‫الرئيسية‬ ثقافة فنون (قدلة في جمهورية عوض كيتا) نص مستعاد للأستاذ عبد الله محمد عبدالله 
فنون - 4 نوفمبر 2024, 20:29

(قدلة في جمهورية عوض كيتا) نص مستعاد للأستاذ عبد الله محمد عبدالله 

عبدالله محمد عبدالله
كنت قد عبرت ( الكريزى خور ) من امام منزل الاستاذ عابدون حماد ، عصرا ، و اتجهت شرقا فى طريقى الى معهد الموسيقى و المسرح بالعمارات . الحقيبة التى تدلت من كتفى اليمنى أثقلتها الكتب و المنقولات التى لا غنى عنها : الفلوت ، ، المترونوم الالكترونى ، جهاز التسجيل الصغير و بعض الاشرطة . أحسست بثقلها فازحتها الى اعلى ثم حاولت منع تأرجحها مع خطوى اذ أمسكت حاملها السميك بيدى اليمنى فاستقرت ، الى حين .
ككل الايام التى تسبق الامتحانات ، ازدحم ذلك اليوم بالطوارئ التى ترمى بها الاقدار فجأة ، فتضيق دائرة الخيارات بصورة تطيح بسلسلة الاولويات ، بلا رحمة . وهكذا وجدت نفسى خارجا من منزل الاستاذ صلاح اسماعيل عقب اجتماع لا علاقة له براهن همومى الا ما يربط الحياة كلها بمشروع الثورة الوطنية الديمقراطية .
و فى سياق اختلط فيه الحابل بالنابل ، كنت استعرض ما تمخض عنه الاجتماع من تكليفات و اعباء ، و ماينتظرنى من مراجع و مقالات ، ومن مران و استعداد للامتحان ، حاولت تصور حياتى فى الاسبوع المقبل ، فتقاطرت صور الاماكن و الوجوه و تطايرت اوراق النوته الموسيقية فى مخيلتى و قد أحالها قلقى الى اعصار من العلامات العشوائية و الخطوط المتراقصة صعودا و هبوطا .
المقطوعة الكورية التى تشكل جزءا من الامتحان العملى ، ما من لغة تعين فى تفسيرها ، فهى كورية الرموز و المحتوى .. غاية الاجتهاد فيها ان تسعى الى المواءمة بين عربية ( مستركيم ) المحدودة و خيالك الواسع . اذ كيف تفسر عملا موسيقيا لا تعرف حتى عنوانه بالضبط ؟ فليس فى الموسيقى من امر قاطع ، عدا ان يحدد المؤلف المقام و الميزان ، وسرعة الايقاع بعدد الضربات فى الدقيقة . أما سوى ذلك فشئون يحتكم فيها الى الاحساس الفردى و التقدير الذاتى ، و هنا تتقاطع رؤية الاستاذ و الطالب ، كما تتتقاطع رؤية العازفين و قائد الاوركستر الذى يسعى جاهدا لاذابة تلك الفوارق الفردية فى عمل يحمل ملامحه هو ..
طافت بذهنى – وأ نا اسير – مقولة ( نيتشة ) الذائعة : كل الفنون تطمح الى ان تكون كالموسيقى . انه يشير الى مقدار ما تتيحه الموسيقى من حريه ، فهى فن بلا قيود ! طيب ! علام يضيق علينا الاساتذة الخناق ؟؟ يبدو ان نيتشة كان يتحدث عن حرية المؤلف الموسيقى ، عن وفرة الخامة الموسيقية و انعدام القيود حالة انشاء العمل الجديد . . لا شئ يفرض على المؤلف الموسيقى الانتقال من هذا الصوت الى الذى يليه سوى اختياره المحض ، اذ يصدق فى الموسيقى ان كل القواعد عرضة للتجاوز و كل القوانين عرضة للخرق . أين معشر الطلاب من هذه الحرية ؟ هنا ، تبدو عبارة نيتشة مخاتلة بلا شك ، فما من حرية للمنفذ .. انه محكوم برؤية المؤلف متى كان حاضرا ، و رؤية الاستاذ متى ما وضعته الاقدار تحت رحمته ، و رؤية المغنى متى ما فك الحرف و ألم بمصطلحات الأداء . قال احدهم – ناشئة المغنيين – و هو يحث الصولويست فى الحفلة : بالله كتر من الدييزات . المسكين ، لا يعرف ان اضافة علامة رفع واحدة ( دييز ) تفضى الى سلم موسيقى جديد . فالدييز الذى يحيل مقام دو الكبير الى مقام صول الكبير ، يرتفع بأساس السلم وكل اصوات الاغنية درجات خمس !!
– 2 –
وضع ( مستر كيم ) سبابته اليمنى على سطر من الكتابة الكوريه المنمقة ، ثم رفعها و قارب بينها و سبابته اليسرى فى حركة نقلت ذهنى الى عنترة ابن شداد :
و خلا الذباب بها فلـيس ببـارح
غردا كفـعل الشــارب المـترنم
هــزجا يحــك ذراعــه بـذراعـه
قـدح المكب على الزناد الاجـذ م
كان يحك سبابتيه و هو يحركهما أماما و خلفا ، و يقول ( هنا .. غنا سوا سوا ).. فهمت انه يريد لهذه القطعة ان تعزف بما يشبه الغناء .. دولسيى.. كما فى المصطلح الغربى !
شفت كيف ؟ الكلام هنا عن تكنيك الاداء . كيف تستطيع ان تعطى المستمع الاحساس بانك تغنى و أنت تعزف . اى ان تبتعد بالآلة الموسيقية عن طبيعتها و تمضى بها نحو رحاب الصوت البشرى . قال كثيرون ، فى مقدمتهم امام الموسيقيين هاندل ، ان حلم كل آلة موسيقية هو ان تكون كصوت الانسان . تحســبو لعب.! هذا مما يسهل قوله و يصعب فعله . و التفسير العملى لقولهم هذا هو ان طموح كل عازف هو ان تصير الآلة التى يعزفها جزءا منه و امتدادا له ، . فتطويع الآلة هو فى حقيقة الامر تطويع لأنامل العازف وخياله و عقله . و الاقتراب من الصوت البشرى يعنى اضفاء السلاسة و المرونة و التلقائية التى تميز الغناء على الاداء الآلى .
طاف ذلك بذهنى و انا اسير عصرئذ فى الديوم الشرقية مبتعدا عن السوق و مقتربا من الشارع الذى وصفه الشاعر الراحل اسماعيل حسن ذات يوم :
بين الديوم و الامتداد شارع ظلط
و الفرق ما شارع ظلط
الفرق آلاف السـنين
أضحكنا الشاعر المصرى عبدالرحمن الابنودى فى احدى زياراته للسودان و قد كان مرافقه فيها من الجهة الرسمية هو الشاعر الراحل اسماعيل حسن ، عندما قال مغايظا اسماعيل :
بين الديوم و الامتداد .. شاعر غلط
مشيرا الى تورط اسماعيل فى نظام مايو ….. بما لم يحفظ لاسماعيل موقعه بين الغبش ، و لم يكسبه مكانا عليا بين المايويين . و يبدو ان كثيرا من الناس لم تعجبهم تحولات ( ود حد الزين ) .. عندما استمع الراحل عمر الحاج موسى ، للفنان حمد الريح و هو يغنى من شعر اسماعيل حسن و الحان صلاح ابن البادية اغنية ( طير الرهو ) : قال ساخرا : و الله يا اسماعيل يا خوى الظاهر عليك اتغيرت كتير ، فى مزارع بيقول ( التراب ملينا عيشتو) ؟
سألت اسماعيل ذات مرة : لماذا و متى قرر ان يغير فى قصيدته العصماء ( بلادى ) البيت الشهير
من ( من ترها قا لا عن ميسنا ) الى ( من ترهاقا لا عن جعفر المنصور ) ؟
تبسم فى اسى و قال : و الله جن و غبا ، أخدنى العرض العسكرى !!!
– 3-
فى تأملى لأمر الغنائية التى اوجبها علىَ الكورى ، عرجت على موسيقانا ، محاولا تبين ما استعين به منها على انجاز امتحانى الوشيك . ليس غريبا ان يكون منجم الغنائية فى ثقافتنا الموسيقية هو الغناء الشعبى و الفولكلورى ، بعفويته و طلاقته . فقد خلقت اغنيتنا الحديثة وضعا معكوسا يقتدى فيه المغنى بالآلة و يحتكم اليها عوضا عن السيطرة عليها و تسخيرها ، ألا حمدا للباشكاتب ، الذى قطع فى تسخير العود اشواطا ، و لبدر التهامى و برعى و بشير وود الحاوى الذين اسهموا فى سودنة ما استصحبوا من الالات الموسيقية الوافدة.
ساقنى ذلك الى استعادة ما اعتبرته ضربا من الاغانى التى اذا ما استلهمناها كعازفين ، ساعدتنا فى تأسيس مدرسة تعبيرية فى الاداء الآلى . استعرضت منها الكثير ثم وجدتنى أغنى :
منقة كسلا .. حلوة و صافى لونها
تومتى فريدة .. وغرب القاش سكونها
متأملا ما فى ذلك اللحن المختصر من ليونه تسخر من اعتى العازفين ، و تضع مهاراتهم فى امتحان عسير ، فهو قطعة محكمة النسج من دوبيت البطانه و غناء البجا و طمبور الشمال !
لم انتبه الى ان صوتى – و انا أغنى لنفسى – قد تجاوز الهمس ، و صار مما يصل الى أسماع المارة . الى جانبى الايسر و قليلا الى الوراء ، كنت ألمح ظلا ترسله الشمس لشخص يسير ورائى ،كانت مشيته تتسم بالنشاط و التقافز دونما صوت لوقع اقدامه على الارض . لم اهتم . واصلت اغنيتى : منقة كسلا …. كان ذلك الشخص قد اقترب كثيرا ، ثم فاجأنى :
– اسمع … هو انتو وكت كسلا دى عاجباكم ، ما تقعدوا فيها و تاكلوا منقتكم هناك .
كان محدثى هو عوض كيتا .
– لكين ياعوض انا ما من كسلا…انت عارفنى كويس .
– طيب ياخى مالك و مال كسلا .. حاجة كولن كولن دى عمر عبدو عملها لى منو ؟ نحن ناس الديم .. زيتنا فى بيتنا . كفايه البقى علينا فى سانت جيمس … امشى لى عمك قسم الله فى المايقوما و الله يملاك غنا لمن تقول بس ….
واستطرد :
– قلت لى ، شغالين وين الخميس الجايي ؟ ان شالله عندنا بى جاى .. بقيتو فارين طوالى ، بعيد بعيد .. لكين غناكم ده مافى ناس فاهمنو زينا نحن … تمشوا و تجونا !!
ثم ضاحكا:
– قالوا لى ود ابوزيد رجع يعلم الشباب الجيتار عند فتاح الله جابو … شغل جلاكين .. من زمن اضواء بحرى ياخى .. قول ليهو زمانكم فات و غنايكم مات !
أسرعت فى خطوى مسايرا له ، و استمر كشأنه ، متقافزا فى مشيته و افكاره . ففى راس عوض تعشعش الديوم ، بمبانيها و ميادينها و بنيها .. تاريخها و احلامها ،افراحها و مآسيها ، ، و كأنه اذ يسعى فى شوارعها بطوله الفارع ، قادرا على رؤية ما يدور داخل بيوتها كافة . وفى مسيرته اليومية من و الى المنطقة الصناعية بالخرطوم كان عوض يطمئن الى احوال العباد و المنشآت ، من مطعم العم رمضان و اكشاك النيلين ، الى مطعم الفردوس و بار اسبيرو ، الى حراسات القسم الجنوبى و فرن سيحا … قال :
– شفت ود اختى الجا من المانيا بشتغل الجيتار كيف ؟ لكين صاحبكم بتاع الساكس الساكن مع عوض هارون ده فنان ، قالوا جا من الدويم …
و أردف:
– ما عندك لى شريط ود ناس كده ؟
أحب عوض الموسيقى ، ولم تُلحق كلمة كيتا باسمه عبثا ، ففى ذاكرته الضخمة تدور أغانى الافلام الهندية و ثيمات كلينت ايستوود و أغانى آيزاك هيز من فيلم ( بلاك سامسون ) الذى فصل عوض زيا يماثل زى بطله و صعد به الى مسرح سينما النيلين خلال الاستراحة !!! كان عوض مرجعا فى أغانى جاز الديوم وجاز النسر و ثنائى ديم القنا ، و رمضان زايد . و اذا ما لزم عوض الجابره و حكى عن ( ابو الروم ) و اغانيه و حفلاته و هزائمه و انتصاراته فى الطاولة فأنت امام مؤرخ محيط . وليس من لحظة اشد امتاعا من وقفة مع عوض و قومه فى ميدان المايقوما ، تحليها اكواب الشاى و قراطيس تسالى العم باب الله ، و تحيلها دعاباته و قفشاته الى سامر لا ينفض الا بايذان العم الفكى بفتح ابواب سينما النيلين لمرتاديها .
فى حفل زواجه طلب من مصطفى سيداحمد اغنية لم يغنها مصطفى منذ وقت طويل تبدلت فيه وجوه العازفين و انتقل مصطفى الى طور آخر فى مسيرته الفنية . قال مصطفى للعريس ، الذى هو عوض كيتا :
– بس الفرقة ما حافظاها .
– يا استاذ انا براى فى الناس ديل العارفها و دايرها .. غنيها لى عليك الله ، ان شالله غلط .
– خلاص بنعمل ليها بروفة سريعة و نغنيها فى الفاصل الجاييى .
كان المسرح مقطورة نقل عملاقة جيئ بها خصيصا لتقف عليها الفرقة و كنا نطل على ضيوف الحفل من علٍ ، ضم عوض عروسه الى بدلته البيضاء و انهمك راقصا . تلك رقصة اخترعها عوض بلا جدال ، فأيقاع اغنية ( الملام ) من الحان الموسيقار يوسف السمانى ، ليس مما يحتمل تلك الرومانسية التى اسبغها عوض على عروسه ، و رقصته . سألته ليلتها : و الرقصة دى جبتها من وين ؟ قال وهو يمسح عن عينيه ذرات الكحل . و الله الاغنية دى ما فى ليها اى رقصة تانية.. ديل ناس شتر ساكت .. بتاعين برطعة .. قايلين الرقيص نطيط . أخوك حريف .. شامى كابور بس .. و لا شنو رايك ؟ شفت الجرتق د ه كيف ؟ على اصوله . و امسك بالحرير الاحمر مقربا له من انفى .. – تقول لى صندليه ؟
كان ذلك عقب عودته من اغترابه القصير فى ليبيا .
-4-
دسست يدى فى الحقيبة بحثا عن شريط يناسب المقام ، بينما استطرد عوض فى سرد احوال الديوم وقد ترامى صوت الخزين عبر مكبر صوته الشهير مروجا لمباراة فى كرة القدم . عندما ناولت عوض الشريط قال ضاحكا :
– اوعى تكون فيهو الاغنية بتاعة كسلا القبيل .. جنكم منقة و برتكان و عنب .. جناينية ؟-
– يا عوض انت عارفنى ما من كسلا .
– سلامه كبيرة .
قلت : لكين انت الظاهر عليك ما شفت كسلا … و ما اكلت موزها و منقتها … لم يدعنى اكمل .
– يا زول والله نحن الديم ده ما بنطلع منو .. بحرى لو ما الكازينو ما بنقبل عليها … و امدرمان دى الا بى دعوة و تأشيرة و كده . بعدين المنقة ما ماليه البلد هنا ياخى .. المنقة تجينا بى كرعينا براها .. . البودينى كسلا شنو ؟ يومداك كمال بركيه غنى لينا ( اسأل العنبة الرامية فوق بيتنا ) و ( الجريف و اللوبيا ) … نحن غنم ؟
رفع كفه اليسرى الى عينيه يحجب عنهما اشعة الشمس المائلة ، و خاطبنى كمن يفضى سرا :
– قلت ليك …. الزول داك كايسو لى زمن .. شكرا على الشريط …
و اتجه جنوبا متوغلا فى ديم التعايشة.
واصلت سعييى ، و انا أحاول توطين آراء عوض كيته فى مشروعى الموسيقى ، الذى لابد ان يتسع لاحساس من تلهمهم المنقة اشعارهم و الحانهم ، ومن لا يرون فيها سوى فاكهة أخرى ..
و ما ادرانى ان كان مؤلف القطعة الكورية قد استهلم فاكهة ما ، او فاتنة ما ، أو ظاهرة ما .. فما اكثر ما يلهم فى هذه الدنيا ..
و يا لها من دنيا .
سنوات طوال تقضت سـراعا
قبل ايام قلائل ، سألت صديقا التقيته فى المسنجر : وين عوض كيتا ؟
جاءنى رده ، كآخر ما اتوقع : عوض بقى فكي كبير و الناس ما يدوك الدرب يازول.. تصدق؟
________________________________________
* نعى الناعي عوض كيتا. و هذا شئ مما كان منه. صادق العزاء لكل احبابه و ذويه في الديم و حيثما كانوا.
* صورة عوض كيتا من بوست للأستاذ عماد عبد الله، له الشكر.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 2

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *