فتى النيل الأزرق (17)

جورجيوس أيوب بالامون

ترجمة: إيهاب خيري

“بيت القزاز” وحقائق الحياة

على مسافة 400 متر شمال بيتنا وشرق المستشفى، كانت هناك مزارع للخضروات وبعض بيوت العاملين في شرطة السكة حديد. فجأة، رُحل كل رجال الشرطة وعائلاتهم وسكن مكانهم نساء من غرب إفريقيا ومصر والحبشة.
كان الجنود البريطانيون يقطعون مسافة طويلة من مساكنهم بالقرب من مدرستنا إلى هذا المكان. يجلس الجنود الحمر في مساطب إسمنتية في الشارع أو تلك التي يغطيها سقف من الإسبستوس بُني حديثاً بارتفاع 10 أمتار، ثم يذهب إلى إحدى هذه الغرف حيث تبتسم له المرأة وهو داخل ثم تمنحه ابتسامة أخرى عند الخروج.
قبل ذلك، يجب أن يدخل كل رجل إلى عيادة للفحص. علمت لاحقاً أن الفحص لضمان عدم إصابة الزائر بمرض معدِ. كانت العيادة في بوابة الدخول ولا يمكن التسلل دون العبور بها.
أخبرت الأولاد في المدرسة بملاحظاتي فأبلغني الأولاد الأكبر سناً بحقيقة الأمر بالتفاصيل. في تلك الظهيرة، قطع جميع الأولاد أربع كيلومترات مشياً من المدرسة إلى الحي في شمال عطبرة، وبدأنا نتفرج في الجنود والنساء، حتى جاء عسكري على صهوة حصان وحاول جلدنا، فركضنا.
ربما كنت في الخامسة عشر من عمري آنذاك ولم أكن أعرف حقائق الحياة. أخبرني عزيز، الذي يعتبر من الأولاد الكبار، بأنني إذا كنت أملك أربعة أو خمسة شلنات فسيأخذني إلى بنت جيدة، وأنها ستعلمني. كانت مدخراتي تبلغ شلنين ويمكنني إدخار شلن آخر خلال ثلاثة أسابيع. ذهبت أنا وعزيز، مزودين بثلاثة شلنات، إلى جزء من المدينة لم يسبق لي زيارته من قبل. كانت هناك عدة نساء في ذلك المنزل؛ بعضهن بدينات للغاية أو نحيفات للغاية أو كبيرات في السن. صديقة عزيز كانت صغيرة وسمراء وجميلة، ورائحتها مثل الياسمين، ولديها أسنان ناصعة البياض، وعينان واسعتان وجميلتان يبدو في أطرافهما آثار الكحل، وكانت حواجبها عبارة عن خط نحيف. لا أحب النساء اللواتي يزججن حواجبهن لأنهن يبدون شريرات!
نظرت النساء إليّ بأعين خبيرة فاحصة، وقالت إحداهن لعزيز: “أنت شيطان… توت هذا ما زال عذراء، لكنه حلو وأبيضاني”
وقالت أخرى، وهي تتحسسني: “شوف شعره السبيبي (=الناعم)، الحلو، وعيونه الواسعة السوداء وقدومه (= فمه) اللذيذ”
شعرت بالغضب لأن هذه الأوصاف تليق بفتاة. قدموا لنا الإفطار وليمونادة السكة حديد، وأكلنا بأيدينا من الطبق نفسه، ثم صنعت إحدى النساء الجبنة (القهوة). وبعد ساعتين من الحديث، شعرت بالارتياح ولم أعد مرتاباً بل استلطفتهن.
مساحة الحوش تصل إلى ألف متر مربع، وهناك غرف طينية، بمساحة 5 في 5 أمتار. على طرفين متقابلين من الحوش، كانت هناك رواكيب مغطاة بسقوف من سعف النخيل والدوم، وتقف على أعمدة من جذوع شجر الهشاب ، وهناك شجرة نيم توفر الظل، ولديهم بئر للماء، بينما خُصص ركن بعيد في الحوش للحمام والمرحاض. كان المكان نظيفاً ومرتباً.
قادتني فاطمة، صديقة عزيز، من يدي إلى غرفتها في ركن قصي من الحوش. الغرفة مبنية من الطين وروث الحيوانات، ومعروشة بسقف يصل ارتفاعه إلى 5 أمتار من جذوع وسعف النخيل، ما يجعل الجو معتدلاً في الغرفة. الأرضية الرملية رُشت بالماء. هناك سرير كبير ومرتبة من القطن غير سميكة، وفوقها برش (=حصيرة) من سعف النخيل وملاءة قطنية بيضاء في قمة النظافة. في أحد الجدران، كانت هناك صورة لملك وملكة بريطانيا العظمى منزوعة من مجلة (أخبار لندن) الإنجليزية. في الجدار الآخر، صور للعائلة الملكية في مصر. في منتصف السقف، كان هناك ما يشبه مروحة السقف لكن يمكن تحريكها باليد، وفي أحد الجدران مصباح يعمل بالكيروسين. غرفة مريحة وتمنيت أن تكون لي غرفة مثلها في منزلنا.
قضيت ساعة في تلك الغرفة مع فاطمة الرائعة . كانت أول تجربة جنسية لي. خرجت وأنا في قمة السعادة!
صاحت النسوة وعزيز: مبروووك! إن شاء الله ستمنحك هذه التجربة صحة جيدة. من الآن، أنت رجل. فاطمة محظوظة! اجلس. خذ كأساً من العرقي. جرعت الكأس مرة واحدة، فدمعت عيني وعطست. ضحكوا وقالوا لي: المرة المقبلة ستتعلم كيف ترتشف العرقي”. قالت لي فاطمة: “خذ “الجبنة البكري” فهي جيدة لك. محظوظة المرأة التي ستحبها”، ثم أعادت شلناً لعزيز وشلناً لي وأحتفظت بشلن.
في طريق عودتنا إلى البيت، قابلنا مجيد في السوق، وأخبره عزيز بالأخبار، ففرح، وبدا أنه يعرف هذه الأمور البيولوجية، وأبلغني الاثنان عن كيفية إنجاب الأطفال : لا بد أن يمارس الرجل الجنس مع المرأة لمدة ساعتين على الأقل كل ليلة على مدى ثلاثين يوماً. ويبدأ ذلك مع ظهور الهلال في السماء. وبعد نهاية الساعتين، يستحم الرجل بصابون الفنيك الأحمر أما المرأة فتستحم بعد ست ساعات من الرجل، وفي المساء تستحم مرة أخرى بالصابون الإسناوي وتمسح جسمها بالزيت المعطر لتكون جاهزة للجولة المقبلة. لا يجب أن يرى أي شخص، ما عدا الله وملائكته، الرجل والمرأة وهما يمارسان الجنس، وإلا غضب الله والملائكة، وتصيب اللعنة الرجل والمرأة ومن ينظر إليهما والطفل الذي يولد في المستقبل”!
اقتنعت بكلامهما، وكنت متعجباً من كل هذه المعرفة وقدرتهما على روايتها ونشرها. تقديراً لذلك، أهديت مجيد واحدة من أفضل شجيرات الورد وساعدته في غرسها في حوش بيتهم.
قضيت الأسابيع الأربعة التالية وأنا أفكر في فاطمة في عشش فلاتة ولطفها في التعامل معي. كنت مصراً على إدخار ثلاثة شلنات لكن ذلك لم يكن أمراً ميسوراً. الوسيلة الوحيدة كانت الحصول على شلن من أبي وإدخار نصف مصروف الإفطار. لذلك، قضيت أربعة أو خمسة أسابيع لجمع الشلنات الثلاثة، بل إنني سرقت مليمين لتكملة المبلغ. صباح يوم الأحد، بدلاً من الذهاب إلى الكنيسة، ركضت إلى منزل فاطمة. فرحت النسوة لرؤيتي، وقدمن لي الإفطار ثم سألنني: “أين كنت. توقعنا حضوركم. ألم تعد تحبنا؟”
قلت: “بالتأكيد، أحبكن، وكنت أفكر فيكن خلال الأيام الماضية… قسماً بالله كنت أفكر فيكن. لا بد أن تصدقوني!”
كدت أن أخبرهن بأني لم أحضر بسبب مشكلة المال، لكن لحسن الحظ كانت فاطمة تقوم بكي بعض الملابس، فذهبت إليها وقمت بكي ملابسها وملابس كل البنات. لدي خبرة جيدة، حيث أحب كي الملابس في بيتنا، وفرحن، وقالت فاطمة: “هذه المرة، سأدفع لك شلناً وتدفع البنات شلناً. تعال يوم الأحد المقبل، وسنجهز لك ملابسنا لتكويها، وسندفع لك قرشاً مقابل كل قطعة مهما كان عدد الملابس. هل يسعدك ذلك؟”
قلت لها بفرح: “نعم. وفكرت في أن مشكلتي المالية قد وجدت حلاً.”
طلبت مني فاطمة الاستحمام والذهاب إلى غرفتها لنيل قسط من الراحة. وعندما ذهبت إلى غرفتها، وجدتها مستلقية على السرير… وعارية. قضينا وقتاً طويلاً، وشعرنا بأن موجات كهربائية تصعقنا لكنه كان شعوراً جميلاً، وكانت هي مديرة العمليات!
مجدداً، قدموا لي الجبنة، وقالت لي سيدة بدينة: “فاطمة محظوظة”. كانت هناك أربع نساء قدمن من الجوار لزيارتهن وكانت إحداهن تقرأ الودع.
ذهبت معي فاطمة حتى الباب لتوديعي، وأعطتني الشلنات الثلاث، مبررةً ذلك بقولها: “لأنك ساعدت في كي الملابس، ولجمال عينيك. تعال في أي وقت لكن ليس في الليل. سامعني؟ لا تحضر في الليل أبداً”.
في إحدى الأمسيات، توقف قطار ملئ بالجنود الإنجليز في المحطة، وجاء عدد منهم وتحدثوا معي لكني لم أفهم سوى كلمات بسيطة مثل (بنت Girl). أشرت إلى غرف النساء اللواتي يخدمن الجنود الإنجليز، قائلاً: بيت القزاز “=الزجاج”… بيت القزاز”، لكنهم لم يفهموا ذلك. أمسكت بيد أحد الجنود وتبعنا ثلاثة آخرين، وعندما وصلنا إلى “بيت القزاز”، كما يسميه الناس، ضحك الجنود الإنجليز وأعطاني كل واحد منهم شلنين، وذهبوا إلى العيادة ثم إلى غرف النساء، وقضى الأربعة وطرهم أو عملهم في أقل من نصف ساعة (كان ذلك أقصر من الوقت الذي قضيته مع فاطمة)، ثم هرعوا إلى المحطة. طلب مني أحدهم أن انتظر قليلاً ثم عاد جنديان وهما يحملان صندوقاً مليئاً بالعلب المعدنية والبسكويت والحلويات والسجائر. فتح أحدهم علبة ليوضح لي أنها جيدة للأكل. حملت الهدايا على رأسي وذهبت إلى البيت.
شجعنا أبي وأمي على أكل هذه الأطعمة الاستثنائية، التي كنا نجربها للمرة الأولى في حياتنا، حيث لم تكن متاحة في متاجرنا. قال المعلم أطانطيوس، صاحب المتجر، والقس القبطي إنها غير حلال، لكن عم فانونس وديمتري وأبي استمتعوا بذلك الطعام وهم يشربون البيرة، وقالوا طالما أنها جيدة للأوروبيين، فهي كذلك بالنسبة لنا.
قمت بإهداء الشيخ غيث لحماً معلباً، لكنه حاضرني عن عقوبة من يتناول اللحم الحرام. يعتقد المسلمون وغالبية الأقباط أن الأطعمة المعلبة حرام. فرحت لأنه يمكنني الآن استعادة الهدية التي رفضها بغباء!
لا شك أن الرعب المتعلق بتحريم اللحم ناتج عن مشاهداتنا لما يقوم به الجنود الإنجليز في فصل الشتاء، حين يقومون بالصيد ويحضرون الطيور التي اصطادوها ويقومون بتعليقها داخل قفص، وعندما تتوقف دماء الطيور المعلقة، تكون جاهزة للطبخ، لكن بعض الجنود كانوا يتركونها حتى تتعفن ليوم أو يومين قبل طبخها. يرفض السودانيون والمصريون العاملون مع العائلات الإنجليزية طبخ هذه الطيور حتى لو تعرضوا لخسارة وظائفهم، وكان على الإنجليز تغيير عادتهم في طبخ الحيوانات المذبوحة تماشياً مع العادات السائدة لدينا. مع ترحيب الناس بذلك، لكن عدداً من الأهالي أعتقدوا أن الإنجليز استوردوا هذه اللحوم من بلادهم وأخفوها في علب معدنية!
في أحد الأيام، بعت ثلاث عبوات من البسكويت وثلاث علب من لحم الخنزير بستة شلنات، وذهبت إلى أبوبكر، الترزي الكنغولي، ليصنع لي قميصاً أبيضا من البوبلين بأكمام طويلة وجيب. طلب مني أبوبكر فتح علبة من اللحم وأخرى من لحم الخنزير وأكل بعض ما فيها بينما كان ينظر مع الحاضرين ما الذي يمكن أن يحدث لي. بعد تأكده من أن محتويات العلب ما زالت جيدة، وافق على الصفقة. عندما ذهبت إلى البيت، فرحت أمي ونورة بقدراتي في التجارة، وحاولت أمي إغاظتي بقولها: “حتى العصاية ممكن تبقى عروسة”، وأضافت نورة: “بالنسبة ليك، أنت بقيت عريس”.
ضحكنا جميعاً. أحب نورة لأنها تعاملني على أني رجل كبير.
في اليوم التالي، ذهبت إلى المدرسة واستعرضت قميصي الجديد. قال توفيق، صديقي وحليفي الحلفاوي: “ربما سرقه… أخبرنا عن السر”.
يوم الأحد، حملت علبة من اللحم والبسكويت إلى فاطمة، وأخبرتهن بأني أرشدت الجنود الحمر إلى “بيت القزاز”، فقلن: “تتعلم بسرعة”، وضحكن!

الأسبوع المقبل:
الجراد والجنس ورسل السلام

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 1

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *