‫الرئيسية‬ مقالات تخليص السودان من براثن حرب لا تُبقي ولا تذر.. القضاء على المؤسسة السودانية الطقوسية واجتراح ترتيبات مؤسسية جديدة أو الانهيار (1)
مقالات - 4 نوفمبر 2024, 20:48

تخليص السودان من براثن حرب لا تُبقي ولا تذر.. القضاء على المؤسسة السودانية الطقوسية واجتراح ترتيبات مؤسسية جديدة أو الانهيار (1)

محمد عبد الخالق بكري
هنالك دول وشعوب كانت موجودة في العالم هذا قبل 80 إلى 100 سنة قبل الآن واختفت. الكثير من السودانيين الآن خائفون، وهم على حق، أن يكون مصير السودان كدولة والمجتمعات السودانية هو نفس مصيرها.
في تقديري، لن ينجح أحد في هذه الازمة المتجهة نحو انهيار الدولة السودانية، بل انهيار المجتمع السوداني كما نعرفه.
الانحياز للجيش أو الدعم السريع ليس الحل. بل هو الإجابة الخطأ على السؤال الخطأ. الانتصار أو التقدم أو التراجع المؤقت لهذا الطرف أو ذاك سيستمر إلى وقت لا أحد يستطيع التكهن به، وستستمر الدائرة وارتكاب الجرائم في حق المدنيين، وخسائرنا كسودانيين ستتراكم. ومع مرور الوقت وتراكم الضغائن والاسي سيصعب تأسيس مؤسسة جديدة.
في الغالب أن يترتب على حصادنا الآن محو الدولة السودانية من الوجود وظهور كيانين او أكثر مكانها، ولكن لن يهنأ أي كيان باستقرار، ولو مؤقت، وذلك لطبيعة تكويننا الشائك والمعقد كأمة كانت في طور التكوين والتشكل. واضف لذلك أن الترتيبات المؤسسية منذ الاستقلال لم تستوعب هذا الكيان المعقد. ذلك لأنه في الأساس ولدت المؤسسة على درجة ما من الطقوسية وانحدرت تدريجيا نحو طبقات أعمق وأعمق من الطقوسية.
إننا نشهد انهيار وتداعي مؤسسة آيلة للزوال وكل كيان جديد يترتب على هذا الانهيار سيحمل ما يشبه الحمض النووي للمؤسسة الساقطة ومصيره أيضاً الزوال.
إذن السؤال الصحيح هو: كيف نأتي بترتيبات مؤسسية جديدة تستوعب كل الأطراف السودانية – دون استثناء – نعم كلها دون استثناء – أعراق وثقافات وبما في ذلك أفكار سياسية (Political doctrines). كيف نستوعب خلل المؤسسة المحتضرة ونأتي بترتيبات مؤسسية جديدة تحفظ كيان الوطن الحالي وترفع عن كاهلنا مأساة هذه الحرب؟
كتبت في ديسمبر 2023 خمس مقالات عن سقوط المؤسسة السودانية في الطقوسية وانحدارها نحو الزوال. مقالي الراهن يستند على معظم المقولات في الخمس مقالات السابقة. ولكن اود هنا اطرح بشكل أكثر تفصيلا المزيد من الأدلة عن اسباب ودواعي انهيار وانكسار المؤسسة من حيث هي، أي كانت، في اي مكان في العالم، وأود أن أرصد ذلك فيما يتعلق بمؤسستنا السودانية الراهنة.
اي باختصار سأنحو في هذا الجزء من المقال الذي سيكون على حلقات الى طرح سمات المؤسسة الطقوسية الآيلة للسقوط واقارنها بواقع مؤسستنا.
ولكن، قبل ذلك علينا أن نقر، وهو إقرار مرير لن يبلعه البعض بسهولة وربما يتركوا إكمال قراءة هذا المقال قبل إكمال الإقرار التالي:
إن انحدار المؤسسة السودانية واحتضارها الآن ليس مسؤولية حزب المؤتمر الوطني او (الفلول كما يحلو للبعض)، او حزب المرحوم الدكتور حسن عبد الله الترابي المنقسم على نفسه، وحده. ليس مسؤوليتهم وحدهم، وإن كان لهم القدح المعلى في تسريع انحدار المؤسسة السودانية في طقوسيتها الكامنة المتجهة الى الانهيار. باختصار الانهيار كان سيحدث بهم أو بغيرهم، فقط سيختلف التوقيت والملابسات، ذلك لان حتى المؤسسات الآفلة يتوفر لها الوجود فيما يعرف بال (borrowed time) الزمن المستلف، او الزمن الضائع إن شئت. ونحن، كسودانيين، استنفدنا كل الزمن المستلف لتأسيس مؤسسة حقوقية عادلة منذ انفجار الحرب الأهلية الاولى في 1955 وظهور منظمة أنانيا – التي تعنى بالمناسبة (سم الافعي)- وها نحن الآن نتجرعه هذا السم في عقر دارنا.
يجب الاقرار بذلك لأن عمل الحزب المذكور وانقلابيه، كان من نفس طينة وصلصال المؤسسة التي وجدوها أمامهم. لذلك في تقديري يعود الانهيار لعوامل بنيوية سبقت استيلائهم على السلطة. وكما قال الطيب صالح “أن سقف البيت حين يسقط، لا يكون قد سقط فجأة، ولكنه يظل يسقط منذ ان يوضع في محله أول مرة.” علينا استيعاب ذلك إن أردنا ان نخطو خطوة الى الأمام في سبيل فهم المأساة الراهنة.
هذا الإقرار ليس لتبرئة أي أحد ارتكب جريمة قتل او تجريد من الحرية او تعذيب أو اي نوع من الاستغلال ضد فرد سوداني او جماعة سودانية، في حق أي مواطن او مجموعة سودانية، فلتجري العدالة مجراها، ولكن فقط محاولة للفهم وأن نأخذ بتلابيب مأساتنا من جذورها وننظر للأمام.
الآن لنتوجه إلى السمات البارزة في المؤسسة الطقوسية الآيلة للسقوط، و نقارنها بما لدينا:
1- يسيطر على المؤسسة الطقوسية ما يعرف ب (Short-Run-Rationality in Decision-making) وهو ما يمكن ترجمته بالعقلانية قصيرة المدى او الأمد في اتخاذ القرار، وذلك فيما يتعلق بأي تعامل او بالأحرى اتخاذ أي قرار مؤسسي. وهذه سمة قديمة في نمط التفكير لدى ما يمكن أن تسميهم الآباء المؤسسين لشعبنا الذين اورثونا هذه المؤسسة المعطوبة. يرتبط هذا النمط من التفكير ارتباط إلزاميا بالانقلاب العسكري كوسيلة للاستيلاء على السلطة.
