‫الرئيسية‬ ثقافة فنون وطن فى الغناء..أو انصاف فتحى
فنون - 3 ديسمبر 2024, 15:27

وطن فى الغناء..أو انصاف فتحى

السرالسيد
أكتب عن المبدعة انصاف فتحى من موقع التذوق وليس النقد الاحترافى مع اعتقادى أن التذوق لا يمكن له أن يتبدى دون ما رافعة نقدية ما أيا كانت درجتها من حيث الاحترافية إذ أن النقد فى الأخير هو ما يمنحنا حيازة التذوق ولو بدرجة ما مما يعنى ضمنيا اننا جميعا نتوفر على درجة ما من النقد.
فى تجربة المبدعة انصاف فتحى المولودة مطلع تسعينيات القرن الماضى والمتخصصة فى الهندسة، نلمس حضورا ناعما للوطن ولكنه عميق ، والوطن الذى يحضر فى تجربتها ليس هو الوطن بمفهومه (السياسي) المباشر الذى ينهض فى الغالب على أخيلة الفئات الفاعلة فى عملية التغيير،وتصورها الايدولوجى لصورة الوطن المنشود.
فى تجربة المبدعة انصاف فتحى يتبدى الوطن ناطقا بكل ما تتأسس منه كيونته بحسبانها معطى واقعيا وليس متخيلا وما يزححها-كينونته-من هذا المعطى الواقعى هو اعادة خلقها عبر فن الغناء،لذلك كان عنوانى الذى اجترحة لمقاربة تجربتها هو:(وطن فى الغناء أو انصاف فتحى).
تستند هذه المقاربة العامة على أغنياتها المبثوثة فى وسائط التواصل الاجتماعى ولأنها من الكثرة بمكان لا تدعى المقاربة الاحاطة بها.
انصاف فتحى والتى أبحرت أو تكاد فى مختلف موجات الغناء السودانى الشجية المتنوعة،تتوفر على طاقة عظيمة من الشجن والحضور الخلاق تعتصر فيهما روحها المشتعلة وجسمها النحيل،منحاها أجنحة تحلّق بها فى سماوات ألحان الحقيبة سهلها وحَزنها كأغنية (الصبا النجدى)،وسماوات ألحان عثمان حسين ووردى وابراهيم عوض وسيد خليفة وثنائي العاصمة وصالح الضى وزيدان وغيرهم من اساطين ما يعرف بالغناء الحديث ولا أنسي هنا الفنانة “منى الخير” فى أغنيتها البديعة (آه يا حمام يا زاجل)..هنا ومن هذه السماوات تنخرط انصاف فتحى مع أبناء وبنات جيلها من المغنين والمغنيات الى ما أسميه “جبهة المقاومة”،تلك الجبهة التى كان فى مقدمة طلائعها الفنان محمود عبدالعزيز والمتمثلة فى اعادة بناء الذاكرة الغنائية السودانية التى بعثرت وقطع سريانها،فى السنوات الاولى لنظام الانقاذ،بمنعه بث عشرات الاغنيات،وايقاف تسجيل (الاغانى العاطفية)!!؟ بدعاوى (فقهية) و (أخلاقية).
أدرجتُ هذا الفعل المبدع-إعادة بناء الذاكرة الغنائية ضمن جبهة المقاومة،بسبب أن المقاومة..أى مقاومة لا تتموضع إلاٌ وللذاكرة حضور كما فى الكثير من أدبيات المقاومة.
من تلك السماوات المنيرة ومن روح المقاومة الناعمة حطّت انصاف فتحى على كتفى مشروعها الغنائي الخاص فقدمت عددا مقدرا من الاغنيات المتنوعة على مستوى الالحان والمضامين تبدّى من خلالها الوطن ناعما،ومن أغنياتها هذه نذكر وعلى سبيل المثال،(شديرة المحلبية، واسمرانى، والمريود، ووليدكو دا، والبلح نوٌر للشاعر سليمان عطية، وأغنيات (نارى أنا وا نارى، والرايق، وزولى الوحيد) للشاعرة نضال حسن الحاج وأغنيات (لورى الصعيد) للشاعرة فرحة عبدالرسول و(خدار القلب) للشاعرة مثانى حسن الحاج و(الزهى) للشاعر آسيا الخليفة و(يا هلا) للشاعر بشرى عبدالله و(زغرودة) للشاعر ازهرى محمدعلى والأغنية النوبية (آيروم أيقا) للشاعر والملحن متوكل عوض وبلغة البداويت أغنية (فارساب) مع الفنان محمدالبدرى.
من كل هذه الاغنيات وغيرها يتسرب الوطن ناعما كالماء و شامخا كالجبال ولكن ليس على تلك الاساليب اللحنية والشعرية التى تخلقت منها صورة الوطن خلال فترات النهوض والمقاومة السياسية وان كانت لا تتجاوزها بالمطلق بل تزحزحها قليلا وبالدقة (تجاورها)،فإذا كانت تلك الاغنيات تنهض فى معظمها على مخيلة (سياسية مباشرة)،تتماهى مع المخيلة التى انتجتها علاقات (السودان القديم)،برهانها الجمالى الاساس على السلطة كأداة حاسمة فى إعادة بناء الوطن/ الحلم،فأن أغنياتها فى معظمها تراهن على الشعب وتمتح من تنوعه العظيم ومجازات حيواته اليومية،ففى اغيناتها ثمة حضور بديع مقصود للآت الموسيقية الشعبية كالربابة والنوبة والطار والدلوكة،وتعمّد فصيح لحضور الرقص فى دلالة على إستعادة عنصر اساس فى غناء الشعوب السودانية،غيّبته سلطة الغناء المهيمن،الذى وطنته بعض أنماط الثقافة المهيمنة.يتبدى كذلك حضور عضوى لما يعرف بالكورس فمعظم أغانيها التى وقفت عليها يتقاسمها معها الكورس وهو ملمح اساسي فى غناء الشعوب السودانية أيضا حيث لا وجود يذكر فيه للمغنى الفرد،تكتمل هذه الهندسة للاغنية أو للدقة اعادة هندسها،بأخيلة الشعر الذى تغنت به والتى تتوفر عليها عامية السودانيين العربية المتنوعة فى جهاته المختلفة،ولغاته غير العربية وهنا نقف على مفردات تغوص فى الحياة اليومية المناضلة،قلّ انت تجدها فى الغناء السائد كمفردات “ورتاب”،و”نان”،و”لفح”،و”كُرْ”وغيرها،أما ما لا يمكن غض الطرف عنه فى تجربتها فهو ذلك السطوع (النسوى)،ليس فقط بسبب وجود هذه الكوكبة من الشاعرات
،(نضال الحاج/اسيا خليفة/فرحة عبدالرسول/مثانى الحاج)،وانما ايضا بسبب طرائق التعبير والقاموس والأخيلة.
يحضر الوطن ناعما و شامخا فى تجربتها،عبر اللغة وحزمة الالحان والايقاعات والادائيات وعبر زحزحة لطيفة للمخيلة السياسية المباشرة،التى وسمت الغناء للوطن لزمن طويل.
فى أغانيها يسافر البص أو اللورى لافحا الحبية/الحبيب أو مهاجرا للحبيب/الحبيبة عابرا جغرافيا السودان الفسيحة،من الصعيد للسافل ومن السافل للصعيد تحتضنه بمحنة وسلام الصحارى والجبال والسهول والوديان على نور القمر وضوء النجوم وسطوع الشمس ومغيبها واصوات القمارى وهديل الحمام،و رزاز المطر وحكايات عامة الناس واحلامهم.كل هذا يتفجر كالنبع من صوتها الشجي وادائها العبقرى.
انصاف فتحي.أقول لك هيجتينا..يا قميرية كَرْ.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 4 / 5. Total : 1

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *