
الرئيسية مقالات ما بين الاعتذار والتدليس والكذب والمراوغة: الطريق إلى السلام يبدأ بوضع لبنات التعافي الوطني والاجتماعي
ما بين الاعتذار والتدليس والكذب والمراوغة: الطريق إلى السلام يبدأ بوضع لبنات التعافي الوطني والاجتماعي
بكرى الجاك
في عجالة سأعلق على فكرة الاعتذار السياسي إذ جمعني لقاء بالأمس في قناة الجزيرة مباشر مع شخص يدعى النعمان عبد الحليم متحدثا باسم حزب المؤتمر الوطني، وللأمانة أنا لم اسمع بهذا الرجل من قبل و لا علم لي من يكون ربما لغيابي الطويل من البلاد بسبب نظام المؤتمر الوطني ذاته الذي حاول النعمان الاعتذار نيابة عنه هكذا، وكأن الإنقاذ عبارة عن عربة بوكس وأثناء مرورها في زقاقات قرية صغيرة قامت بقطع سلك كهرباء لتوصيلة غير قانونية من عمود في قرية من قرى السودان أو أنها قتلت “عتود” وكأنها لم تقتل و تشرد و تعلن الجهاد على ملايين السودانيين و ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية، وكأنما الإنقاذ لم تحول جهاز الدولة إلى ضيعة للمقربين من الحزب الحاكم، بل وبلغ بهم الشأن في البجاحة أنهم أباحوا سرقة المال العام كما وصل بهم اللؤم أن تبجح أحدهم قائلا ” أن على الشعب السوداني أن يلحس كوعه إذا أراد أن يتخلص من حكم الإنقاذ”.
أولا الاعتذار إذا كان بالفعل اعتذاراً حقيقياً هو فضيلة وهو مدخل لتأسيس برنامج متكامل للعدالة الانتقالية ولكن ما يجب أن يأتي قبل الاعتذار هو الحقيقة وفيها يتم الاعتراف بكافة الجرائم السياسية والجنائية التي ارتكبت في الحق العام و الحق الخاص وتقديم المسؤولين عنها لإجراءات التقاضي العادل ومن ثم تبدأ مرحلة جبر الضرر وتعويض المتضررين و بعدها يأتي الاعتذار والمصالحة لتعبيد الطريق لبرنامج شامل للتعافي الاجتماعي ليكون مدخلا لمصالحة وطنية شاملة تقوم على إحقاق الحق و معاقبة الجناة و إقامة العدل، و الأهم من ذلك أنه يحق للمتضررين رفض الاعتذار و المطالبة بالحقوق.
ما قاله النعمان لا يعدو كونه فذلكة و استبهال وتدليس ومحاولة لمجاراة التحولات الداخلية والإقليمية المتمثلة في رفض الإسلام السياسي في الحياة العامة، فإذا كان حزب النعمان يعترف أن ما قام به الشعب السوداني في ديسمبر كان ثورة قدم فيها السودانيون أعظم التضحيات وأن السودانيين قد أسقطوا نظام المؤتمر الوطني فليخرجوا للناس ببيان يفصل ما تم في السودان من جرائم منذ عشية الجمعة ليلة الانقلاب يوم 30 يونيو 1989 وحتى هذه اللحظة بما في ذلك دورهم في تخريب المرحلة الانتقالية ومحاولة إفشالها بكافة السبل بدءا من خلق الضائقة المعيشية وانتهاء بالانقلاب في 25 أكتوبر 2021 ومن ثم إشعال الحرب في 15 أبريل 2023. هذا مع الأخذ في الاعتبار أن تقديم الاعتذار والقبول بالمحاسبة الجنائية لا تعني أن من ارتكبوا جرما من شاكلة الثلاثة الكبار، أي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية والابادة الجماعية، يجب أن يسمح لهم بممارسة نشاط سياسي مرة أخرى دون أن يقضوا وقت في المراجعة و في تقديم مشروع مغاير لمشروع الإقصاء والقتل والتنكيل. ما أراده النعمان هو في عشر ثوان أن يقول أنا اعتذر وقبل أن يقبل الناس أو يفهموا حقيقة ما قال ظن أنهم سامحوه وبدأ في لعب دور الضحية وادعى أنهم دخلوا السجون ودفعوا ثمن أخطائهم وهذا القول يجافي الحقيقة و حيثيات الواقع، إذ أن ما قام به المؤتمر الوطني هو إشعال الحرب حتى تأتي لحظة “تصفير العداد” وأن البلاد قد غرقت في حمام من الدماء وأن الجميع قد أخطأ وتتم مساواة حكومة الثورة ذات الستة وعشرين شهرا بنظام الإنقاذ ذي الثلاثين عاما وتساوي قحت بالكيزان، ونسي النعمان ورفاقه أنهم مازالوا يتحكمون في جهاز الدولة وأنهم من افشل المرحلة الانتقالية وأنهم من يصر على استمرار هذه الحرب الآن.
أما في شأن النعمان عبد الحليم نفسه فقد تواصل معي نفر كريم وأبلغوني أن النعمان نفسه كان المتهم الأول في جريمة محاولة اغتيال رئيس وزراء المرحلة الانتقالية الدكتور عبد الله حمدوك وأنه قد مكث في السجن 5 أشهر وقد أدلى باعترافات للشرطة الأمنية هو ومحاميه أيضاً متهمة في ذات الجريمة تدعى رويدا تعمل في جهاز الأمن والمخابرات وتقطن الحاج يوسف وكانت مسؤولة بشكل مباشر عن تفويج الشباب السودانيين للمشاركة في حرب الدواعش في سوريا والعراق و أنها تتمتع بعلاقات واسعة بالعديد من أجهزة الاستخبارات الإقليمية. وعلمت أيضا أن السبب في عدم المضي في التحقيق في جريمة محاولة اغتيال رئيس الوزراء هو أن كل التحقيقات أشارت إلى أن التخطيط قد تم بواسطة جهاز الأمن والمخابرات وربما بعلم البرهان نفسه. عليه إذا كان النعمان عبد الحليم فعلا مشاركا في هذه الجريمة كما ذكر أنه قد كتب في حسابه على الفيسبوك قبل حادثة التفجير أن يبدأ بالاعتراف بالحقائق ويخضع لمحاكمة عادلة أولا ومن ثم يطلب الصفح من الشعب السوداني ومن دكتور حمدوك وأسرته قبل أن يقوم بمحاولة مبتورة للاعتذار بشكل فوقي في عشر ثوان، فالأصل في الاعتذار هو الأسف و الشعور بالذنب، أما الاعتذار فى نفسه يجب أن يأتي بشكل مؤسسي من حزب المؤتمر الوطني وفق رؤية متكاملة و الأهم من ذلك الآن كله هو أن يقبلوا أنه لا يوجد حل عسكري وأن يعملوا على التهدئة للوصول إلى إيقاف هذه الحرب.
خلاصة القول إن ما قامت به الإنقاذ ليس بحاجة الى كتب التاريخ أو إلى المغالطة فغالبية الأحياء اليوم في السودان شهدوا تلك الفترة ورأوا فيها من العجائب ما شابت له الرؤوس، فعلى كل فصائل الإسلاميين من مؤتمر وطني والتيار الإسلامي العريض النظر في مرآة التاريخ والقبول بحقيقة أنهم فشلوا في إدارة البلاد وأضعفوا الدولة و مزقوها وها هم الآن يمزقون ما تبقى من النسيج الاجتماعي وأن عجلة التاريخ لن تعود إلى الوراء وأن ثورة ديسمبر حدث عظيم في تاريخ البلاد، وأنهم إذا أرادوا أن يكون لهم دور في الحياة السياسية أن يعالجوا ما فعلت أيديهم بالاعتراف أولا بالجرائم و القبول بالمسؤولية الجنائية والأخلاقية لهذه الجرائم و من ثم المساهمة في بناء مشروع وطني قائم على الاعتذار والحقيقة والمصالحة لوضع لبنات لمستقبل الدولة السودانية التي تحتفي بكل مكوناتها. افعلوا ذلك وستجدون جل الشعب السوداني على استعداد لتقبلكم مرة أخرى كأخوة وأهل وأقارب قبل أن تكونوا فاعلين في الحياة العامة، ألا هل بلغت؟

