أدب الحرب أدب إنساني
بقلم: السيد نجم
أثناء فعاليات أحد المؤتمرات الأدبية, وقد كانت “التجربة الحربية” محورا لدراساته,بمناسبة الاحتفال بالعيد الماسي لمعركة أسر “لويس التاسع” بدار “بن لقمان” ابان الحروب الصليبية, حيث كانت ندوات المؤتمر حول بعض الأعمال التى تتناول التجربة الحربية المعاصرة (خصوصا معارك أكتوبر 1973م). ما حدث أن انتهيت من كلمتي حول “المقاومة ..والتجربة الحربية” بمناقشة ثلاث روايات : “الأسرى يقيمون المتاريس” و “الرقص على طبول مصرية” للروائى “فؤاد حجازي”..ورواية “مكان تحت الشمس” للروائى “على حليبة”..إذا بروائية معروفة تقف معترضة وتصيح: “لماذا أدب الحرب؟”.
الحق أن ما أدهشني أكثر أن وجدت فى القاعة من استقبل السؤال مؤيدا, ومنهم من استقبله بشيء من الراحة , ومنهم من انتظر..وبالطبع هناك الرافض لصيغة السؤال ودلالاته.وهذه الكلمة محاولة للاجابة!!
إذا كان “الصراع” هو السمة “الإنسانية” على طول التاريخ , وليس فى الأمر تناقضا لغويا أو حتى فكريا .. فالتاريخ الحربي للإنسان هو القادر على كشف الحقائق , وصراع الشعوب من أجل حياة أفضل , إلا أن هذا التاريخ لم يسجل بعد !!. حرص الحكام قديما على تاريخهم الشخصي وحفروا على جدران المعابد ونقشوا أسماءهم على كل ما أمكنهم أن يسجلوا عليه من فخار وجلود وغيرها.. بينما رصد التاريخ الحربي وحدة سوف يقف الى جوار العامة والشعوب..والحقيقة.
إن عمر الحرب يكاد أن يناهز عمر الإنسان على الأرض, منذ قابيل وهابيل وحتى الحرب العالمية الثانية ..وما استتبعها من حروب إقليمية تكاد تغطى سطح الكرة الأرضية. وربما نضيف الآن الحرب ضد الإرهاب ,بل وأفاعيل العمليات الإرهابية ذاتها . ولا يبدو زوال أسباب الحروب أو الصراع بكل أشكاله فى المستقبل.
إن الفنون التى ابتدعها الإنسان من جانبه, ما كانت إلا لبث روح المقاومة فى صراعه مع القوى الأخرى التى تهدده وتعرض كيانه للخطر.. ما كانت النار, الأعاصير , الحيوانات المفترسة , الفيضانات .. كما ظهرت العبادات والطقوس العقائدية , وعرفت التمائم والقرابين.. وعرف الفن بكل أشكاله.
ومنذ تلك الأيام البعيدة حرص الإنسان على تسجيل انفعالاته وأفكاره على جدران الكهوف ,و التراث الشفهي للشعوب أصدق من سجل تلك الوقفات الهامة فى التاريخ الحربي للشعوب. ولولا الحاجة الفطرية ..أو غير المباشرة التى يستشعرها الإنسان العادى فى حياته اليومية ما بقيت على مدار الأيام .
لسنا فى إطار التراث المصري أو حتى العربي على طول المنطقة العربية ..إننا نشير الى الإنسان فى كل مكان . هذه الحقيقة عرفناها فى الحكايات الأفريقية وأساطيرها..لعلها أكثر وضوحا فى الطوطم الهندي الأحمر . ما أروعها تلك الحكايات التى مازجت ما بين الطبيعة وعناصرها وكلها تحت سطوة الهندي الأحمر وسلطانه . كم كانت الطقوس الحربية مثيرة وشائقة الى حد الطرافة للمتتبع ..سواء مع القبائل الأفريقية أو الهندية فى عهدها الناضج وقبل سيطرة الرجل الأحمر عليها وعلى أراضيهم.
الطريف أن بقيت طقوس الحرب والى اليوم ببعض البلدان أو الأمم ذات دلالة خاصة , ومنها من البلدان المتقدمة “اليابان” , حيث كان الطيارون الموكول اليهم العمليات الانتحارية فى الحرب العالمية الثانية , يرددون الملابس اليابانية الخاصة البيضاء وفى مناخ طقسى خاص يتسلمون “المرمدة” – ذاك الصندوق الأسود الصغير المخصص لحفظ رماد جثث الموتى بعد حرقها- ثم يبدءون رحلة التدريب على العمليات الخاصة ! ..وهو ما يعنى أن تلك الثقافات الحربية جزء لا ينفصل عن وجدان الأفراد والشعوب .. حتى تلك الشعوب الأكثر تقدما فى العلوم المعاصرة , ولم تتخل عن تراثها الحربي.
إن كل الشواهد تشير الى خصوصية التجربة الحربية فى الأفراد والشعوب. فالسلوك الإنساني نابع عن توتر ما, به يسعى المرء للإقلال من التوتر لإحداث درجات من التكيف النفسي ..(هذا التوتر إما خارجي أو داخلي).
والتجربة الحربية فى هذا الإطار جد معقدة, فهي منبه غير تقليدي .. لا هى أحادية ولا هي بسيطة , ومع ذلك لا تكتسب دلالتها إلا بوجود دوافع داخلية ..مثل دوافع القيم العامة للمجتمعات , ودوافع الانضباط والخضوع لأوامر الجماعة .
عادة درجة استجابة المرء, إما مباشرة أو غير مباشرة لحدوث اللذة أو الألم, فتكون جملة الانفعالات التى يعانيها المرء هي التى ستحدد اتجاهاته وسلوكه. وقد يلجأ الى “الخيال” , تلك القوة السحرية الساحرة القادرة على إنجاز الفن أو الأدب بأشكاله المختلفة .
ما سبق لا يعنى أن أدب الحرب فى جوهره وسيلة للخلاص الفردي , ولكن يعنى قدرة “الصفوة” من الناس الذين خاضوا التجربة , وقد امتلكوا الخيال والقدرة على التعبير (بأى وسيلة كانت) , يحفظون لنا خصوصية تلك التجربة بكل ظزاجتها وخصوصيتها .. بحيث تصبح دوما نبراسا هاديا للعامة والخاصة وقت الشدائد .
فاحتمال تجدد التجربة قائم ومستمر , ببقاء الإنسان على الأرض , واستمرار الصراع/ الصراعات ..وعلى مستويات مختلفة , قد تصل الى حد اشتعال الكرة الأرضية كلها . وهو ما عاشته البشرية لمرتين خلال خمسين فقط من القرن الماضي.
يأتى “أدب الحرب” فى النهاية للتعبير عن هول التجربة ذاتها: يكفى القول بأن النفس البشرية جبلت على حب الحياة , بينما يخوض الأفراد التجربة الحربية مدفوعا بأمر الجماعة (المجتمع) وبناء على رغبتهم , وقد يباركون موته . فالتجربة الحربية ليست ذاتية بالكامل , وتحمل بين طياتها التناقض , فالمقاتل يسعى لاثبات الوجود وتحقيق الأهداف السامية , بينما الواقع المعاش فظ وقاس.
لكل ماسبق نحن فى حاجة الى “أدب الحرب” !!
فالصراع باق.. والأفراد الموهوبون لتسجيل التجربة (المبدعون) فرصتنا كي تقف مؤشرات الزمن عند تلك اللحظات أو الأزمنة الخاصة لتصبح عونا ودعما لنا مستقبلا .
فضلا عن أهمية تلك الأعمال فى تغطية الجانب النفسي والتربوي الضروري للأجيال الجديدة , حتى تصمد أمام تحدياتها الآتية يوما ما !!
وعلى النقيض ..قد يصبح بنى البشر يوما ما قادرون على كبح جماح غوائل أنفسهم , ويصبح للصراع شكلا بديلا عن “الحروب” , إذا كانت الأعمال المرصودة عن التجربة الحربية أكثر إنسانية , وتسعى كي تصل رسالة الكاتب / المفكر الحقيقي الغرض الحقيقي من وراء رصد تلك التجربة القاسية , وأنها تجربة إنسانية يجب تأملها والوقوف أمامها أو ضدها .
إن “أدب الحرب” الحقيقي هو أدب إنساني , يرفع من قيمته وشأنه , ويزكى القيم العليا فى النفوس ..انه أدب الدفاع عن الحياة, والمتأمل قد يجد أن أجود الأعمال الحربية (الإبداعية) هي التى دافعت عن الحياة , ولم تزكى القتل من أجل القتل.
نشر هذا المقال في Arab World Books نوفمبر 2017