ملامح من الحياة في كندا (8)
حامد بشري
هذه الحلقات أتت عفو الخاطر وليس هي بالمذكرات أو السيرة الذاتيه الهدف منها كما أوضحت سابقاً عكس الحياة الأجتماعية في هذه البلاد التي أُجبرنا للهجرة اليها أضافة الي أن أحد المرامي هو أخذ الأيجابي منها ، مع القناعة التامة بأن هنالك سودانيين مروا في المهاجر بتجارب يشيب لها الرأس حتي تحققت مجهوداتهم بنجاحات علي مستوي عالٍ الأ أنه لم يحن الوقت لتوثيقها والبعض تواضعاً منهم يري أنه لا توجد أهمية لذلك . وجدت أن بعض التجارب يستوجب ذكرها حتي يستفيد منها القادمون الجدد ، علي سبيل المثال قابلت طبيباً جلس لأمتحان المعادلة أحد عشر مرة حتي توفق وتم له ما أراد وآخر أمتحن ثمانية مرات لكي يعادل شهادة تخصصه التي تحصل عليها من أنجلترا ليصبح مستشاراً طبياً بكندا ، هؤلاء تُرفع لهم القبعات . ذكر هذه المحطات في هذا الوقت له أهمية قصوي بحكم أن بلدنا حازت علي المرتبة الأولي في أعداد النازحين واللاجئين في العالم وأن الكل أصبح يضع نصب عينيه المغادرة من السودان أو من منطقة النزوح الي أي منطقة آمنة يستعيد فيها كرامته . رجالاً ونساءً إعمارهم قاربت السبعين ولا زالوا يلهثون وراء الجوازات والهجرة أملاً في الخروج من وطن تهدم بأيدي أبنائه . الشيئ الآخر الذي يستدعي الكتابة حول هذه التجارب ، أن هنالك برنامج للم الشمل شرعت فيه الحكومة الكندية فحواه السماح للسوداني /الكندي الذي تنطبق عليه مواصفات محددة أن يتكفل بأحضار أقربائه من الدرجة الأولي الي كندا علي أن يتكفل بأعاشتهم لفترة عام مع السماح لهم بالعمل . عكس التجربة بأخفاقاتها ونجاحاتها قد يفيد القادمين الجدد بالتعرف علي أوجه الحياة وأخيراً لكي يتفهم السودانيين النازحين والعالقين بدول الجوار ودول الأقليم حجم المعاناة التي يعيش فيها ذويهم في الدول الأوربية بصورة عامة وأن السماء لا تمطر ذهباً .
من المهم للمهاجر الجديد الألتحاق بأي فرصة للعمل مهما كان دخلها متواضعاً ومهما كانت طبيعتها، هذه الفرصة قد يجد منها المرء فرصاً أوسع تتيح له الولوج في مجال تخصصه . التأفف عن العمل وطبيعته ومقارنته بما كان الشخص يمارسه في وطنه من المفاهيم التي لا تساعد الشخص في أمريكا الشمالية لاكتساب معارف جديدة ، بل وقد تكون مضرة.
ذكرت في بعض الحلقات أني لم أجد من يسبقني في هذه التجربة ، الشيئ الأيجابي الذي يمكن أن أقدمه في هذا المجال كمقترح هو ضرورة الألتحاق بمعاهد أكاديمية لتعليم اللغة أو تجويدها أذا أتيحت الفرصة للمتقدمين الوصول الي العالم الغربي . بدون تجويد اللغة تحدثاً وكتابة سيواجه القادم /ة الجديد بكمية من المشاكل والعقبات يصعب تخطيها الي بر الأمان . اللغة هي المفتاح لكل النجاحات . عدم الألمام بها يكون عقبة أمام المهاجر بالحصول حتي علي الأمتيازات التي يسمح له بها القانون من صحة وتعليم وسكن وضمان أجتماعي . للتغلب علي هذه المشكلة وخاصة للعائلات التي تصطحب معها أطفالاً ، شاهدت بعض الحالات الناجحة لأزواج من جاليات أخري حضروا الي كندا حيث صاروا يتبادلون الأدوار في التربية والتعليم . بمعني أن يبقي الأب بالمنزل مع الأطفال وتذهب الزوجة الي المدرسة وبعد أن تكمل تعليمها الذي يفتح لها أبواب العمل ، تأتي الفرصة للزوج لاكمال دراسته أو الألتحاق بوظيفة . وفي نهاية المطاف يكون الأثنان تحصلا علي عمل بالصبر والمثابرة .
من الضروري التذكير بأن هنالك بعض الأعمال والحرف التي لم نوليها الأهتمام الكافي وبأهميتها في السودان الأ أنها في الدول الغربية ذات دخول وعائد عالي حيث يمكن تعلمها وأتقانها ، كمهنة السباكة ، النجارة ، الميكانيكا ، أجهزة التسخين والتبريد ، تركيب أجهزة الأتصالات ، تجارة العقارات ، المجال الصحي بكل فروعه . العائد المادي لبعضها ينافس رواتب الأطباء . كل هذه المهارات أضافة الي اللغة تحتاج الي الألمام بالأجهزة الأليكترونية التي يستعملها العامل الماهر . ومن نافلة القول سوق العمل وتطوير المهارات الذهنية يفرض ضرورة التخلي عن فكرة عمل الياقات البيضاء التي غرسها فينا المستعمر . قابلت بعض الشباب الذين أبتعثوهم ذويهم من الصين الي كندا لا لكي يتعلموا الطب أو تكنلوجيا المعلومات أو المحاسبة هذه التخصصات موجودة بالصين وأنما أبتعثوهم لكي يتعلموا فنون الطهي بكندا . هذه بلاد لا يتطور فيها الأنسان الأ بالعمل .
المجتمع الكندي خليط من الأجناس والأعراق وحتي مساكنهم خليط من أناس أتوا من خلفيات مهنية مختلفة كحال السودان في العهود السابقة . بمعني أن يكون جارك من الناحية الشمالية سائق بص ومن الناحية الجنوبية ضابط في الجيش ومن الأمام معلم في مدرسة ثانوية ومن خلفكم من يعمل في متجر وبجواره عامل نظافة . الجميع هنا يتعارفون ويتجاذبون أطراف الحديث والكل يرحب بالآخر ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) . لذا توسيع دائرة التعارف قد يساعد في الحصول علي وظيفة . الجيران عون أساسي في أرشادات التوظيف أذا نما الي علمهم وظيفة شاغرة في أماكن عملهم فأنهم بالضرورة يوصون علي الجار ، لذا خلق علاقات حميمة مع الجيران يساعد في الأستقرار وفي أيجاد فرص أوسع للعمل . علاقات الأطفال في المدارس تعطي فرصة للآباء وألامهات بالتعرف بالآخرين . المجتمع الكندي لا زال يتعامل بالتثنية الشفهية في الحصول علي عمل ، بعض الوظائف لا يتم الأعلان عنها بل يتم الأستيعاب فيها شفاهة بالتوصية وهذه الفرصة تأتي للقادم الجديد حينما يتم التعرف والأختلاط بالمواطنيين الذين سبقوه وتحصلوا علي عمل .
كذلك من الأشياء المهمة للقادم الجديد لكندا قرأة أي مكتوب قبل التوقيع عليه . عقود العمل تتطلب قرأتها بتمعن ، الأيجارات والمعاملات البنكية يجب أن تُدرس بدقة . أيجار التلفونات والسيارات وما يصحبها من التزامات تجاه شركات التأمين تتطلب قرأة النصوص التي تكون عادة مطبوعة بحروف دقيقة . الرسائل البريدية التي تأتي من جهات حكومية من الضروري الأطلاع عليها ، الملاحظات التي تأتي مع الطالب /ة من المدرسة يجب أن تُولي العناية ، دفع الغرامات عن المخالفات يجب أن يتم في موعده المحدد والا ستتضاعف الغرامات مما يزيد الأعباء وتكلفة الحياة . أي خطأ يتم أرتكابه عن طريق عدم المعرفة أو عدم القرأة تكلفته المادية عالية .
من المهم كبح جماح القوة الشرائية للقادمين الجدد وخاصة الذين أتوا من الدول النفطية . أسمحوا لي أن أبيح لكم سراً ، طيلة فترة وجودي بكندا التي ناهزت الثلاثين عاماً ، أمتلكت فيها بدلتين الأولي تم شراؤها قبل حوالي ربع قرن حينما أُستدعيت لعمل معاينة للوظيفة الحالية والثانية تم شراءها قبل عام بمناسبة زواج أبني . قبل حوالي سبعة أعوام تم صرف فروقات غلاء معيشة بفضل مكاسب وأنجازات النقابة ، أغتنيت من هذه الفروقات جاكيت شتوي ثمنه يكفي لدفع مقدم أيجار شقه في القاهرة لنازح من السودان ، ولم أستعمل هذا الجاكيت طيلة هذه الفترة حتي العام السابق وأحتفظت بفاتورة الشراء . الفكرة ببساطة ، تشبه الي حد ما ( أحفظ مالك ) أذا اشتدت الضائقة المالية يمكن أرجاع الجاكيت والأستفادة من المبلغ . الي الآن لا أملك سيارة جديدة ، السيارات التي كنت أقودها كلها سيارات مستعملة وليس لي الرغبة في الوقت الحاضر في أغتناء سيارة جديدة . عادة السيارة الجديدة حين خروجها من الشركة وأمتلاك البائع للعقد سعرها يقل أوتماتيكياً . الشيئ الوحيد الذي يرتفع سعره في هذا القطر هو الأرض وما عليها من مباني . في هذه البقعة من العالم ، أذا أهادك شخص سيارة فيجب عليك أن تفكير الف مرة قبل قبول الهدية . أمتلاك سيارة يكلف الشخص علي أقل تقدير الف دولار شهرياً عبارة عن تأمين ووقود وأستهلاك وتخزين .
وبمناسبة كبح القوة الشرائية أنا وزوجتي ليسوا من مرتادي المطاعم ومنذ أن كنت أذهب مع أطفالي الي مطاعم ماكدونالد أجد صعوبة في نطق أسماء الطلبات من قائمة الطعام بحكم عدم التعود عليها . زوجتي ليس لها شغف بالأواني المنزلية ، نملك طقم عشاء واحد وصلنا هدية في عام 2003 حينما أمتلكنا هذا المنزل من الصديق جلال وزوجته سلمي والي الآن بحالة جيدة لم نفقد منه صحن ونستعمله في المناسبات الرسمية . وآخر أشترته لنا الوالدة رحمة الله عليها من متجر (جيش الخلاص) حينما حضرت لزيارتنا في عام 1998 . قبل فترة أهديناه الي (جيش الخلاص ) وأحتفظنا ببعض منه للذكري . أما أسِرتنا وما نفترشه فهي من بقايا القرن الماضي . غرفة الجلوس عبارة عن كنبة وكرسي وقبل الحرب فكرنا في زيادتها ولكن بالألتزامات الجديدة تجاه النازحين والعالقين عدلنا عن المقترح الذي أصبح ليس بالأولوية . التلفزيون الذي نستعمله من مخلفات الماضي وعلي هذا قس . التفكير في أغتناء أي من الكماليات يقودك بالضرورة الي التفكير في حالة النازحين واللاجئين مما يجعلك تصرف النظر عنه وبسرعة . علي القادمين الجدد مراعاة فروق الزمان والمكان والرسن (الكفيل) الذي أستدان ووقع علي كل الألتزامات حتي تم لك الوصول الي كندا. هذه البلد تمنحك الكثير ومن أهمها حق المواطنة والجنسية التي تسمح لك بالتنقل الي حيثما تشاء أضافة الي الامتيازات الأخري من علاج وتعليم ومأوي وآمان أذا أتبعت القانون والأرشادات . مخالفة القوانين والتفكير في التحايل علي السيستم الموضوع من الدولة المضيفة بدقة وعناية سيعرضك ويعرض كفيلك الي مسآلة قانونية قد تضطر السلطات الي أرجاعك من حيث أتيت . هذه فرصة عمر بمثابة ليلة القدر نتمني أن تستثمروها بنجاح وأن لا يغيب عن بالكم اللذين عانوا ويلات الحرب وتركتموهم خلفكم .
بعض القراء في الحلقات السابقة ، أستفسروا عن مصير أبنتنا (اليس) .
بعد أن أكملت دراستها بنيويورك عادت الي مسقط رأسها كندا وحاولت البقاء بمدينة (تورنتو) وعلاوة علي غلاء المعيشة بهذه المدينة لم تجد فرصة عمل بها وعليه أنتقلت الي مدينة (أتاوا) . كان هذا أثناء جائحة الكرونا ورب ضارة نافعه حيث توقفت الحركة والأتصالات المباشرة وبدأت في التقديم للعمل بالحقل الذي درسته عن طريق الأنترنت . واصلت بهمة عالية في تقديم الطلبات . البحث عن عمل يستغرق ساعات طويلة وهو في حد ذاته عمل . تمت لها معاينات والقيام بأدوار التمثيل (أون لاين ) ، وبحمده تعالي تم لها ما أرادت حيث أوكل لها القيام بأدوار وأن كانت ثانوية في بعض المسلسلات والأفلام الأمريكية ودور في فيلم أنجليزي . هذه الأدوار دخلها ضئيل وغير ثابت الشيئ الذي جعلها تقدم لوظيفة بالحكومة الكندية وبعد سلسلة من المعاينات والأختبارات تحصلت عليها . ولا زالت تواصل في تقديم الطلبات والمعاينات لادوار سينمائية .
يتبع