‫الرئيسية‬ ترجمة فتى النيل الأزرق (21)
ترجمة - ثقافة - 13 أكتوبر 2024, 13:35

فتى النيل الأزرق (21)

جورجيوس أيوب بالامون

ترجمة: إيهاب خيري

نورة… الحب السري

ذات مساء، جاء أحد المتسولين إلى بيتنا. كان رجلاً كبيراً في السن، حافي القدمين، ويعاني من سوء التغذية، ويرتدي أسمالاً تكاد تغطي جسده النحيل، وكان شبه أعمى.
كانت معه فتاة في حوالي الـ 16 سنة من العمر، لا تختلف هيئتها عنه كثيراً، لكن بصرها ساعد الرجل الكبير حيث كان يمسك بعصا طويلة من البامبو، بينما تمسك الفتاة بالطرف الثاني من العصا. هذه حال عدد كبير من شحاذي السودان، وهناك مئات الآلاف منهم.
رفض والدي مساعدتهم بتقديم قطعة خبز أو قرش، كما أعتدنا، لكن أمي ترى أنه من السيء صد المتسولين خاصةً عند غروب الشمس، فقد كانت تؤمن بالخرافات والأساطير. نشب جدال بين أبي، المتشكك، وأمي المؤمنة، التي فازت بهذه الجولة، ولم تكتف بإعطاء المتسولين ملوخية فقط، بل سمحت لهما بالمبيت في سرير والدي خارج المنزل.
صباح اليوم التالي، أكتشفنا أن الرجل الكبير توفي، وأنه يملك عشرة جنيهات!
فجأةً، أصبح لدينا فتاة مشردة كانت تمتهن التسول لتعيش. أسمها نورة، وسُمح لها بالبقاء معنا حتى العثور على مكان يأويها. في تلك الفترة، كنا عائلة تشهد تزايداً، ولدين وبنت. ضغط مصاريفنا ومصاريف العائلة الممتدة كان حاداً، كما زادوا المبلغ المستقطع للتقاعد من راتب والدي من خمسة إلى ثمانية شلنات شهرياً. مع ذلك، وافق أبي على بقاء نورة معنا. بدت فتاة مسالمة. اعتقد أني كنت في العاشرة أو الحادية عشر من عمري آنذاك. أمي كانت ممتنة لبقاء نورة معنا، وظلت كذلك حتى بلغت أنا سن المراهقة!
أثبتت نورة أنها فتاة جيدة، وأحببناها، فقد كانت مستعدة على الدوام لمساعدة والدتي، وتحسنت حالتها وكانت حريصة على نظافتها الشخصية. تذهب إلى الغابة لجمع الحطب مرتين في الأسبوع. بعد أربع سنوات، تظاهرت بمساعدتها، لكن من تابع قصصي في الصفحات السابقة سيدرك أن جمع الحطب أو الجراد لم يكن دافعي الوحيد. بعد عيد ميلادي الرابع عشر أو الخامس عشر، أصبحت مدركاً بشكل واضح حقيقة مشاعري. كانت تغيظني بقولها إني لن أستطيع ممارسة الجنس معها، لكننا فعلنا ذلك ذات مرة لتصبح بداية لعلاقة تحدث مرتين في الأسبوع. أحببت نورة وأنا متأكد أنها كانت تبادلني الشعور نفسه.
في الوقت نفسه، كانت لي علاقة مع فاطمة وأمينة. كنت أحبهن كلهن!
لم تكن أحداهن تعرف شيئاً عن علاقتي بالأُخريات. قال لي القس إن الزنا إثم وعقوبته الرجم حتى الموت، لكن بسبب الطاقة الكهربائية القوية داخلي لم أكن قادراً على التحكم في نفسي. وجدت حلاً لهذه المشكلة عندما سمعت عم فانوس يقول ليس هناك في الكتب المقدسة ما يُجرم رجلاً بالزنا لأنه عاشر أكثر من امرأة. وقال الأجاويد الذين حققوا في حادثة جارنا علي إنه من الطبيعي أن يكون للرجل خليلة. وعندما هجر سيدنا إبراهيم هاجر خشية غضب زوجته سارة، التي لا شك أنها جعلت حياته جحيماً، أقرّ الرب التعدد الذي مارسه عدد من الأنبياء وقامت الزوجات بمنحهم خليلات. كانت بلقيس، ملكة سبأ تعلم أن النبي سليمان لديه مئات الزوجات والعشيقات ومع ذلك سافرت من الحبشة (ترى بعض الروايات أنها كانت جعلية من مدينة شندي) إلى فلسطين خصيصاً لمعاشرته. كان عم فانوس مرجعي في هذه المواضيع لأنه يقرأ القرآن والإنجيل لمعرفة شؤون الجنس.
ذات يوم، أكتشفوا أن نورة حامل، لكنها رفضت تماماً الكشف عن والد الجنين. مجدداً، كانت المعجزة في السماح لها بالبقاء معنا رغم الضغوط المالية. كان ذلك بسبب عم فانوس، الذي تعهد بدفع 10 شلنات شهرياً لدعمها، “من كان منكم بلا خطيئة فيرمها أولاً بحجر”.
سمعت والديّ يتناقشان عن الوضع، والخيارات المتاحة؛ دفع مصاريف المدرسة أم شراء المتطلبات الأساسية ومصاريف الجدة إيرين. كذلك، بعد سبعة أو ثمانية سنوات، سيتقاعد والدي وسيكون راتبه التقاعدي نصف راتبه الحالي الذي يبلغ 8 جنيهات. الحذاء المصنوع يدوياً الذي أشترته لي جدتي إيرين في إسنا أصبح أصغر من قدمي، فأعطوه لشقيقي رمسيس، رغم أنه تعرض للإصلاح أكثر من مرة حتى لم يعد قابلاً لأي ترميم إضافي. بدت الشقوق تظهر في باطن قدمي رمسيس بسبب ثقوب الحذاء وجفاف جلده، حتى الإسكافي أشتكى وقال إن الحذاء يجب التخلص منه لأن هناك حدوداً لإصلاح الأحذية.
الملابس كان يمكن تعديلها، ومن الميسور شراء قماش من القطن لخياطة القمصان والفساتين. مع زيادة عدد الأطفال وتوقع طفل آخر، أرتفعت كمية الطعام وكنا نستهلك كميات كبيرة من الخبز. في العديد من الليالي لم يكن لدينا طعام أو ما يكفي من الطعام.
لتخفيف العبء، قرر والديّ البحث عن زوج لنورة. رتب والدي وعم ديمتري وعلي تزويج نورة لعباس، المصري ذو الـ50 سنة الذي يعمل فنياً في ورش السكة حديد. فقد عباس وظيفته وصدر أمر بترحيله إلى مصر لمشاركته في محاولات لتأسيس نقابة عمال.
دعونا عدداً كبيراً من الناس لحفل الزفاف، الذي كان حفل وداع أيضاً، وتطوع المدعوون بدعوة عدد أكبر من الضيوف، كان غالبيتهم من زملاء عباس في السكة حديد، وقدمنا لهم الفتة، كما هي العادة. جمع الناس نحو 25 جنيهاً وملابس قديمة للعروسين. تعلمت نورة قص وخياطة الملابس على ماكينة خياطة (سنجر) الصغيرة التي تستخدمها أمي. كذلك، تعلمت من أمي كوي الملابس… وأناشيد الكنيسة.
أعاد والدي لنورة الـ 10 جنيهات التي كانت مع والدها عند وفاته، فجثت على ركبتيها وقبلت يديه، لكنه أمسك بها ورفعها، وهو يردد: “ربنا يسامحنا.. ربنا يسامحنا يا ابنتي. ربنا يعينيك”. كانت تود التعبير عن أحترامها وتقديرها لـ”والدها”، وكانت تلك آخر فرصة. كان مشهداً مؤثراً.
ذهب كل الحاضرين إلى محطة السكة حديد لتوديع نورة وعباس والطفلة،المسافرين إلى مصر. كانت نورة تبكي، بينما يحاول عباس التخفيف من وطأة الموقف، وهو يحمل الطفلة بين ذراعيه بعطف وحنان. انطلق “إكسبريس مصر” بسرعة أكثر من المعهود. كان ذلك بعد منتصف الليل، وانتظرت مع الآخرين حتى اختفاء الضوء الأحمر، الذي يُعلق في القاطرة الأخيرة، في ظلام الليل.
أفتقدنا نورة، لأنها أصبحت جزءاً من العائلة. راجت شائعة بأن الطفلة هي أختي، حتى أن أمي شكت في الأمر، بينما أكد آخرون بأنها ابنة عم فانوس، وزاد تأكيدهم عندما منح نورة جنيهاً وأعطى عباس جنيهاً، وقال بصوت مرتفع إن “قلب نورة ينفطر حزناً”..

كانت نورة تروي لنا قصصاً من غرب إفريقيا؛ عن طفولتها بالقرب من نهر النيجر وزواجها الأول، وأطفالها الثلاثة الذين توفوا عند ولادتهم. أختفى زوجها النيجري في مكان ما بين الأبيض وعطبرة. لم تكن لديهم وثائق سفر. يعبر عشرات الآلاف من سكان غرب إفريقيا السودان سنوياً في طريقهم إلى مكة لا يجدون صعوبة في الحصول على مساعدة في الطريق. غالبيتهم لا يحملون وثائق سفر، فيما يحمل عدد قليل منهم جوازات سفر غير صحيحة، ويعود السبب في ذلك أن كل الراغبين في الحصول على تأشيرة يقدمون جوازاتهم لضابط في مواعيد محددة (مرة أو مرتين أسبوعياً)، حيث يقوم أحد السعاة بحمل الجوازات، (التي لم تكن فيها صور شخصية). وبعد أن يضع الضابط التأشيرات، يقوم الساعي، الذي يجهل القراءة والكتابة مثل المسافرين، بتوزيع الجوازات عليهم، ومن النادر أن يحصل شخص على جواز السفر الخاص به!
نورة كانت تحمل وثيقة سفر رجل غير معروف. عندما ذهبت إلى مدير المديرية، لم يتعامل مع الجواز بل أعلن أنها مواطنة سودانية بالميلاد وأعطاها وثيقة سفر لتدخل بها مصر، ولم يكن ذلك نفسه ضرورياً لأن الحكومة المصرية لم تكن ترحل أي إفريقي، وخاصة السودانيين.
روت لنا نورة كيف عانت من المشي لمسافة ألف ميل، التي قطعوها في عشر سنوات تقريباً، وتحملوا الأمطار الغزيرة والعواصف العاتية والشتاء عندما تنخفض درجة الحرارة إلى 10 درجات مئوية والصيف الحار الذي تصل فيه درجة الحرارة إلى 55 درجة مئوية، عبر أراضي السافنا لتقطع قارة إفريقيا من غربها من أجل الوصول إلى عطبرة القاحلة. كان الربيع الذي يمر بنا أفضل ما مر بها في حياتها. قضاء سنوات قليلة في راحة من قلق العوز كان أقصى ما تتمناه. الآن بعد مرور 50 سنة على تلك الفترة، أرى أن ما كانت ترجوه نورة من الحياة هو أقل ما يمكن توفيره.
تروي نورة عن هطول الأمطار بعد سنوات من الجفاف التي يموت فيها البشر وتنفق الحيوانات. وحكت لنا عن الفيضان الهائل الذي حدث عندما كانت صغيرة، ولم تشهد مثله في حياتها. أستخدموا جذوع أشجار الدوم والدليب وأي شيء كسدود في جبل مرة بدارفور. وعندما انهار السد، غرق آلاف البشر والحيوانات، لكنها نجت من ذلك الطوفان بأعجوبة.
عطبرة كانت على طرف الصحراء، إذ لا تهطل الكثير من الأمطار لكن مرة كل 15 أو 20 سنة، تهطل كل مياه العالم عليها، وتأخذ معها حتى قضبان السكك الحديدية، وتغرق بعض القاطرات والمقطورات في بحيرات الماء.
أحب سماع قصص نورة عن الأشياء التي أعرفها؛ مشهد الصحراء عندما تهطل الأمطار وتصبح بساطاً أخضر، وتكتسي بالورود البرية متعددة الألوان، والفراشات، والسلاحف والزواحف ، والعقارب والقوارض والمها والغزلان والأرانب ونقيق الضفادع المختفية في الحشائش، ويرتفع صوت حشرات زيز الحصاد والصراصير الذي لا يتوقف، وأشجار التين الشوكي والحسكنيت الكثيرة وأشواكها العصية.
كنت في الـ 15 من عمري عندما مارست الجنس أول مرة مع نورة.. وقت الغروب و(الهبوب) العنيف، بسرعة 50 ميل في الساعة، يعصف بنا. كانت عاصفة رملية قوية تنقل جبالاً من الرمال لعدة أميال، وبدأ هطول المطر.
قالت نورة، وهي تبتسم ابتسامتها الآسرة: “الله جلب لنا قبراً لندفن فيه أنا وأنت”
الرمال كانت تغطي أفواهنا وشعرنا وآذاننا وأعيننا، لكننا واصلنا في ممارسة الجنس بعنف يحاكي الطبيعة حولنا، وكنا جزءاً غير مهم من عناصرها.
نعم، أحببت نورة، ربما لأنها كانت جميلة وشاركتني حياتها. دوماً، كانت لديها “أخبار”. كانت صغيرة الحجم وأنثوية للغاية. قالت لي ذات مرة في الغابة الجديدة “أنت مختلف يا توت. تشعرني دوماً بالمساواة، وبأننا شركاء في كل شيء.. سأتذكرك طوال حياتي”. قبلنا بعضنا وكان ذلك أهم من كلمات الحب.
الآن. ذهبت نورة. لم أرها مرة أخرى لكنها ما زالت باقية في ذاكرتي. قالت لي وهي تودعني: “تذكرني.. سأظل أذكرك طوال حياتي”. لم نستطع التحكم في دموعنا، والقطار يتحرك من محطة عطبرة.
ظللت أتابعهم حتى اختفى إكسبريس مصر في الصحراء وهو يتجه شمالاً، في الظلام، في منتصف الليل.

الأسبوع المقبل: الأعمام.. ديمتري وفانوس

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 2

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *