تخليص السودان من براثن حرب لا تُبقي ولا تذر.. القضاء على المؤسسة السودانية الطقوسية واجتراح ترتيبات مؤسسية جديدة أو الانهيار (2)
محمد عبد الخالق بكري
انتهينا في الحلقة الماضية الى أن المؤسسة من حيث هي، حقوقية او طقوسية، تسعى لحل او على الاقل التقليل من التعقيد في التعامل بين مكونات المجتمع المختلفة – حلحلة تعقيد علاقات أنظمة المجتمع
(Solving or, at least, reducing systems and sub-system complexity).
اما المؤسسة الطقوسية الانقلابية فهي ليست فقط عاجزة عن ذلك، بل ان سعيها الأرعن نحو ذلك يؤدي الى نتائج في غاية الخطورة تؤدي في نهاية الامر، مهما حاول سحرة المؤسسة الطقوسية، الى الانهيار الكامل للمؤسسة.
2- لننتقل الآن الى مناقشة سمة أخرى من سمات المؤسسة الطقوسية:
إن المؤسسة الطقوسية – وهي تعمل على تقليل التعقيدات بين مكونات المجتمع بالقوة العسكرية والأمنية – تعاني في الغالب من ظهور عفوي لمراكز غير متكافئة وغير متوازنة في هياكل السلطة، بل في قلب شبكتها الأساسية، ويترتب على ذلك تسلسلات هرمية جديدة، وتناقضات تصل الى حد ذبح الحلفاء القدامى ومن ثم المزيد من الانحدار نحو التصلب وسيطرة المزيد من الطقوس والشعائر عليها حيث يكون هدف المؤسسة الأساسي هو السباق الطقوسي نحو التفرقة في السلطة والثروة والمكانة في المجتمع.
وحتى تتضح فكرة ظهور المراكز غير المتكافئة وغير المتوازنة في هياكل السلطة أدعو القارئ الكريم للنظر مرة أخرى لتجربة الشيوعيين والإسلاميين.
لنقف على وجه التحديد ونعيد النظر في إجراءات 16 نوفمبر 1970 والتي أعلن جعفر نميري بموجبها في إستاد الخرطوم فصل المقدم بابكر النور، والرائد فاروق حمد الله والرائد هاشم العطا مما عرف بمجلس قيادة الثورة. صحب ذلك اعتقالات العديد من المدنيين. هذا في حد ذاته تعبير عن ظهور مركز آخر في قلب السلطة افزع جعفر نميري ومجموعته من الضباط الاحرار. تمثل ذلك المركز في الشخصية الكاريزمية للأستاذ عبد الخالق محجوب وحزبه وبقية الضباط الشيوعيين والقوميين العرب المناهضين لسياسات جعفر نميري والعسكريين والمدنيين حوله. ومن ثم حدث انقلاب 19 يوليو 1971.
ولك أن تقارن ذلك أيضا بالدثار التدريجي الطقوسي الذي اتخذه جعفر نميري إبتداء من المصالحة الوطنية والسماح بعودة احزاب الجبهة الوطنية ولكن بأقنعة جديدة تعود الى منظمة طقوسية جديدة هي الاتحاد الإشتراكي (العظيم). ثم انظر اليه وهو قد بدأ بتأليف أحد الكتب المنسوبة إليه (النهج الإسلامي، لماذا؟ 1980). ثم، إصدار قوانين سبتمبر 1983 وبيعته كإمام ومجددا للقرن الهجري الجديد في شعائرية و طقوسية لم يشهد السودان مثلها منذ هزيمتنا الفادحة في كرري في سبتمبر 1898.
ثم، دائرة أخرى من التناقضات وبوادر ظهور مراكز أخرى في السلطة وزجه للإخوان المسلمين، حلفائه بعد المصالحة الوطنية لقرابة السبعة اعوام، في سجونه في آخر أيامه.
ولك أن تقارن ذلك أيضا بما عرف بالمفاصلة في تجربة الإسلاميين وعمر البشير (إجراءات 4 رمضان 1999)، وانقسام الحزب، ومن ثم ظهور الجزء الأول من (الكتاب الأسود: اختلال ميزان تقسيم السلطة والثروة في السودان) في مايو 2000، وظهور جزئه الثاني في أغسطس 2002. وأخيرا ظهور الحركات المسلحة في دارفور.
ما يحدث الآن بين الجيش والدعم السريع هو الحلقة الأخيرة من هذا المسلسل المأساوي. فقد بدأ في الظهور، مرة أخرى، مركز جديد في هياكل السلطة منذ اندلاع حرب دارفور عام 2003 تمثلت نواته في قوات موسى هلال (الجنجويد) وتطور هذا المركز واستوى على يد مركز المؤسسة الطقوسية متمثلا في قوات الدعم السريع. وللمفارقة، مع إفلاس المؤسسة الطقوسية وخوفها الابدي من الظهور الحتمي لمراكز أخرى في هياكل السلطة، قامت بنفسها بتحضير المحافير لقبرها.
وليس من الغرابة أن الشاهد الآن ينظر الى بذور التناقضات هذه الايام تطل برأسها داخل كل من التحالفين المتقاتلين. كل على حدة. ولن ينجو أحد، لتدور من جديد، دائرة ذبح حليف الأمس والبحث عن حليف جديد. وتنحدر المجتمعات السودانية الى درك أسفل من طقوس القبيلة والمجموعات الاثنية.
للقاريء أن يتأمل المشهد الطقوسي التالي رغم مأساته وهو فعل الاعدام رميا بالرصاص والذي هو في حد ذاته ممعن في طقوسيته، بل هو في الاساس النتيجة النهائية لسباق طقوسي حول السلطة:
في الماضي كان الضباط والجنود المكلفين بتنفيذ الإعدامات في (الدروة) يقفون وهم يعلمون أنهم يشهرون أسلحتهم على صدور ضباط ينتمون لنفس المجموعة الاثنية التي ينتمون لها، بل في بعض الأحيان يكون الضابط او الجندي من نفس قبيلة الضابط أو الجندي المزمع اعدامه، لكنهم لم يتوانوا لحظة في إطلاق الرصاص – ورغم انه شيء بغيض مجرد ذكر ذلك، إلا انه لا بد من ذكره – أما اليوم يمكن أن يعدم عابر سبيل في أي بقعة في السودان لمجرد سحنته ونسبتها لقبيلة ما. هذا فقط مؤشر آخر لانحدار المؤسسة السودانية الى درك سحيق.
ولكن لماذا يحدث ذلك؟ ولماذا يحدث الآن؟
المؤسسة الطقوسية، في سباق السلطة والثروة، تحاول أن تجعل من مجتمع بالغ التعقيد والتنوع مجتمعا بالغ التسطح والاستواء وتزج به في رؤية بالغة التبسيط والأحادية. أكثر من ذلك أنها تلجأ لحلول سريعة من قماشة القديم كما تراه، دون النظر للملابسات الجديدة والتحولات التي جرت تحت انفها، دون أن تنظر للهويات الجديدة التي عجمتها تجارب الماضي حتى الفاشل منها وحتى التي تمت هزيمتها منها.
ببساطة، هامش التكيف/او التأقلم المؤسسي (Institutional Adaptability) الذي استفاد منه إبراهيم عبود وجعفر نميري وعمر البشير وغيرهم من الساسة المدنيين لبعض الوقت قد نفد. أي بمعنى آخر ان درجة التكيف والتأقلم المؤسسي سقطت الى درجة أقل من الحد المطلوب لصيانة المؤسسة تحت ظروف وشروط متغيرة.
ذلك بالرغم أن القصد من المأسسة نفسها (أي بناء مؤسسة) هو تقليل التعقيدات التي تواجه الفرد والجماعة في اتخاذ قراراتهم، إلا ان المؤسسة الطقوسية انحدرت بكل شيء تدريجيا. انحدرت بكل شيء كان من شأنه حلحلة قرارات الفرد والجماعات وإعطاء السودانيين بعض الوقت للوصول الى ترتيبات مؤسسية جديدة تعتمد على الحقوق. بل في تبسيطها للحلول السهلة، زادت المؤسسة الطقوسية وضاعفت المشاكل المزمنة تعقيدا. فبدلا من الجيش الواحد صارت لدينا جيوش وبدلا من حركة كفاح مسلح واحدة أو اثنتين، صار لدينا عشرات، بل تنقسم الحركة الواحدة على نفسها عدة مرات في سباق قادتها الطقوسي نحو الثروة والسلطة والمكانة. هذه كلها نتائج الترتيبات المؤسسية الطقوسية وحلولها التي ورثناها عن الآباء.
من هنا اود ان اختتم بالإشارة الى سمة أخرى بارزة من سمات المؤسسة الطقوسية،سأتناولها في الحلقة القادمة. وهي سمة يلاحظها الجميع الآن، وهي صعوبة، بل احيانا استحالة، التوصل الى اتفاقات او مساومات بين مكونات المجتمع المختلفة. سأركز في الحلقة القادمة على عجز الحركة المدنية وأحزابها ومنظماتها على التوحد، على حيرة بعض الشيوعيين في حزبهم و نداءاتهم الحارة لحزبهم للانتظام أو على الأقل الجلوس مع ما يظنونه جبهة عريضة. سأركز على عجز الحكومة الانتقالية المدنية وفشلها وصلة ذلك بالمؤسسة الطقوسية والفشل الذي اتوقعه لجبهة تقدم في استنساخها بعناد لتجربة الطقوسية. أضف الى ذلك، إن تمكنت، سأناقش معكم جرثومة التشرذم والانقسام الاميبي التي اصابت الحركات المسلحة.