لك أن تقول لي عبد الله خليل، او حزب الامة، او الرشيد الطاهر بكر، أو عبد الخالق محجوب ،أو شنان أو كبيدة أو جعفر نميري، أو هاشم العطا، أو حسن حسين، أو برشم. الخ كل هؤلاء الرجال جُبلوا من نفس طينة هذه المؤسسة.
هذا لا يهم الآن، المهم هو تقدير الخسارة الفادحة من منظور مؤسسي لهذا النمط من التفكير القاتل لتأسيس مؤسسة ذات ديمومة في نظر هؤلاء الرجال الشجعان الأذكياء رغم قصور نظرهم.
مرة أخرى تخطر ببالي عبارة خالدة للمرحوم الطيب محمد صالح في وصف إحدى شخصياته الروائية: “رجل منحه الله الذكاء وحرمه من الحكمة.”
لذلك سأكتفي بتناول سريع لتجربتين من تجارب الانقلاب العسكري في شرح مضار العقلانية قصيرة المدى او الأمد، وآثارها المدمرة على المدارس السياسية السودانية وانحدارها بها وبالتالي الانحدار بالمؤسسة الى درجة أدنى من قاع الطقوسية. وللمفارقة يسمي بعض تلاميذ دراسة المؤسسة هذه العقلية التي قادت تلك التجربتين ب ((Hyper Myopic Rationality):
التجربتان هما حالة الأستاذ عبد الخالق محجوب والدكتور حسن عبد الله الترابي. كلا التجربتين انتهت نهاية مأساوية.
في حالة الأستاذ عبد الخالق محجوب، وبغض النظر عن مغالطات الشيوعيين حول انقلاب 19 يوليو1971، والعبارة الغارقة في الطقوسية لأستاذنا الجليل المرحوم محمد ابراهيم نقد: ” تهمة لا ننكرها وشرف لا ندعيه،” كانت النتيجة القضاء على أكبر حركة نقابية ونسائية وطلابية وشبابية في الشرق الاوسط، والرجوع بها الى الخلف عشرات السنين. دعك عن مصير الحزب نفسه الذي صار على هامش الحياة السياسية منذ انتخابات 1986، فقد نجح فقط في انتخاب ثلاثة نواب، بعد أن كان لديه أربعة أضعاف هذا الرقم في آخر انتخابات ديمقراطية في منتصف ستينات القرن الماضي.
اما في حالة الدكتور حسن عبد الله الترابي وحزبه فقد كانت النتيجة أكثر مأساوية من منظور مؤسسي، فقد خسر حزبه موقعه كثالث أكبر قوة برلمانية في البلاد بعد انتخابات 1986 وكان حزبه على وشك أن يصير القوة الثانية برلمانيا، إذا قدر لنا أن نخوض انتخابات أخرى بعد 1989، مع اعتبار إنقسامات الاتحاديين والاخوة الاشقاء التي لا تنتهي.
ثم تحول الحزب إلى جزر معزولة، بعد انقلابه العسكري، وأغرق نفسه في طقوس الحروب الاهلية، وصار قادته التاريخيين في انقساماتهم يتشبثون بأهداب سلطة غاشمة ويلتف قادته حول الرجال الاقوياء في المنظمة العسكرية أو الأمنية ويحاولون تشكيلها على هواهم إلى أن عصفت بهم جميعا، ثم سقطت في نهاية الأمر. هذا غير خسارة المشروع الذي تطلع إليه المرحوم الدكتور الترابي وهزيمته الفادحة والماحقة على أيدي تلاميذه.
(يمكنك أن ترجع للحسرة العظيمة في شهادة المرحوم الدكتور الترابي الاخيرة في سلسلة قناة الجزيرة).
أن الانقلاب العسكري نفسه، الذي تنكبه عبد الخالق محجوب والدكتور حسن الترابي هو انعكاس لطقوسية المؤسسة التي نحن الآن نخوض في ركامها، ابتداء من موسيقاه العسكرية ومراسيمه وتعيناته وأناشيده اللاحقة وانتحاله لشخصية المخلص والمنقذ للأمة. والانقلاب في حد ذاته مصنع كبير للشعائر والطقوس بالنسبة للمنتصر والمهزوم معا. يتضمن ذلك خلق هويات جديدة وسرديات داعمة (enabling myth) وتسبيب كافي او ما عرفه (Thorstein Veblen) بالكفاية الاحتفالية.
السؤال في هذا الجزء من المقال: لماذا يلجأ قادتنا الى هذا التكتيك؟
مهما قيل عن أهداف الانقلاب (النبيلة) سواء كانت سلطة العمال والتحالف الوطني الديمقراطي أو إحياء الدين والأمة والمشروع الحضاري إلا أنه في نهاية الأمر (Ceremonial Race to Differential in Power and Status) هو سباق طقوسي نحو التفرقة في السلطة والمكانة في المجتمع. فشل انقلاب 19 يوليو 1971، وكان هدفه هو ذلك بالضبط، مما يعني تجريد مرتقب لمجموعات سودانية من حقوقها ونصيبها في السلطة والمكانة ونجح انقلاب 30 يونيو 1989، ونجح بالفعل في تجريد جماعات سودانية من نفس الشيء، نفس الحقوق، بل نكل بهم.
ما يحدث الآن، بين الجيش والدعم السريع، هو انقلاب عسكري آخر، بغض النظر عمن أطلق الرصاصة الأولى او خطط له، وبغض النظر عمن تصدى للانقلاب. وبغض النظر عن سرديات دولة 1956 او حرب الكرامة وعرب الشتات. الخ ما يحدث الآن هو مواصلة لتقاليد المؤسسة الآفلة. وما يقال، على لسان الطرفين عن ان مُخطط الانقلاب كان يتوقع له النجاح في ساعات قليلة هو حقيقي.
اي أن الطرف الذي خطط للانقلاب فقد فات عليه ما جرى للمؤسسة في العقود الأخيرة وانحدارها أكثر وأكثر نحو الطقوسية. فإن انتصار الانقلاب، اي إنقلاب سوداني، ليس نهاية القصة، بل البداية المأساوية لخواتيمها.
المؤسسة من حيث هي، حقوقية او طقوسية، تسعى لحل او على الاقل تقليل التعقيد في التعامل بين مكونات المجتمع – تعقيد علاقات أنظمة المجتمع (Solving or Reducing, at least Systems-and-subsystems complexity). اما المؤسسة الطقوسية الانقلابية فهي ليست فقط عاجزة عن ذلك، بل ان سعيها الأرعن نحو ذلك يؤدي الى نتائج في غاية الخطورة تؤدي في نهاية الامر، مهما حاول سحرة المؤسسة الطقوسية، الى الانهيار الكامل وهذا موضوع الحلقة القادمة.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 1

كن أول من يقيم هذا المقال

تعليقان

  1. let us cry togher the unfortunate departure of al-Qetay
    he would have enjoyed the reading of this very academic and factual article.
    The only thing that came to my mind from the first reading is that
    not like you I see the history of Sudan as acontinuity that had started by the dream of Alara
    the mother that established the Dynasty of Merowi kingdom
    we had been through times that are more destructive than the period from end of the Mahdy stateuntill now
    the germ that kills the Sudanese institution comes fro a very simple idea
    which is I can defeat my Sudanes rivals with the help of starngers
    the stangers can be thoughts or people
    The role of Egypt due to the way fight for their interest had been evident in all the severe changes we went through
    the role of the army was also evident
    The war will end after taking what it should take
    what will remain will have a go back to the Nubian root
    the same as what happened when kingdom of Souba had fallen
    the ruling groug of the Funj was Nubain and non muslim or christian
    that what was wriiten by Mirghani Abbashar and Prof Mutassim

  2. Thank you so much, Taha. I really appreciate your point of view, and thanks again for the encouragement. I believe all points of view are welcomed during this crisis, and I really believe that no one man can get us out from this dilemma. The role of one theorist has ended; the role of groups’ thinking has arrived. I learned from my professional training that no one man or a woman can come up with a solution for the common problems
    Best,

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *