‫الرئيسية‬ ثقافة فنون و … محبوبي لاقاني
فنون - 3 ديسمبر 2024, 15:27

و … محبوبي لاقاني

عبدالله محمد عبدالله
كان قد ثبّت عينيه على قمرٍ مكتمل الاستدارة في سماء قوز الخرطوم، بينما سرى صوته في انخفاضٍ متدرجٍ، ظل مسترسلاً فيه، مترنماً ب ( بكلِّ إحساسيييي) حتى بدت نقيةً من كل شائبة فإذا ما وصل إلى (رديت تحياتُه) كان قد بلغ من الرهافة حداً يتيح لمجالسيه الأحساس بما يقول، دونما إنصات! كان يضبط ايقاعه بابهامه و وسطاه و يلقي نظرةً عابرةُ على العود الذي كنت أرافقه بالعزف عليه، في اجتهادٍ و حذر، فِعلَ تلميذٍ أمام استاذٍ انكشفت أمامه حجب المعارف.
حسن سليمان عبدالرحمن ابوحنك، ابن الخرطوم و رفيق حسن عطية الذي آثر الهواية ففاز من الغواية بلقب الهاوي، فيما مضى ابوعلي نحو الاحتراف فتُوج أميراً للعود.
كان الهاوي زاهداً في تعلُّم عزف العود الذي كان تحت بصره ليل نهار، ضمن متاع شقيقه عبدالقادر سليمان، الذي وصفه حسن عطية بأنه اول من عزف العود السوداني! و منه تعلم حسن عطية عزف العود، فصار من ذوي الصيت، بينما ظل الهاوي مدندناً بألحانه التي خلدت ذكره يين الناس مؤثراً الوظيفة العامة.
قال احد حاضري تلك السهرة، يا عم حسن الاغنية بتاعة حسن عطية.. مش كده؟ جاء الرد في عفوية : و الله تقدر تقول كده. انا لحنتها لكن حسن غنّاها. ثم زاد قائلاً، كنا اصدقاء و بنتبادل الغنا. انا شلت منه ما شقيتك و سجلتها في الاذاعة. فانظر ليفاعة ذلك الزمان الذي لم يبلغ فيه الفنُّ مبلغ السلع!
إذا ما اعتمدنا تقسيم القدامى في تفصيل درحات علو الصوت و انخفاضه، فإن الهاوي قد بدأ ( حكيت لُه آلامي.. ) ليلتها بربع جهرٍ ثم تدرّج إلى ما يقارب نصف الجهر، و بوصوله الى (أحلامي) كان قد جهر جهراً كاملاً اتاح للحاضرين استعادة مطلع الأغنية دونما اتئاد، فأحسنوا، فيما قاد العود اصوتهم بعيداً عن مزالق النشوز.
قال الهاوي إن الشاعر حميدة ابوعشر اعطاه قصيدةً تغلغلت في اعماقه فور قراءته لها و لم تبارحها إلا وقد رفلت في لحنها الميمون. فكم لبثت كلمات الشاعر المجيد بين قلب الفتى النابض و لهاته الموشاة؟ أسبوعاً قال، او أدنى!
محبوبي لاقاني، أغنية كل الفنانين و كل الأزمنة. لم تغب عن أثير وطننا المنغّم منذ ميلادها، و هنا تكمن عبقرية اللحن. فعلى بساطته و دائريته و اختصاره إلا انه ظل غنياً و مدهشاً و مطرباً. ما مِن فنان ممّن عرفنا إلا و تغنّى بها بين خاصته او أمام جمهوره. و لكل فنان روايته و إضافاته. انها لوحة تكتسب أطيافاً جديدة كلما مسّها طارق عابر. لكنها تظل وفية لأصلها و مبتدئها. و هكذا وجد مرددوها ، من لدن العميد و ابوعفان وابوداؤد و ابو السيد الى آخر وافدٍ للساحة، في خريدة الهاوي ما ينعش فيهم صيحة ارخميدس ( وجدتها)، و يطلق اصواتهم، كلاً في فضاء يسبحون. لكن، ليس بينهم من حلّق بها في آفاق الكمال كما فعل الهاوي في تلك الليلة المقمرة، حين بدا كمن يخشى على سوميتها الانفراط و التناثر بين اسماعنا!
اما (الكَسرة) التي أُلحقت بها تيمناً بسنة أهل ذلك الزمان، فهي من الكسرات القلائل التي ما زالت على طلاقتها الأولى و نضارتها.
لِحسن الهاوي و أبوعلي و أبوعشر عبق الخلود و بهاء الديمومة في افئدة من لاقوا احبابهم و من سيلاقون!
—————————————————————–
* الصور : الشاعر حميدة ابوعشر و الفنان حسن سليمان الهاوي.

 

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 4.7 / 5. Total : 3

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *