‫الرئيسية‬ مقالات الانتقال الديموقراطي التشيلي .. هبوط ناعم مرة أخرى (4)
مقالات - 14 مارس 2021, 11:00

الانتقال الديموقراطي التشيلي .. هبوط ناعم مرة أخرى (4)

مهدي رابح

سيتكشف للمهتمين بقضية الانتقال الديموقراطي، والذين يتابعون سلسلة المقالات هذه، والهادفة إلى قراءة موجزة لكتاب (تجارب التحول إلى الديموقراطية) من منظور واقعنا السياسي السوداني اليوم، أو الأكثر حظاً، الذين سيتمكنون من الاطلاع عليه مباشرة -أي الكتاب- غالب تجارب الانتقال الديموقراطي الناجحة التسعة التي يحويها بين دفتيه؛ يمكن أن نطلق عليها ذلك المصطلح السياسي سيئ الطالع “الهبوط الناعم” ، ذلك أنه تنطبق عليها معايير مشتركة عديدة مثل التدرج البطيء في إنفاذ العمليات اللازمة المختلفة، والتسويات بين الأطراف المعنية، والطبيعة التصالحية للعدالة الانتقالية، والانتقال الاقتصادي الهادف لخلق توازن بين النمو وتحقيق درجة من العدالة الاجتماعية، وعمل السلطة السياسية المدنية الممرحل المتأني، لكن العنيد لإخضاع المنظومة العسكرية والأمنية رويداً لسيطرتها الكاملة … إلخ.

لكن الذي قد يميز التجربة التشيلية عن مثيلاتها، بجانب نجاحها الباهر، رغم كونها الأكثر صعوبةً وتعقيداً، هو الطريق الطويل الذي قطعه المجتمع التشيلي بصفة عامة، والنخبة السياسية بصفة خاصة، للخروج من حالة الاستقطاب الحاد، والتشظي العميق الذي بلغته خلال فترة حكم الرئيس اليساري، سلفادور اليندي، وما تبعه من حكم الجنرال بينوشيه، اليميني العسكري العضوض، لتتمكن من تجسير المسافات التي تفصل غرماء الأمس، وبناء اصطفاف وطني ديموقراطي قاده تحالف سياسي متماسك مبني على رؤى متجانسة، استدام لما يزيد عن العشرين عاماً، أنجز خلالها تقدماً جعل التشيلي تتصدر اليوم كل دول أميركا الجنوبية/اللاتينية في مؤشرات التنمية البشرية، والنمو الاقتصادي، والحريات، وحقوق الإنسان، وانخفاض معدل التضخم والفقر، وبقية المؤشرات الأخرى التي تدل على أنها تسير على خطى تحقيق دورها الكامل في توفير الحياة الكريمة لمواطنيها البالغ عددهم (19) مليون نسمة، تزيد أو تنقص قليلاً.

اتسمت البيئة السياسة حتى عام 1970م بالحيوية والتناغم في إطار نظام ديموقراطي مستقر، وجيش ظل على الدوام تحت سيطرة السلطة المدنية، ومشهد سياسي يتوزع على ثلاثة توجهات لأحزاب جيدة البناء مكتملة الهياكل، مثل فيها الحزبان الماركسيان اللينينيان يساره، وكان الحزب الشيوعي الموالي للاتحاد السوفيتي أكبرهما، وأحد أكبر الأحزاب الشيوعية في العالم الغربي. بينما هيمن على الوسط الحزب الديموقراطي المسيحي الذي كان أقرب لليسار من أنداده في أوروبا، ومثلت اليمين أحزاب أخرى أبرزها الحزب الوطني. كان لا بد للاستقطاب الحاد بين القطبين الدوليين والتدخلات الآثمة لأجهزة مخابراتهما سيئة الصيت (السي اي ايه) و(الكي جي بي) CIA & KGB إبان الحرب الباردة، أن تصل آثاره عاجلاً أم آجلاً إلى هذا البلد الناجح والمستقر حتى ذلك الحين. لكن تبقى المسؤولية عن التشظي في الصف الوطني، وبالتالي فتح الباب واسعاً أمام الانقلاب العسكري بالأساس هو مسؤولية النخبة التي تبنت رؤى دوغمائية أحادية، أدت إلى شيطنة المختلف سياسياً وفكرياً، واستخدمت أساليب غير قويمة لفرض تلك الرؤى، متجاهلة أهم أدوات العملية السياسية في أي منظومة تعددية، والمتمثلة في الشفافية والحوار والاستعداد للوصول إلى حلول توافقية، وهو ما نعاني منه اليوم في مشهدنا الحالي بدرجة أو بأخرى.

فاز الرئيس سلفادور اليندي بـ (36%) من الأصوات في انتخابات عام 1970م متزعماً حزب حركة الوحدة الشعبية اليساري، الذي كان يمثل أقلية في مجلسي النواب والشيوخ، وبدأ مسيرته بتوافق تام حول ضرورة تأميم مناجم النحاس التي تعتبر مصدر الثروة الرئيس للتشيلي في ذلك الوقت، انعكس تأييداً من الأغلبية في المستوى التشريعي للسلطة، لكن انحسر ذلك التأييد لاحقاً عندما حاول تمرير سياسات لتأميم قطاعات أوسع تتماشى مع رؤية الاشتراكية العلمية الأحادية الهادفة لتحقيق ديكتاتورية البروليتاريا، كما نصت عليه الأدبيات الماركسية اللينينية، فاتخذ بدلاً من الطريق الشاق في بناء التوافق عبر الحوار والتسويات طريقاً سهلاً تمثل في الالتفاف على السلطة التشريعية في عمليات، أبرزها كان تأميم البنوك عبر شراء الدولة لغالب أسهمها من السوق المعني مباشرة، وعلى الشركات الاحتكارية الكبرى باستغلال قانون قديم منسي وذي طابع فني/تقني فضفاض، يعطي الدولة الحق في السيطرة عليها في حال اعترى أداءها تراجع وجمود قد يؤثر سلباً على استقرار الاقتصاد الكلي، وبالتالي الصالح العام.

هذه الخطوات السياساتية/السياسية غيرالموفقة مقرونة بخطاب المزايدة الأيديولوجي الحاد من الجانبين؛ أدى إلى توسيع التمزق السياسي، ونقله عميقاً إلى كل النسيج الاجتماعي تقريباً، مما مهد لانقلاب سبتمبر 1973م، ولترحيب شرائح واسعة من الشعب التشيلي به، معززاً نجاحه. اتسم الانقلاب العسكري لبينوشيه ومجلسه العسكري المكون من ثلاثة جنرالات آخرين (JUNTA) بعنف بالغ، وكلفة إنسانية عالية جداً، وهو عين العنف الذي وسم فترة حكمه التي امتدت لـ (17) عاماً، والتي اشتهرت بقوافل الموت، وبإلقاء المعارضين من على الطوافات العسكرية إلى عرض البحر، وبالتعذيب، والاختفاء القسري، والاعتقالات التعسفية لعشرات آلاف المدنيين.

كان للعنف البالغ للنظام أثره في انقسام المعارضة خلال سنواته الأولى،  واستهلكت الأخيرة طاقاتها في تبادل اللوم بين أنصار الحزب الديموقراطي المسيحي الذي بارك الانقلاب في شهوره الأولى، والذين أصبحوا يمثلون الثقل الأكبر في معارضة الداخل، وأنصار الأحزاب اليسارية الذين أجبرهم قمع النظام الموجه بالدرجة الأولى ضدهم للهجرة إلى المنافي القصية. ساهمت عدة عوامل في تحسن أداء المعارضة بعد عام 1980م، إذ توقف الجدال حول المسؤولية في انهيار الديموقراطية، واعترفت الأحزاب بأخطائها، ولعب النشاط الفكري للمثقفين، رغم قمع جهاز الاستخبارات سيئ السمعة الـ (DINA) دوراً كبيراً في وضع بذرة التوافق والاصطفاف للنضال في سبيل تحقيق رؤى موحدة لإسقاط النظام، واستعادة ما أهدر من حقوق وكرامة الإنسان التشيلي.

مثل الاستفتاء على الدستور الجديد في ذلك العام نقطة تحول في بناء التحالف الديموقراطي الذي ضم أحزاباً مختلفة، تدور في فلك الحزب الديموقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي، بينما استمرت الأحزاب في أقصى اليمين في دعم النظام، وتبنى أقصى اليسار ممثلاً في الحزب الشيوعي مقاربة راديكالية، ترفض أي تعامل مع النظام الحاكم وقوانينه ودستوره، وتمترست خلف مبدأ شرعية أشكال النضال كافة بما فيها العنيفة. واصل التحالف العمل على توحيد الصفوف وتكثيف الضغط على النظام، بانتهاج أشكال متعددة من الاحتجاج السلمي خلال السنوات اللاحقة، كان أشهرها الضرب على الأواني والقدور عند الغسق في سانتياجو والمدن الكبيرة الأخرى، محدثة هديراً يصم الآذان، لكن كانت العقبة الكبيرة تتمثل في انتهاج اليسار المتطرف أساليب عنيفة، تدرجت بين التخريب وتهريب الأسلحة، وأخيراً محاولة اغتيال الديكتاتور الفاشلة عام 1986م، مهدية النظام فرصة ذهبية ومبرراً لتشديد قبضته الحديدية، والتنكيل بكل من يعارضه دون هوادة.

وصل الوضع عام 1987م إلى نوع من التوازن الكارثي بين معارضة قوية تملك سلطة حشد الشارع ونظام عسكري يسيطر على الدولة والجيش، ويحظى بدعم النخبة الاقتصادية والشركات. وكان استفتاء عام 1988م على الدستور الجديد الذي يشرعن لاستمرار النظام في السلطة لـ (8) سنوات أخرى فرصة للمعارضة اغتنمتها قياداتها الحكيمة الماهرة، والتي قررت أن تلعب اللعبة بقوانين فرضت عليها غير مبالية بحملة التخوين التي انخرط فيها اليسار المتطرف بكل ما يملك تحت شعار (Inscription Trahision) (بمعنى التسجيل في قوائم التصويت للاستفتاء خيانة).  وكانت حملة (لا) التي قادتها المعارضة المعتدلة “الهبوط الناعم” مثالاً للنجاح الكامل في هزيمة الديكتاتورية وحشد الجماهير حول هدف وطني موحد، محققة فوزاً ساحقاً بلغ (56%) من الأصوات. واجهت المعارضة رغم الفوز العريض عقبات عدة في طريق التحول الديموقراطي، أبرزها كان حصول النظام على (44%) من الأصوات، ووجود إطار مؤسسي قانوني ضيق، سمح للديكتاتور بالاستمرار قائداً للجيش لـ (8) سنوات أخرى، ولاستمرار جيوب للنظام في مستويات السلطات كافة، وبما أن المجال هنا لا يتسع لتغطية تفاصيل هذه العملية الشاقة الطويلة، سأكتفي بالقول إن وحدة صف القوى الديموقراطية ومهارة قادتها وحكمتهم؛ سمحت بالوصول إلى نجاحات في كل الملفات تقريباً، ابتداء بسيطرة السلطة السياسية المدنية على: الجيش، والتحول الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، وتوفير الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واحترام حقوق الإنسان، وتحقيق أعلى معايير الشفافية والحوكمة، والأهم من ذلك تحقيق العدالة، كل ذلك في إطار من الواقعية السياسية التي عبرت عنها الجملة الشهيرة للرئيس باتريسيو ايلوين 1990م-1994م: “أقصى ما يمكن تحقيقه بقدر الإمكان”.

نختم المقال بجزئية مهمة من الحوار مع الرئيس ريكاردو لاغوس 2000م-2006م، رداً على سؤال المحررين حول ما هي النقاط الرئيسية لتحقيق التحول من الديكتاتورية إلى الديموقراطية، والتي توضح المبادئ الأساسية التي يجب فهمها وتذكرها:
“أولاً، عند بدء الانتقال يجب أن تفهم أن نقطة البداية هي أن الناس يخشون من العودة إلى الديكتاتورية والقمع. ثانياً، يجب عليك أن تبني أوسع تحالف ممكن، لأنك في حاجة إلى استجماع قواك لخلق قطيعة مع الماضي. ثالثاً، لا تنسى أبداً أنه في الأوساط الأكاديمية فقط يمكن للمرء فعل وقول ما يريد. في السياسة، أنت تفعل ما تستطيع، لكن عليك أن تفعل ذلك بشغف وقوة، لكي يؤمن الناس حقاً بما تدعو إليه. عندما يصبح نداؤك ليس أكثر من ديماغوجية ونفعية، سوف يستشعر الناس ذلك، وسوف تفقد الدعم”.
… يتبع

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال