‫الرئيسية‬ ثقافة تداعيات يحيى فضل الله (متاهة)
ثقافة - 28 أكتوبر 2024, 10:36

تداعيات يحيى فضل الله (متاهة)

يحيى فضل الله
تعقدت الأمور أصبح عاليها سافلها ، ما عادت الأشياء هى الأشياء، هربت الأسماء من معانيها ، اختلطت المعانى تاركة مسمياتها . كان الزمن وقتها لا يعني شيئا، لم يعد الناس يفهمون شيئا ، تزيفت مفاهيم ، اختلطت أقاويل، اصبح الظرف خانقا ، لم يعد محتملا .
أصبحت نظرات الناس فارغة ، خطواتهم على الشوارع الكبيرة تمضى دون أثر واختفى وقع الأقدام على الدروب النائية البعيدة ، لم تعد تسمع أصواتهم ، غابت تلك الصيحات الحميمة التى تسمع فى الأفراح والاتراح ، ضاعت الهمسات فى بحر من الصمت المتعمد ، يقال إن آخر همسة سمعت كانت منذ زمن ليس بالقريب ، كأن الناس لا يعرفون بعضهم البعض ، انتهت الإشارات والتحايا .
واصبحوا يتحركون بالية رخوة و مجوفة ، كل فى عزلته ، حتى الأطفال كفوا عن اللعب واختفت ضحكاتهم وصرخاتهم الحبيبة من المنازل والشوارع
اصبحواا هامدين بلا أى معنى من معانى الطفولة .
لم يبق سوى الفراغ ، الشوارع فارغة من الناس ، كان ذلك بعد صمت طويل ، اختفت التجمعات من الأسواق والشوارع والمطاعم والمقاهى ودور السينما والمسارح ودور الرياضة ، حتى البصات والحافلات ، المدارس فالجامعات فقدت تلاميذها وطلابها ، جمود فى كل مكان ، لم يعرف السبب وراء ذلك ولكن بعض التقارير تشير إلى هذه الحالة باعتبارها حالة شاذة لا يمكن تفسيرها وتحاول بعض التبريرات أن تضع أصابعها على السبب فى حدوث ذلك .
خانقة كانت الحياة ، ضغوط المعيشة تزداد يوما بعد يوم ، اختفت الضحكات والابتسامات ، اصبح الفرح غاليا ، اختفى الود بين الازواج ، لم يعد للحب طاقة تحسها لدى العشاق ، الأناشيد والأغاني الهابطة ، زحمة صفوف المواد التموينية ، الازدياد الهائل فى عدد التجار ، طعم اللاجدوى اليومى اللهث والجرى خلف المواصلات ، صعوبة العثور على الدواء ، الإعلانات المنتشرة المضخمة ، اللهث الدائرى وراء لقمة العيش ، مكائد تدبر كل يوم، ازدحام مكاتب الجوازات والهجرة ، سخف فى كل مكان – الكل يحاول الهروب .
فى البداية أخذ الصمت موضعه بين الناس ، لا أحد يتحدث إلى أحد ، لا أحد ينظر إلى أحد و كأن ذلك قد تم باتفاق ، لم ينتبه الحكام لهذا الصمت ، بل بدأت الراحة والدعة عليهم، حيث لا احتجاجات ولا مظاهرات ولا إضرابات وكانوا يواصلون حياتهم البهيجة مستغلين هذا الصمت ، يثرثرون فى أجهزة الإعلام وعلى صفحات الجرائد ولم ينتبه أحد منهم لخطورة هذا الصمت الذى خيم على الناس بعد أن جربوا كل وسائل الاحتجاج على كل ما يحدث فى مظاهر هذه الحياة التى فقدت طعمها .
كان آخر ما شوهد فى الشوارع هو بعض العاشقين ، كانوا يتنزهون مصرين على العشق وفى صمت رهيب ، ضاعت بينهم تعابير العشق ،أصبحت ملامحهم جامدة فلم يطيقوا بعض ولكنهم كانوا يحاولون ممارسة العشق قسرا عن طريق استرجاع الذاكرة التى هى نفسها قد عطلها الصمت – لم يستطيعوا الصمود فهرب الحبيب من الحبيبة وفر العاشق من عشيقته وبعدها صارت الأماكن خالية .
حدث ذلك فى يوم لا اسم له ، يوم من تلك الأيام التى ضاع فيها طعم الحياة ، كان ” عبد الله ” يقف فى صف ممتد بحثا عن الرغيف ، الأسرة تنتظره الزحمة لا تطاق ، انطلقت منه صرخة، بعدها وقع على الأرض ، حين حمل إلى المستشفى ، كان قد فارق الحياة ، هذه حادثة عادية ولكن ما حدث لـ ( آمنة ) بائعة الشاي لم يكن عاديا ،داهمها أحد شرطة السوق الشعبى وحطم الأوانى وحاولت مقاومته
ولكنه ضربها حتى سقطت بقية أسنانها وبعدها بكت ” آمنة ” حتى تشنجت وفقدت القدرة على الكلام ، يقال إنها أول إشارة لذلك الصمت الذى امتد إلى كل الناس ، تسرب وانتشر ، تداخل والتف بكل المخلوقات ، الكلاب نسيت نباحها واختفى من القطط المواء ومن الطيور حفيف أجنحتها ، حتى الصراصير والجنادب فقدت صوتها وكان الصوت الوحيد والمتضخم وفى انتشار قلق هو صوت الميكرفونات والراديو والتلفزيون ولكن لا أحد يسمع .( عطية ) مجنون السوق الذى كان الصراخ ميزة مهمة فى جنونه ، قبع تحت شجرة النيم ووضع يديه على وجهه وصمت ، أصوات الباعة المتجولين ابتلعها الصمت ، جمود فى كل مكان ، الشوارع خالية تماماً من الناس ، البصات ، الحافلات خالية وجامدة فى أماكنها ، الأسواق فارغة ، المقاهى ، والمطاعم ، كل أماكن التجمعات ، كل اوجه النشاط الحياتى لا حراك فيها ، فقدت كل الأماكن معانيها ، اصبح بعدها الزمن هلاميا لا يحسب ولا يعرف ولا يتذوق ، اللافتات المعلقة فى كل مكان وف أي وقت وفى أى شارع تحمل شعاراتها الميتة ولكن
• لا أحد يقرأ ، ولا أحد يسمع ، لا احد يرى ولا أحد يرى .
انتبهت أجهزة الحكم أخيراً لما حدث – تحركت الميكرفونات تدعو الناس إلى الظهور كانت تلعلع بكل قواها ، ارتجف الحكام لاختفاء الناس ، حاولوا كل الإغراءات ، ظهرت إعلانات متفجرة وملونة فى السماء تؤكد انخفاض الأسعار ، اخترع وبعناية جذابة شكل فنتازى لبيانات معلقة فى السماء توصى بهبات مالية لكل الناس ، كتبت على شوارع ألاسفلت والطرق الترابية استجابة لكل مطالب الناس ، دقت الطبول ، عزفت الموسيقى الصاخبة ، تكررت بكثافة نداءات منغمة وهامسة مستجدية ، وزعت الأطعمة الشهية بقذفها داخل البيوت معبأة فى أكياس النايلون الملون وذلك بعد اكتشاف أن طرق الأبواب لا استجابة لها ، وزعت بنفس الطريقة جوالات السكر والفحم وصفائح الجبن والزيوت وعلب اللبن وكراتين الصابون والشاى وكان الخبز يقذف بكميات هائلة ولكن لا أحد يستجيب .
اختفى الناس من كل مكان ، حدث ذلك فى يوم لا اسم له ، يوم من تلك الأيام ، حينها نشطت المخابرات وأجهزة التجسس والتحسس والتصنت والتلمس والتصرف محاولة أن تعيد الناس إلى ما كانت عليه ولكن لا جدوى ، تمت الاستعانة بجهاز الكمبيوتر وحيث أن الجهاز مصمم على خلايا وفعاليات الذاكرة الإنسانية صمت تماماً عن الإدلاء بأى معلومة تفيد فيما حدث .
كان وقتها مبنى الحكومة يضج بالاجتماعات وقرر الحكام اقتحام المنازل فى كل الأحياء وإخراج الناس منها عنوة، قذف بمسيل الدموع بكثافة داخل البيوت ، اخترق الرصاص الغرف والفرندات ، النيران التهمت منازل القش والكرتون وكانت طائرات الهيلوكبتر تحلق وتستكشف ولكن لم يكن هناك أحد .
اختفى الناس من كل البيوت ، الأحياء خالية تماماً من البشر، حتى السجون اختفى منها السجناء والسجانون واختفت تبعا لذلك الحيوانات الأليفة ، الطيور والعصافير هجرت أعشاشها واختفت ، الذباب اختفى ،النمل كف عن حركته النشطة واختفى ، صمت الناس واختفوا وكان نتيجة لذلك أن أجهش الحكام بالبكاء المتواصل وأعتبر أن ذلك الاجتماع كان فوق العادة .
فى ذلك اليوم الذى لا اسم له ، اختفى الناس من كل الأماكن ، لم تعد الأماكن أماكن لذلك بدأت الاماكن فى الاختفاء ، اختفت الأسواق ، الشوارع الترابية حولت نفسها إلى غبار واختفت ، الأشجار صفقت باغصانها مرة واحدة وضاعت فى الفراغ ، العمارات الشاهقة تقازمت حتى ضاعت معالمها ، أعمدة الكهرباء التصقت ببعضها البعض واختفت ، البصات الحافلات الشاحنات
اللوارى والعربات الفارهة تناثر حديدها فى الهواء وذابت ، الهواء جمع ذراته واختفى وتلاشى ، اختفت الارض ، اختفت السماء واختفى ما بينهما ،اختفى المكان ، اختفى الزمان ، اختفى ما بينهما اصبح الكون هلاميا ، حتى هلاميته اختفت .
حين صمت الناس واختفوا ، اختفت الأشياء المتعلقة بالناس وحين اختفت الأشياء اختفت معانيها وحين اختفت المعانى اختفت الأسماء وحين اختفى الشيء اختفى ضده الآخر ، اختفى الأصل والظل لم تعد هناك نقائض .
فى ذلك اليوم الذى لا اسم له يوم من تلك الأيام التى اختفت فيها الحياة ، اختفت فيها كل مظاهر الحياة وكل مظاهر الموت ، فى ذلك اليوم وبالرغم من هذا الاختفاء كان مبنى الحكومة معلقاً فى لا زمان ولا مكان وكان الحكام يتراكضون داخل هذا المبنى المصر جداً على وجوده بحثا عن مخرج ولكن هذا الركض لم يطل .
تهامست حجارة المبنى إلى بعضها البعض ، نقل الهمس إلى مواد السقف والأرضية ، والأرائك والوسائد الناعمة نقلت الهمس إلى البلاط اللامع ، عم الهمس كل المبنى وفجأة تناثرت مكونات كل المبنى واختفت لتترك الحكام معلقين فى لا مكان ولا زمان وحين فكروا فى الهروب وجدوا أن الهروب كفعل قد اختفى كما اختفت كل عناصر الحياة .

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *