‫الرئيسية‬ ترجمة فتى النيل الأزرق (19)
ترجمة - ثقافة - 29 سبتمبر 2024, 9:13

فتى النيل الأزرق (19)

جورجيوس أيوب بالامون

ترجمة: إيهاب خيري

توت وإبراهيم… والسر العظيم

شهدت دراما عائلة علي وكنت حزينا له وللنساء الثلاث، لكني كنت الشخص الوحيد الذي يعرف ما هو أبعد من ذلك؛ كان سراً حرصت على كتمانه. لو كشفت الحقائق التي أعرفها، فإن الأذى لم يكن ليقتصر على شخصين، بل قد يمتد حتى لعائلتي.
عانت جميلة من قلة اهتمام ومحبة زوجها لكنها عوضت تلك الخسارة!
ذات يوم كنت في سقف المنزل، أجهز الشرك لصيد الحمام البري عندما رأيت إبراهيم يمارس الجنس مع جميلة. أثارني المنظر بشكل لا يتصور. حاولت أن أكون في البيت عندما يكون إبراهيم في الجوار، وتفاديت أن يراني أي شخص، ونجحت في المهمتين. كانت جميلة تُبعد أمينة عن البيت بإرسالها لجمع الحطب من الغابة الجديدة، الأمر الذي يستغرق ثلاث إلى أربع ساعات، أو إلى أقارب علي الذين يسكنون بالقرب من الجامع في ميدان المولد على بعد أربعة كيلومترات. كانت جميلة تتظاهر بالشفقة على أمينة، وعندما تجلب حطباً يكفي لثلاثة أيام، تقول لها: “أمينة لا ترهقي نفسك. لا تكوني حمارة. يكفي القليل من الحطب كل يوم أو أحضري ما يكفي كل فترة حتى تكون لك فرصة لزيارة صديقاتك”.
فهمت أن جميلة تحب إبراهيم، حيث سمعتها تقول له إن علي يصل إلى قمة شهوته سريعاً، ولا يعاشرها بما يكفي. “12 سنة في هذا العذاب… علي أسرع من الطيور في المعاشرة. معك يا حبيبي، أنا مستمتعة، لكني حزينة لأن حبنا سري، وأنت تعرف أن هذا خطر للغاية. أنا خائفة. هل ستتزوجني؟ أريد أن أقضي حياتي معك. سأجعل علي يطلقني”. قبلها إبراهيم، وأحاطها بيديه، وقال: إن شاء الله. سأفكر في الأمر بهدوء”.
استمر هذا الأمر لعدة أشهر.
بعد ذلك، عندما أكون في موعد مع أمينة في الغابة الجديدة، كنت متأكداً أن إبراهيم وجميلة يمارسان الجنس في بيت علي. كنت سعيداً لأن لدي أسرار. لم أخبر حتى فاطمة، كاتمة أسراري. المحافظة على الأسرار أصبحت جزءاً من سلوكي.
في أحد الأيام رآني إبراهيم في السقف. صوته كان هادئاً عندما دعاني للتحدث. وعندما أصبحت بالقرب منه، وقبل أن يجد فرصة ليقول أي شيء، بادرت، بغباء، وهمست في أذنه: لا تخف. أنا رجل، وأعرف كل شيء، ولن أخونك”.
تساءل في هدوء: ماذا تعرف؟
قلت له: رأيتك وأنت تمارس الجنس مع جميلة
: أين كنت؟
: في السقف
قال إبراهيم بصوت منخفض: لا أنت تتخيل أشياء…
قلت له: لا. رأيتكما أكثر من مائة مرة وأنتما تمارسان الجنس. نظري قوي. كان ممتعاً. هل سبق أن شاهدت اثنان يمارسان الجنس؟
قال لي: تعرف. أنت رجل ثقة، ولأنك احتفظت بالسر طوال هذه الفترة، لا بد أن أكافئك بالزبدة والحليب. تعال أركب معاي في الحمار. قفزت خلفه في حماره الشاب القوي والكبير مثل حصان. قاد إبراهيم حماره بسرعة، على غير عادته، وسرنا نحو الصحراء وكثبان الرمال التي تبعد نحو ثلاثة أو أربعة أميال من بيتنا، وبعيداً عن أي شيء.
عندما أصبحنا خلف الكثبان الرملية المرتفعة، ترجل إبراهيم من الحمار وأمرني بالترجل، ثم أخرج خنجره، الذي كان طوله نحو قدم وعرضه نحو بوصتين، لكن عرضه يتناقص تدريجياً حتى حافته فيصبح مثل إبرة . كان الخنجر حاداً ويلمع تحت ضوء الشمس.
قال لي: الآن، أريدك أن تحفر قبرك بيديك. الرمال ساخنة لكن من السهولة تحريكها والحفر فيها. احفر قبرك بعمق نصف متر وطول مترين. سيكون ذلك مناسباً لدفنك. سأذبحك وأقتلك مثلما أذبح معزة، وأفصل رأسك عن عنقك، ثم أقطعك من الحلق حتى قضيبك. سيكون من السهل على الضباع والكلاب والقطط البرية وأبناء آوى مشاركة لحمك، وإذا لم تتمكن من أكل لحمك كله هذه الليلة، ستقوم الصقور بالتهام المتبقي بحلول هذا الوقت غداً. الكلاب والضباع ستمضع عظامك الناعمة الشابة. لن يبقى شيء منك. لا شيء. ستأتي عاصفة رملية قوية بعد قليل، ربما قبل المغرب، ولن يعرف أي شخص ما حدث لك لأن العاصفة ستغطي أي أثر”.
شعرت بالرعب، وجفّ حلقي، وأصبح مثل الرمل. لم أعد أشعر بحرارة الجو وقدمي التي تلتهب بحرارة الرمال، إذ امتلأ جوفي بالخوف. اعتقدت أن إبراهيم سيقتلني عندما يصبح قبري جاهزاً بالمواصفات التي حددها.
“أرجوك، إبراهيم. ارحمني. تعرف أني أحبك وأجلب لك زجاجات البيرة الفارغة، وتقول لي: الأولاد البكر أصدقائي. لم أخبر أي شخص، كل الأشهر الماضية… قسماً بالله”.
“قد تكون كاذباً. أكيد كلمت الأولاد كلهم أو بعضهم. أخبرني.. من الذين حكيت لهم الأمر”؟
“أقسم بالله لم أكلم أي شخص”.
أمرني بغلظة: “احفر قبرك، بسرعة”
بدأت أبكي، وأنا أحرك الرمال الساخنة، وتوقفت لأنها كانت ملتهبة، وقدمي تحرقني. حاولت الركض والهروب دون جدوى لأنه سارع بوضع عصاه الطويلة بين رجلي وسقطت بوجهي على قبري!
“هل ترى هذه السكين… حادة وقوية. ذبحت بها ثوراً ضخماً، وستموت قريباً بهذه السكين الجميلة. اخبرني بسرعة من غيرك يعرف؟ مع من تكلمت عن هذا الموضوع؟” بدا غاضباً ومتعجلاً، وكان يتعرق.
واصلت في البكاء: قسماً بالله، لم أكلم أي شخص.
“لو أخبرتني من يعرف غيرك ربما اتركك، لكن إذا لم تفعل ستخسر حياتك. لماذا لا تريد أن تعيش؟ من الذي تحاول حمايته؟
“صدقني يا إبراهيم. لم أخبر أي شخص”
“وكيف أعرف أنك تقول الحقيقة.. الحقيقة الكاملة؟
قلت في يأس: “لا بد أن تصدقني يا إبراهيم. لا يمكن أن أخبر أي شخص، حتى ويسكي جووني وولكر لم أخبره”.
كان العرق يتدفق مني، وشعرت بأني استحم بمياه ساخنة تتدفق تحت جلبابي. ” أنت وجميلة أصدقائي. كيف يمكن أن أفشي سركما؟ وهذا ليس شأني وبالتأكيد فهو ليس شأن أي شخص آخر”.
: لماذا تجسست علينا أكثر من مائة مرة؟
: لأني استمتعت بالرؤية. كان ذلك قبل أكثر من ستة أشهر عندما رأيتكما لأول مرة. لو سمعت بهذا الأمر من آخرين، فلست من قام بإفشاء السر.
: كيف تعرف أني لم أسمع بذلك؟ واصل حفر قبرك. الجو حار للغاية، ويجب أن أقتلك سريعاً وأعود إلى بيتي، ثم دفعني إلى القبر الذي لم يكتمل حفره. عدت إلى البكاء حيث اعتقدت أن تلك نهايتي.
:لو أصبحنا أصدقاء، سأبلغك إن سمعت أي شيء بخصوص علاقتكما. وأعدك بأني لن انطق بأي كلمة.
: لماذا جئت لتخبرني؟
: لأنك رأيتني في السقف. أنا دائماً أصعد إلى سقف البيت لرؤية إن كان الشرك قد اصطاد حماماً. اعتقدت أنك تريد أن تعرف فأخبرتك لتصبح أكثر حرصاً. لو قتلتني، سيعرف البوليس الإنجليزي ويلقون القبض عليك. وكما تعرف، فقد عثروا على سرير والدي المسروق في عشش فلاتة.
: هل أنت جاسوس جيد؟
: ما الذي تريدني أن أفعله لك؟
: ساكأفئك بفتاة جميلة. هل تستطيع معاشرة فتاة. الآن أخبرني من الذي أخبرك بقصتي. سأهتم بذلك الشخص. هل تريد معاشرة فتاة شابة وجميلة؟ أعرف فتاة جيدة تناسبك. لنصبح أصدقاء. اخبرني بأي شخص تعتقد أنه يعرف الأمر وأعدك بأن أصبح صديقك وسأمنحك مالاً، وفتاة، والحليب. ما رأيك؟
: أعدك بأن أحافظ على سرك وأن أغلق فمي، وأن أهتم بمعرفة أي شي يخص علاقتكما، وأفيدك بذلك. أرجوك، ابعد هذه السكين، التي ترعبني.
: سأترك السكين لكن سأذبحك لو اكتشفت أنك تخدعني. ولو لم أذبحك، تأكد بأن شخصاً آخر سيفعل ذلك. هل تسمعني؟ سيقوم بذلك شخص آخر”. قال ذلك ويداه تمسكان بخناقي، وشعرت بأني سأختنق. بالكاد وجدت وسيلة لأقول: أعدك.
: تعال معي إلى القرية، سأعطيك زبدة وحليب لتأخذها إلى بيتكم. قل لوالدك أن يدفع ثلاثة شلنات، وسأعطيها لك.
شعرت براحة لا توصف. أعتقدت أنه سيقتلني. قررت الإيفاء بوعدي،وركبت خلف إبراهيم، الذي ظل صامتاً حتى وصلنا إلى قريتهم.
لأول مرة منذ بداية محاكمتي التي استمرت لمدة ساعة، شعرت بحرارة الشمس اللاهبة. هبت ريح حارة. سمعت صافرة القاطرة، ونهيق الحمير وصياح الديكة… الأصوات التي نسيت وجودها خلال محاكمتي. بدأت أشعر بالحرارة القاتلة في الشدّة (حذاء مطاطي) التي ارتديها، والعرق الذي يتدفق من كل جزء في جسمي، وشعرت بملوحة العرق في عيني. وأشعة الشمس الحارقة تشوي رأسي العاري. كنت أتطلع للعودة إلى بيتنا؛ خشيت أن يقتلني إبراهيم في مكان آخر.
عندما وصلنا إلى بيتهم، ترجلنا من الحمار وذهبنا إلى قسم الرجال. كان ابنه، الذي يبلغ العشرين من عمره، راقداً في سرير، فنهض من مكانه احتراماً لوالده. أحضروا لنا الجبنة، ثم شربت قليلاً من الماء البارد من الزير، الذي كان نصفه مدفوناً في الأرض تحت شجرة نخيل. قال لي إبراهيم: لا تشرب كثيراً، ولا تضع ماء على وجهك أو رأسك أو عنقك أو ستصاب بضربة شمس قوية. يمكنك أن تبرد رجليك في الطين. لا تشرب المزيد من الماء”.
فعلت ما نصحني به. ذلك إبراهيم الطيب الذي أعرفه.
الجبنة كانت لإبراهيم، وجلب لي أبنه الأصغر إناء مليئاً بالروب، فشربته عوضاً عن الماء.
جلب إبراهيم السمن البلدي المعبأ في زجاجتي بيرة وإناءً مليئاً بالروب. ركبت مع ابن إبراهيم الأكبر في حماره، حيث كان في طريقه إلى ورديته المسائية في السكة حديد.
في الطريق، حاول ابن إبراهيم التحرش بي. “أنت حلو مثل البنات”
:أنا راجل ابن راجل، ولا يمكن أن يستخدمني أي رجل، بل أمارس الجنس مع النساء. لماذا لا تذهب إلى امرأة؟
: سأضربك لو لم تسمح لي بالممارسة معك.
: اتناول اللحم المعلب وأذهب إلى نساء جميلات. احترس قبل أن “أخربك”. يمكن أن استخدمك كما أفعل مع النساء.
غضب ابن إبراهيم ودفعني من الحمار، فسقطت زجاجة سمن وإناء الروب وانكسرت. غضبت جداً حيث لا أقبل إهدار أي شيء. ركضت خلفه، لكن ضربني بعصاه على رأسي. خلال شجارنا، تمزقت ملابسنا. في النهاية، تناولت زجاجة السمن الثانية، التي لم تصب بأي أذى، ومشيت لمسافة ميلين إلى بيتنا.
تماماً، كما توقع إبراهيم، ضربت عاصفة رملية كبيرة (كتاحة) المكان قبل الغروب. رياح قوية وجبال من الرمال جعلت مدى الرؤية يصبح بضع أمتار. توقفت القطارات عن العمل، ودخلت الرمال إلى الغرف رغم كل الاحترازات، فقد كان الرمل ناعماً مثل الدقيق.
استمر “غضب الطبيعة” لمدة خمسة أو ستة أيام، وأحال حياتنا جحيماً. دعونا وصلينا طلباً للرحمة، لكن يبدو أن دعواتنا لم تصل بسبب العواصف والرمال وحرارة الجو، وربما كانت هذه العوامل الطبيعية جزءاً من مهام الرب الروتينية، فهل كنا ندعوه للتوقف عن عمله؟ في بعض الأحيان، ينطق أبي بما لا يرضي الرب، وهو ما يقابل بالترحيب أو الرفض ممن يسمعونه.
تلك الليلة، لم أستطع النوم بسبب الأحداث المرعبة التي مرت بي، لم أكد أصدق أني لست داخل ذلك القبر الرملي الذي تركناه مفتوحاً، حيث قال لي إبراهيم أن أدعه كما هو لأن “الهبوب” سيدفنه ويمسح آثار أقدامنا. وافقت على ذلك لأني، مثله، أعرف مناخنا جيداً. رغم أننا لم نمتلك ساعة في منزلنا، كانت أمي أو رمسيس أو أنا نستطيع معرفة الوقت بدقة، مع فارق لا يتجاوز 15 دقيقة، بمجرد التطلع إلى الظل.
لم أتمكن من الذهاب إلى المدرسة في اليوم التالي، حيث شعرت بحمى حادة. قلق والديّ لأن الحمى أصابتني دون سابق إنذار. قبل المغرب، تدهورت حالتي بصورة متسارعة. ذهب والدي إلى المستشفى وبعد مقابلة الطبيب الإنجليزي عاد ومعه أدوية الملاريا والإسبرين.
دخلت في غيبوبة، وبدأت أمي في العويل وشاركتها نورة. البكاء الذي فُسر بأن شخصاً قد توفي، أو أصبح على وشك الموت. تبرع البعض بإرسال ابن علي، جارنا، إلى الكنيسة القبطية لإبلاغ القس بأني على وشك الموت ليجهز نفسه ويقرع أجراس الكنيسة، التي تعد إعلاناً لخبر الموت، لكن القس رفض ذلك حيث لم تكن معه شهادة وفاة.
في تلك الأيام، يمكن سماع جرس الكنيسة على مسافة ميلين أو ثلاثة أميال، حيث لم يكن هناك الكثير من السكان في المدينة مع وجود مساحات فضاء واسعة بين مربعات البيوت، والشوارع التي تخلو من المارة، ولم تكن هناك سيارات، ما يجعل جرس الكنيسة أو صوت المؤذن أو صفارة القطار تسمع في أرجاء المدينة دون الحاجة إلى مكبرات الصوت، التي لم تكن منتشرة وتمنع الحكومة الاستعمارية استخدامها.
ذهب شخص آخر لإصدار شهادة وفاتي لكن الطلب رُفض. كان لا بد من توقيع ضابط بريطاني أو من ينوب عنه على مثل هذه الشهادات. في بعض الحالات، لا بد من تشريح الجثة إذا رأى الطبيب الإنجليزي ذلك، ويقوم بتوقيع شهادة الوفاة أو نائبه، أي الطبيب السوري. رفض الطبيب الإنجليزي الذي كان في الوردية الطلب، وهو نفسه الذي أعطى الأسبيرين لوالدي. كان ذلك الطبيب يعيش في منزل واسع وفخم يعكس المكانة العليا لأبناء جلدته. كان من العرق المصنف في المرتبة الأولى ضمن أربعة فئات من الأعراق، ونحن في الفئة الثالثة. كان والدي يدعو إلى زيادة الفئات إلى ست لنكون في الوسط!
في المساء، عندما تزايد البكاء والنشيج النسائي، قرر الطبيب الإنجليزي رؤيتي. فجأةً، ظهر هو وزوجته، الممرضة في المستشفى، أمام باب منزلنا، وتوقفت كل الأصوات وساد الصمت. رافق والديّ الطبيب وزوجته الممرضة إلى الغرفة التي أرقد فيها، وكشفا عليّ. كانا يعرفان اللغة العربية وتحدثت الممرضة مع أمي، والطبيب مع أبي، بينما حرص الجميع على حسن الاستماع.
“هذا الولد يعاني من ضربة شمس، وضربة قوية على رأسه. ما عدا ذلك فهو بخير. سيحتاج خمسة أو ستة أسابيع ليتعافى. سيعيش طويلاً إن شاء الله. لا تقلقوا، لكن من ضربه على رأسه؟ سأقدم تقريراً للشرطة.
أمر الطبيب بنقلي من الغرفة الحارة إلى الحوش رغم أن الهبوب كان نشطاً. وكتب روشته فذهب أحد الحاضرين لجلب الدواء من المستشفى خلال دقائق، وطلب منهم وضع قدمي في ماء بارد.. “احضروا الثلج لقدميه”. بعد ذلك ولمدة اسبوعين، كانت ممرضة سودانية تحضر يومياً لإعطائي حقنة، وحبتين من الدواء. كان ذلك كرماً منهم.
جلبوا أفضل كرسيين في البيت للطبيب الإنجليزي وزوجته، وقدموا لهما الجبنة، التي استمتعوا بمذاقها،كما أخبروني لاحقاً، واستمعا من الحاضرين لتفاصيل حالتي، لكن لم يكن هناك من يعرف بحادثتي مع إبراهيم، بما في ذلك جميلة. حكوا عن مشاجرتي مع محمود، ابن إبراهيم، بالتفصيل وعن تناولي لحم الخنزير الإنجليزي المعلب بافتراض أنه كان عاملاً أساسياً في مرضي. ضحك الطبيب وزوجته بصوت مرتفع، وسألا جارنا علي عن السبب الذي يجعل اللحم الإنجليزي سبباً في موت شخص، قال : لأن القرآن والإنجيل يقولان ذلك”.
قالت المممرضة الإنجليزية: “إذا تناول توت اللحم الإنجليزي سيصبح قوياً لكن لا بد من التأكد من أنه إنجليزي فعلاً”، وضحكت مجدداً. وضحك البقية، فساد جو المرح وتغلب على الموت. لم تكن العلاقة بيننا مبنية على العدالة أو المساواة، ولم تكن هناك علاقات وحوارات مباشرة. زيارة الطبيب الإنجليزي كانت حدثاً استثنائياً ولم تتكرر، كما أننا لم نزرهم على الإطلاق.
…..
في اليوم الخامس لمرضي، وعد إبراهيم بعلاجي، وقال: لا شك أنها عين. الولد مصدر لحسد النساء حتى اللواتي لديهن عدد من الأولاد، فما بالك بمن ليسن لديهن أولاد والغيورات والحاسدات؟
وافق الحضور على كلامه، وقام إبراهيم بنقلي إلى الغرفة مجدداً، وطلب من الجميع الخروج. أغلق النوافذ، ثم أشعل البخور والصمغ العربي واللبان المر واللبان الضكر، وامتلأت الغرفة بالدخان. ساعدني على خلع جلبابي ومسح جسمي كله بقوة. كان إبراهيم شخصاً قوياً ويلقب بـ(جمل الشيل)؛ طوله نحو 6 أقدام ( 183 سنتميتراً) ووزنه أكثر من 100 كيلوغرام. بعد المساج، بدأ علاجه النفسي، وقال لي إنه يحبني جداً ويجب أن نكون أصدقاء مقربين، وسيحرص على حمايتي لأننا اتفقنا على عدم الخيانة أو إفشاء أسرارنا. أنت ولدي. هل تعلم أني ضربت محمود. جلدته عشرين جلدة لأنه أساء الأدب معك، وبعد أن تشفى سأجعلك ترى آثار الجلد على ظهره”.
مرة أخرى، مسح إبراهيم كل جزء في جسمي، وشعرت ببعض التحسن، ثم خرج وجلب سعناً (إناء جلدي) ملئ بالروب والسمن البلدي، ودفعني لشرب نحو لتر منه، والتهام السمن البلدي، ثم رسم علامة الصليب على جبهتي وعينيّ وأذنيّ وأنفي وفمي وعنقي وقلبي ويديّ وقدميّ. رغم أن إبراهيم مسلم محافظ، فهو من الجعليين الذين حافظوا على بعض الخرافات والطقوس القبطية، التي يعود تاريخها إلى أيام الفراعنة.
بعد إنجاز جلسة العلاج، قال للحاضرين إن عيناً أصابتني، وقد نجح في إخراج العين الشريرة، وأخرج لهم قطعة محترقة أخرجها من المبخر، الأمر الذي أصاب الحاضرين بالدهشة والاستغراب، وأمطروه بعبارات الشكر والتقدير لأنه أنقذ حياة شاب. توت كان سيموت بسبب هذه العين. انظر لحجمها الكبير. الشيطان كان يعيش فيها. عين كبيرة. يا ترى عين من هذه؟
أعلن إبراهيم أن العين قد خرجت. لطمأنة والدي، طلب إبراهيم أن تقوم كل امرأة في المكان بقص جزء من شعرها وتعطيه له، ثم وضع الشعر مع القطعة المحترقة وربطها بقطعة من جلد الماعز، وكان علي أن ألبس ذلك الحجاب لمدة خمس سنوات على الأقل.
بعد مرور أربعة أسابيع، وتأكد والدي من تماثلي للشفاء، ذبحوا خروفاً على عتبة باب المنزل حسب العادات، وقدموا الفتة للجميع الذين تناولوا الطعام حتى الشبع، خاصة المتسولين الفلاتة، الذين يتميزون بأنف حادة وأذن خارقة لمعرفة مكان الولائم، التي ينقضون عليها مثل الصقور. النساء كن مقتنعات بأن ما حدث لي كان بسبب تناول لحم الخنزير حتى أن أبي وأمي اقتنعا بذلك.
بعد ستة أسابيع من حادثتي مع إبراهيم وابنه، ذهبت لزيارة فاطمة في عشش فلاتة، ووجدت أن النساء هناك قد سمعن الأخبار، واستقبلنني بحفاوة: “ألف لا بأس عليك. سنوزع عصير الليمونادة”!
“قلقنا عليك. أخبرنا عزيز بالأخبار. يا حرام. أيوة دي عين. حافظ على الحجاب، ربنا يحفظك. هذا الشيطان كاد أن يقتلك لكن ربنا حفظك”.
قالت فاطمة: “قد يكون اللحم الإنجليزي. كيف لا يؤثر على الجنود والرجال الحمر الذين يأكلونه ويصبحون أقوياء وأصحاء؟ هل لأننا لم نتناول مثل هذا الطعام ونحن أطفال؟ لا نستسيغ المذاق الغريب. وفي كل الأحوال، فهو حرام. الكيك الإنجليزي هو الأفضل. تعرف يا توت.. من الأفضل أن تأكل جرادنا وشرموطنا (اللحم المجفف)”.
أعطيت فاطمة كل مدخراتي؛ خمسة شلنات، لكنها أعادت لي ثلاثة شلنات، فوضعت قبعتي على رأسي وعدت للبيت.
لعدة أسابيع بعد ذلك لم أقم بأي رحلات استكشاف، وأصبحت حياتي مملة. كتبي كانت قليلة وليس بها الكثير من المعلومات. بعد التعافي، قابلت أمينة في الغابة الجديدة وأعطيتها كل ثروتي: ثلاثة شلنات، فأعادت لي شلنين. كانت مسرورة لنجاتي ورؤيتي، وقالت: “دعوت الله وصليت من أجلك، حتى عندما كنت استيقظ في الليل كنت أدعو الله أن ينجيك. جميلة نفسها كانت قلقة بشأنك. لماذا يهتم بك كل الناس؟ أنت الشيطان نفسه ولا يمكن للشيطان أن يدمر نفسه وبيته”! وضحكت بخبث. جلسنا على الأرض في ظل شجرة النيم ولعبنا “السيجة” بصنع حفر على الأرض.
مع استقرار حياة علي، حافظنا أنا وإبراهيم على علاقتنا على البعد، ثم ماتت هذه العلاقات مع مرور الزمن.

الأسبوع المقبل: الهروب من المدرسة والعطالة والانتحار

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 1

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *