كل ما بيننا نظرة وشبابيك وانتظار يا حناني
مرام علي
وستائر بيضاء من الغيب، وهذه أول مرة اختبر فيها أن يمكن لشبابيك في مدن بعيدة عن بعضها أن تطل على بعضها، وأنه يمكن لشباك أن يأتي بأنسام لبحر بعيد يبلل خطاوي عزيزة،
التأمل فيك يشبه ذاكرة رؤية البحر لأول مرة، هل أخبرتك عن سليمان الطفل الذي صديقنا في الكلية؟ حينما اقترحنا عليه أن يرفع نظره إلى السماء ويشاهد القمر؟ كان عمره خمسة أعوام ربما، سليمان درويش شارع القصر والخرطوم شرق وشارع الجمهورية رأى القمى واندهش، أخبرنا أنه لا يعرف اسمه حتى، ولم نندهش، نحن على دراية بالحيوات المحجوبة عن الرؤية رغم أنها متاحة، أخبرناه أن اسم هذا الكائن النوراني: القمرة! وحفظها هو : القفرا !
يومها. كان مشهداً عظيماً، وكأنه يستجدي بنا لكي نساعده على تثبيت رأسه لمدة أطول!
لحظتها تذكرت مشهد البحر لأول مرة!
هيي، من يطعم الطير الكورنفلكس سواك؟ أملاً أن تأتي قمرية وتقوقي مع سرب من الطيور الغريبة، ويأسرك كون أني أحتفظ للقماري والحمائم والزرازير بألبومات من القوقاي والهديل والتغريد، ويأسرك كون أني احتفظ بتسجيلات للحمير عدلتها لأصوات أقرب للكمنجات المدوزنة جيداً، وأقول لك هات صوتك سأحوله إلى أي صوت ممكن في هذا الوجود، وتقول أريده فقط مماثلاً لصوت أمي!
وأعرج إلى أنه أصلن أصلن أتى الإنتظار من النظرة، ومن نظرَ : فعل فعلة الإنتظار، ومن انتظر فعل بالنظرة الأفاعيل ..
والإنتظار عين تكجّ شركها لكل ماهو حبيب، ما هو آت من بعيد فيدنو من النظر، أو ما هو وراء الشباك ليلوح من الإنفتاحة ..
والنظر مقامات وأحوال، والأعين كاميرات مُثاقبة، ثمة نظرة عارفة، ثمة نظرة جارفة، ثمة نظرة ناسفة، نظرة كاشفة، نظرة كاسفة، ثمة نظرة ملونة، ثمة نظرة باهتة، ثمة نظرة خافتة، ثمة نظرة لافتة، ثمة نظرة ناصعة، ثمة نظرة وادعة، ثمة نظرة بحر، ونظرة محيط، ونظرة خليط، ونظرة فاكهة، ثمة نظرة فكاهة، ونظرة النظر إليها نقاهة، ثمة نظرة صيّادة، ثمة نظرة معتادة، ثمة نظرة مرتابة، ثمة نظرة كتّابة، ثمة نظرة أكّالة، ثمة نظرة قتّالة، ثمة نظرة طازجة، ثمة نظرة بايتة، ثمة نظرة فائتة، ثمة نظرة جاية، ثمة نظرة نايمة، ثمة نظرة حايمة، شرّاقة، ثمة نظرة سرّاقة، ثمة نظرة عشْراقة، ثمة نظرة ثمر، ثمة نظرة سمر، ثمة نظرة بيوت، ثمة نظرة أخطبوط، ثمة نظرة منازل، ثمة نظرة طالع نازل، ثمة نظرة أمل موعود، ثمة نظرة طريق مسدود، ثمة نظرة غزالة، ثمة نظرة حافلة، ثمة نظرة غافلة، ثمة نظرة نظرة، ثمة نظرة حضرة، ثمة نظرة كهارب، ثمة نظرة مهارب، ثمة نظرة تضوي المغارب
..
في الليل، أتذكرك في أسري لدى النمش البرتكاني الذي تخلقه الأنوار القلووز في جلد الليل، وأسميك رتاين الليالي، أسميك رتاين الأعراس، وأحفل بضوء من تالاك آتٍ من مدينة أخرى ..
أسميك شربات الأفراح، ونعناع شاي القصر الذي كان لي منه النصيب الأقل من بين رفاقي ..
أسميك مراعي الريم، وحقل القمح المتاح للطير بلا فزاعة، أسميك ستائر الغيب الموردة، والألحان التي لا تُنسى، أسميك الرقرقة والصيرورة إلى ماء، أسميك في المعالي، أسميك بالمجالي، أسميك المعارج، أسميك المنديل الذي يمسح عن العيون ما علق بها من ناس غبروها، أسميك عدستي الخاصة ونظريات رؤيتي، أسميك قزازي المظلل يا زول، أسميك ” أوسم الجايين ” أسميك : ” حبيب روحي أبو لمعة!
في مدينة أخرى أستعير من الليل آذانه وأسمعك تدندن أمام نار قهوة لم تعدها لك أمك، ولا خلفت لك جدتك سكرها الأخير في قعر الفنجان، وأعلم أن هذه قهوتك المفضلة رغم أنها سكر صرف :
نسمة الأسحار ليلي طال هبي
أنا مساهر ونومي متخبي
حكم حِبي
أرعى نجم الليل
يا ..
_______
ثم ها أغنية أخرى:
من ليهو حُسن الكون هُدي
النافر الجااافي، الصَدي!
ثمّ ..
ولا عيون مِنك قريبة
ولا عيون مِنك قريبة!
من ثم
هناك تقرأ كتباً بلغات لا أفهمها وأحكي لك قصة الأستاذ الجامعي الذي سافر إلى ليشبونة بحثاً عن فتاة رآها في الجسر تتحدث البرتغالية، البرتكانية هه، وذهب بحثاً عنها وتعلم هناك البرتغالية لأجل كتاب يخص قصته معها!
وتستجديني أن أرسل لك كتاب القصة، وأمتنع لأنني أغار على الروايات التي أكتشفها وحدي!
وحينما أُسأَل أقول : إنه يغني، هل هو جميل؟ إنه يغني، منذ متى؟ إنه يغني! إنه يغني
وها قد قلت لك منذ دندنتك الأولى : الغُنا خشم حدايق، هه!