
أستاذ فلسفة: ثورة ديسمبر المجيدة لا تُعرَّف إلا بفرادتها التاريخية وسياقها الخاص (1-2)
حاوره: مغيرة حسين حربية
يُحاوِل أستاذ الفلسفة بجامعة النيلين، الدكتور فتح الرحمن التوم، هنا، في هذا الحوار، مع (مداميك)، الكشف عن البعد الرؤيوي والمعرفي لثورة ديسمبر المجيدة. توجَّهتُ إليه مُباشرةً بالسؤال عن جمالية الثورة السودانية لحدٍّ يمكن وصفها بالشعرية، فكيف يراها دكتور فتح الرحمن التوم.
قال وهو يزيح التباس السؤال: “الثورة لا تكون ثورة مُكتملة الأركان إذا لم يكن لديها خطابها الجمالي الخاص، الذي يتجلَّى في الفن والأدب عامة. لهذا نجد أن الرسم والتلوين والشعر والموسيقى والإيقاع، جماليات ظهرت مبكراً في الثورة؛ وذلك لأن بنية الفعل الجمالي الثوري في هذه الأنشطة تقبل أن تَدمج الرسم والتلوين والموسيقى والإيقاع مباشرة في الفعل الثوري الحركي-البصري-السمعي؛ إذ يمكن حمل المادة الجمالية نفسها والسير بها في المواكب، طالما هي مُنجَزةٌ في نموذج مُصغَّر في قماش أو ألواح خشبية أو كرتون أو ورق مُقوَّى أو مُنجَزَةٌ على الملابس أو على الوجوه والأيدي والرؤوس، وهنا في هذه الحالة الأخيرة حين استقرّ الرسم والتلوين كفعل جمالي على الجسد، فإنه لم يستقر فيه كلغة إعلان مدفوع الأجر، كلا، بل استقرَّ مليَّاً باعتبار الجسد نفسه دالاً ومتناً حاملاً لرسالة اجتماعية وسياسية وثورية للذات وللآخرين، أي صار الجسد قاموساً معتكفاً على إنتاج خطاب “الاعتراف” العمومي المساواتي بحق الذات وحق الآخرين في الوقت ذاته”.
ويواصل أيضاً: “أمكن أيضاً دمج الموسيقى والإيقاعات كأنشطة “سمعية” دمجاً مباشراً في بنية وحركية المواكب الثورية. ففي هذا السياق كانت الكمنجات والنوبات، مثلاً، جزءاً من المشهد، بل كانت الحاجة الثورية أكثر إلحاحاً لإعطاء الإيقاع حيزاً كبيراً؛ لدرجة أن استعان الثائرون من الجنسين بكل من: “الكراتين والصفائح والجركانات والعُلب وألواح الحديد” التي كانت جزءاً من عالم إيقاعات الفعل الثوري”.
ويلفت أستاذ الفلسفة إلى أن “ممارسة الرسم والتلوين والتشكيل على الحوائط –الجداريات- والإسفلت، تعزَّزت بوصفها جميعاً من أبرز الأفعال الجمالية، وذلك حيثما استقر الفعل الثوري ثاوياً في مقام أو أرض ما. وهذا هو بالضبط ما حدث في المواكب وأرض الاعتصام في جميع أنحاء السودان”.
ويضيف عن مشهد الاعتصام: “أما في الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش برمزيته السياسية الوطنية الكبرى، فقد حضر الجمالي بكُلِّ قوته في جمالية الاجتماع البشري ذاته كما عبرت عنه بقوة الضيافة السودانية، وانعكس في تلقائية توقير الحرية الدينية والاعتراف بها؛ حيث كانت جماليات الصلاة، ورعاية الدعاء، والإعداد الكريم لإفطار الصائمين واحترام القيام والتلاوة. كما حضر الجمالي بعظيم سحره رسماً وتلويناً وتشكيلاً وأناشيدَ وأشعاراً ونثراً وخطابةً، كما حضرت الموسيقى بكُلِّ أدواتها ونشاطها الساحر في ميدان الاعتصام، واستحرَّ الغناء سَخيَّاً سَخيَّاً لدرجة الصراخ والدموع والبكاء والغفران”.
“وبنفس القدر من حضور الجمالي، فقد جابت الإيقاعات و”النُوبات” أرض الاعتصام جيئةً وذهاباً. أما انبثاث الإيقاع في وجدان الثورة العظيم، فقد انبثق قوياً داوياً في “إيقاعات الطَرق بالحديد في أعالي النفق” بلا توقف، حتى كان توقف إيقاعات الطًرق للحظة واحدة، كفيل بلفت انتباه ميدان الاعتصام؛ فهنالك إذن في أعلى النفق لم يكن الإيقاع مجرد فعل جمالي فقط، بل كان أيضاً ساعة المنبه الضابطة لإيقاع الثبات واليقظة والحذر، هكذا كانت إيقاع النفق “إدارة” عليا أنتجت بنفسها وظيفة التعبئة والتأمين الجماهيري لميدان الاعتصام”؛ يضيف فتح الرحمن.
ويكشف التوم عن خصوصية النص الشعري الشفاهي، في الثورة، وأنه كان يتساوق تساوقاً عضوياً مع الطابع الحركي للمواكب ويمثل فيها “قرن الاستنفار والتعبئة النفسية”؛ إذ أنه كان يتعذر الفصل بين الموكب كفعل ثوري والنص الشعري الشفاهي، بل إن أية محاولة لقراءة هذه المشهدية على أساس أن هؤلاء هم مجرد ثوار وثائرات، كانوا يتلون في موكبهم الثوري نصاً شعرياً، هي محاولة ساذجة؛ لماذا؟ لأن النص الشعري لم يكن نشاطاً عرضياً أمكن تقديمه أثناء حدوث الفعل الثوري، كلا، بل إن النص الشعري، هو الفعل الثوري نفسه، متجلياً في إحدى حالاته الرؤيوية والنقدية والتعبوية، ومن هنا فإن الشعر في المجرى الثوري ليس هو شعر أمكن قوله في المناسبة الثورية، بل هو الثورة نفسها وهي تحدث منبجسةً ومعبرة عن نفسها بأحد وجوهها الأوفر فاعلية واختراقاً.
ويجمل: “عليه، فإن نشاط الأرخنة وتدوين الثورة كفعل جماهيري سياسي، حين يتمنهج استناداً على لحظة مُفتَعلة تفصل الفعل الجمالي عن الفعل الثوري، فإنه لا يتجنَّى على الفعل الجمالي وحده فقط، بل أيضاً فإنه يدمر البنية التاريخية للفعل الثوري ذاته ويعمل على تفتيت صورته، وتشويه انبثاقه وهدم مصداقيته وتجزئة وتشتيت آلية فعله، وطمس معناه”.
ويتأسف التوم من أن الطريقة الكلية العلائقية في تدوين وأرخنه الفعل الثوري ليست هي السائدة عندنا في السودان، ويضيف: “أيضاً هي طريقة في فلسفة الهستوغرافيا ليست معلومة ومفهومة إلا لدى القليل جداً من السودانيين، لا سيما وأن طريقة تدوين الفعل الثوري بما يستحقه الفعل الثوري ذاته، لم تظهر بعد، كمبحث علمي، حتى داخل الأكاديميا السودانية نفسها. هكذا فإن الثورة في السودان لا يضيعها ولا يُفني بذرتها الوعي الشخصاني والحزباني وحدهما فحسب، بل أيضاً إنما يُضيِّعها ويفني فرادتها وسياقها التاريخي التكويني والتشغيلي سيطرة الوعي والمنهج التقليدي المُسيطِر اليوم على غالب الأكاديميا السودانية ذاتها”.
لكن الجميل والعادل بشأن الظرف التقني الذي شهدته ثورة ديسمبر المجيدة – يقول التوم – هو أنها اندلعت في سياق انتشار أجهزة الموبايل و”السوشيال ميديا” في السودان، حيث يمكن أن تكفي صورة فوتوغرافية واحدة عن ألف كلمة، وحيث يمكن أن يكفي فيديو قصير جداً عن جملة من التحريات ويغني عن جهد إعادة النمذجة محاكاة تصورية لما حدث. لكن مع ذلك فإن الجهد التوثيقي الواسع الذي تم عبر الموبايلات الشخصية وأجهزة الإعلام المعترفة بشرعية الثورة ونُشِرَ على “السوشال ميديا”، وعلى بعض القنوات، لا يُغني عن كتابة تاريخ الثورة وفق منهج كلي علائقي. وذلك لأسباب ضرورية يطول تفصيلها هنا.
سألته عن جسارة وشجاعة وسحرية الطريقة التي قدمت بها الثورة شهداءها، فقال: “صحيح أن الطريقة التي قدمت بها الثورة الشهداء طريقة تدلُّ على الشجاعة، وهي بكل تأكيد طريقة سحرية، لكن مع ذلك كله، فالغالب علينا في السودان هو أننا لم نفهم بعد معنى الشهادة والشهداء، ومعنى أن يُقدِّم أحد الناس نفسه تضحيةً لأجلنا، وذلك لأننا لم نتحضَّر بعد لاستيعاب معنى الموت استيعاباً نقدياً، إذ لم نزل نتأثّل الشهادة في أجَلَيّة الموت مسبقاً، فنستذلُّ بذلك رفعة الميت وقيمة فعله باعتقادنا الأسطوري أن موته كان موافياً لظرفه، ولهذا يهون لدينا الشهيد في موته نيابة عنا إذ نرى موته موافاة لوعد، وليس انخطافاً غير مستحقٍّ للحياة، ونتعزى خزياً وعجزاً بأن الشهيد لن يكون أبداً معنا ليرى خيبته فينا بعد فواته”. ويضيف: “هذا الاستسهال للموت عندنا في السودان، ينعكس في خبرتنا السياسية وفي قابليتنا الشرهة لتقديم أكبر عدد من الشهداء لأجل قضية يمكن حلها بجلسة مكاشفة واحدة”.
ويواصل: “لدينا في السودان إذن تاريخٌ عظيمٌ من سير الشهداء، لا يضاهيه إلا عجزنا المقيت عن الوفاء بتسديد ثمن الشهادة، إذن، من ذا الذي يقدر أن يسدد ثمن الشهادة في زمن لم يكثر فيه العجز وحده، بل بدأ يتبرع فيه أشخاص كثر بإحلال الظلام”.
لنرَ ماذا قرأ د.فتح الرحمن التوم، في قصة الكنداكة وتسجيلها الحضور الدائم في الصفوف الأمامية: “صورة المرأة الثائرة صبايا وطالبات وشابات ومهنيات وأمهات وعاملات ونازحات، التي تجلت بمشاركة هذه الفئات النسوية جميعاً في تصدرهن للفعل الثوري وقيادة المواكب أو المشاركة في قيادتها، دليل تحول عظيم في الوعي السياسي في السودان، ومؤشر دال على خير كثير حادث في رحم هذا الشعب، لكنني أخشى أن تتصيَّد هذا الوعي النسوي المبكر يدٌ آثمة أو تحجر عليه البيوت بسبب سفه ثقافي شديد الانفجار حتى في الأوقات العادية”.
ويضيف: “الجدير بالبيان أن تقدم المرأة السودانية في هذه اللحظة الحرجة من التحول الاجتماعي والسياسي ما يستلزم من السودانيين إعادة اختبار سريعة لآليات الفعل الاقتصادي والثقافي والإعلامي والتربوي ومدى مواكبتها للتقدم النسوي، لأن هذه الآليات هي بالتحديد القوة الدافعة والميكانيزمات الرافعة لإسناد الحركة النسوية المستنيرة في السودان”.
ويرى التوم كذلك أن “ما يجب أن تتوقف القراءة عنده، هو أن عودة الكنداكة لتمثل استعادة لتلقائية الفعل السياسي ذاته، وشد هذا السياسي نفسه بقوة لعالم الحياة المعيش حيث تمثل السياسة شأناً مُباشراً من شؤون الناس اليومية والشخصية، وكذلك تشكل عودة الكنداكة انعطافاً عظيماً نحو كسر منطق الإنابة التمثيل والوكالة في الاختيار والتعبير السياسي وفي الاضطلاع بالفعل الثوري وتوجيه وقيادته”.
التعليقات مغلقة.
جميل جدا ان نطل على ساحة الثورة من شرفات اخرى غير السياسية ، جميل جدا ان نعيد قراءة الحراك السياسي / الثورى من خلال الذائقة الادبية / الفكرية والفلسفية….
هذه الثورة العظيمة التى لم تقل كلمتها الاخيرة حتى اللحظة اعظم من ان ياطرها ( الفريم) السياسى حصرا….
كان موكبها يبدأ ب ( ذغرورة) ويمور بقصيدة وينتهى بحكاية مصورة ….
تعيش القيم الجمالية اينما يممت وجهك لوحات على الاسفلت وعلى الجدران وعزف جماعى من فوق النفق واهازيج يصنعها الذوق الجماعى ( عندك خت ما عندك شيل ) …. و….. ( الشاااااي، الشاى بجاى ) ….. الجداريات ، اطباق بنات وادى هور …..
هذه الثورة كالمزن جاءت لتغسل عنا الرجس وتعيد انبات اجمل ما فينا من قيم وذائقة كاد ان يطمسها فكر القرون الوسطى……
مشكور يوسف مصطفى للمداخلة الثرة.
هذا عمل رائع.. وكنت دائماً أقول أنها ليست مجرد ثورة وإنما عودة المكبوت الثقافي.. ونجاح هذه العودة يتوقف على الإحاطة بمنتجاتها الثقافية التي تم ذكرها في الحوار.. هذه مهمة الإعلام والمفكرين الذين هم في قامتك.. إن الكشف عن هذه المعطيات الثورية وتأكيد قيمتها يعطي الشباب قوة التماسك من عودة كامل المكبوت إلى الحياة الواقع.. بالجد قول ممتع بل ووثيقة ثورية..
تحياتي سيف الدولة وتعلية الخطاب الثقافي واجب وضرورة