفع اللجنة المركزية لـ “الحزب” إلى تحميل الأمين العام إدوارد غيريك مسؤولية الأزمة السياسية في البلاد وتقديمه ككبش فداء وإقصائه عن منصبه واستبداله بتانيسلاف كانيا. وكانت بداية الأحداث متزامنة مع الزيادات في الأسعار التي أعلنتها الحكومة لمقابلة العجز المتصاعد في الموازنة، ذلك مقروناً مع تزايد قوة المعارضة مما أدى إلى انفجار الاحتجاجات في البلاد لتمتد إلى سائر مدن ساحل البلطيق، ثم سيليزيا ومدن فروكلاف وأورسوس ووارسو، ولتنتهي باتفاقية غدانسك المذكورة آنفاً في 31 أغسطس 1980م، التي أعلن بعدها بأيام عن استقالة غيريك. في ديسمبر ١٩٨١م ورداً على ذلك وللسيطرة على نشاط المعارضة المتعاظم بزعامة ليخ فاليسا أعلنت الحكومة فرض الأحكام العرفية، وتعليق اتحاد العمال، واعتقال العديد من أهم قيادات المعارضة، وحظراً كلياً لنشاط حركة تضامن. غير أن تلك الإجراءات الحكومية لم تفلح في الحد من تدهور الأوضاع، وازدياد وتيرة الإضرابات.  ففي ١٩٨٨م، أجبرت الاحتجاجات التي توسعت إلى كل رقعة بالبلاد الحكومة على فتح حوار مع المعارضة بوساطة كنسية، وأرغمت مقاومة نقابة تضامن العمالية السلطات الشيوعية على الموافقة في يونيو 1989م على إقامة انتخابات برلمانية وإن كانت غير مثالية كونها شبه ديمقراطية. لكن في المقابل فإن هذه الانتخابات أتاحت للمعارضة فرصة التنافس على ثلث مقاعد مجلس النواب ومئة مقعد في مجلس الأعيان. ويعني ذلك أن ثلثي مقاعد مجلس النواب سيبقيا في قبضة الشيوعيين والأحزاب التابعة لهم على أي حال وخارج العملية الانتخابية.  وعلى الرغم من أن الانتخابات كانت إجراءً روتينيًا هدف إلى إرغام الجميع على الاقتراع؛ أي الاقتراع للشيوعيين والأحزاب التابعة، إلا أنها حققت نتائج غير متوقعة،  فقد كانت المفاجأة الكبرى هي الفوز الكاسح لجبهة تضامن و حصلت علي ما نسبته ٩٩ % من مقاعد مجلس الشيوخ إضافة إلى اكتساح كل المقاعد المخصصة لها في مجلس النواب.في الجهة الأخرى فقد فشل الشيوعيون في الحصول على نسبة الـ  50% من الأصوات الضرورية، ما عنى أن الحكومة كانت تحتاج إلى موافقة تضامن لإجراء جولة أخرى لم تكن الغالبية فيها مطلوبة. ووافق قادة تضامن على الجولة الثانية، ووافقوا كذلك على إبقاء الرئيس ياروزلسكي ممثلا للحزب الحاكم في منصبه أيضاً، ملتزمين ببنود اتفاقية المائدة المستديرة. ولكن ضخامة الخسارة التي مني بها الشيوعيون في الانتخابات تسببت بانشقاق كيانات سياسية تابعة عنه كاتحاد الفلاحين كما عززت الأحداث الخارجية الكبيرة كسقوط جدار برلين وانفصال عديد الدول عن الاتحاد السوفيتي من موقف “تضامن” ما مكنها من تكوين كتلة حرجة داخل البرلمان وبالتالي النجاح في تكوين أول حكومة غير شيوعية منذ أربعة وأربعين سنة مضت.
جرت خمسة انتخابات وطنية وتغير أربعة رؤساء منذ الانهيار في عام 1989م وإلى اليوم تخللتها أحداث جسام أهمها إجازة الدستور الدائم عام 1997م وانضمام البلاد إلى الاتحاد الأوروربي وحلف الناتو وفصل الاقتصاد عن مؤسسات الدولة ودخولها في السوق العالمية من جديد، ورغماً عن التغييرات الدراماتيكية خلال هذه السنوات التي كانت انعكاساً طبيعياً للتغيُّرات الاقتصادية،  الاجتماعية والسياسية وتغيير التحالفات ورجوع الشويعيون كمنافس أساسي في الساحة تحت راية اشتراكية أقل عقائدية ومتحالفة مع أحزاب أخرى إلا أن البلاد وصلت ومنذ عام 2007م إلى نظام حكم ديموقراطي مستقر يتسيده حزبان رئيسيان يتبادلان سلمياً حكم دولة ذات مؤسسات قوية وناجحة.
وعلى خلاف المقالات السابقة وقبل أن أورد مقتطفاً من الحوار الذي أجراه محررو كتاب (تجارب التحول الي الديموقراطية) سأورد باختصار شديد سيرة إحدى الشخصيات الأساسية التي أجري معها الحوار والتي رغم انتمائها للنظام السابق فقد لعبت دوراً محورياً في عملية التحول الديموقراطي، ليس هذا فحسب، بل لعبت دوراً في دعم التحول في دول مجاورة أخرى كاوكرانيا إبان الثورة البرتقالية مثلاً. وهي سيرة الرئيس الكسندر كفاشينيفسكي، رئيس بولندا 1995م إلى 2005م، لأنها تعكس إلى حد كبير مدى تعقيدات التحول التي حدثت في هذه البلاد الجميلة. فهو أحد كوادر الحزب الحاكم البائد، بدأ مسيرته قائداً طلابياً في غدانسك وصعد السلم القيادي حتى تولى منصب وزير الشباب في آخر حكومة شيوعية كما كان مشاركاً في مائدة المفاوضات المستديرة مع المعارضة ممثلاً للحكومة. ولاحقاً وبعد سقوط النظام قاد ائتلافاً سياسياً ضم المعتدلين من الشيوعيين وأحزاب يسارية وديموقراطية/اجتماعية أخرى مكنه من تحقيق فوز سياسي كبير وتولى الرئاسة لدورتين، لكن الأهم من ذلك وعبر تركيزه على رفع الكفاءة الإدارية للدولة تمكن من ردم الهوة بين اليسار واليمين وفك الاقتصاد عن سيطرة الدولة وإدماج بولندا أوروبياً ودولياً.
بقول في معرض الحوار رداً على سؤاله عن الفرق بين التحول الديموقراطي والديموقراطية الكاملة:
“التحول إلى الديموقراطية يعني أننا نقتصر على نيل ديموقراطية جزئية فقط، وهو أمر قريب من الديموقراطية لكنه ليس كذلك بعد. كان لدينا في بولندا نظام يحمل صفة ديموقراطي: (ديموقراطي اشتراكي)، وجري تداول طرفة مشهورة جداً آنذاك: (ما الفرق بين الديمقراطي والديموقراطي الاشتراكي؟ هو نفس الفرق بين الكرسي والكرسي الكهربائي “أي الذي يستخدم في تنفيذ الإعدامات”)،  فكلمة واحدة تغير جوهر الفكرة. وكان هذا تحدي (تضامن) الرئيس للنظام عامي 1980 و1981م، لأن صعود جيل جديد، جيل أفضل تعليماً، وكذلك الشعب في المدن الكبري، بل حتي الطبقة العاملة كان يعني أن المناضلين ضد الحزب الشيوعي ليسوا مثقفين، فهم ليسوا أساتذة في الجامعات أو منشقين. أبداً،  كان المناضلون الرئيسيون ضد الحزب الشيوعي وبرنامجه هم العمال، وهو ما قوض ادعاءات الحزب الشيوعي بأنه الحزب الذي يضع الطبقة العاملة في جوهر كل ما يمثله”.
… يتبع

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال