محمد فاروق لـ”مداميك”: الحرب الحالية مولود حتمي لثقافة الإفلات من العقاب وهشاشة احتكار الدولة للعنف
الكاتب والسياسي محمد فاروق سليمان في حوار مع “مداميك”:
* محادثات جنيف لم تقدم حلولاً والإعلان عن تحالف دولي لدعم السلام في السودان لا يعدو كونه تعقيداً للمسألة
* إصرار الوساطة على مشاركة الجيش فقط في المفاوضات قرار غير موفق
* نهاية هذه الحرب تعني إعادة الاعتبار لسلمية ثورة ديسمبر واستعادة الدولة تعني الانتصار لأهدافها
* نحن أمام ميلاد جديد والواقع تجاوز القوى السياسية وقدرتها على التفاعل مع مهددات الوجود السوداني
* وجود سلطة مدنية وقضائية في مناطق سيطرة الدعم السريع ينقل مستوى المساءلة لدرجة أعلى
أجرى المقابلة: محمد الأقرع
قال الكاتب والسياسي محمد فاروق سليمان، إن مفاوضات جنيف الأخيرة لم تقدم حلولاً وإن إعلان تحالف دولي لدعم السلام في السودان لا يعدو كونه تعقيد للمسألة، مشيراً إلى أن إصرار الوساطة على مشاركة الجيش فقط في المحادثات غير موفق.
ورأى سليمان أن الحرب الحالية مولود حتمي لثقافة الإفلات من العقاب وهشاشة احتكار الدولة للعنف، مؤكدا بأن نهايتها تعني إعادة الاعتبار لسلمية ثورة ديسمبر، واستعادة الدولة تعني الانتصار لأهدافها.
وأكد أن البلاد تواجه ميلادا جديداً وواقع تجاوز القوى السياسي وقدرتها على التفاعل مع مهددات الوجود السوداني، لافتاً بأنه وبذات لقدر الذي سنشهد فيه ميلاد جديد للعقيدة العسكرية عند الجنود والأفراد الذين سيقومون بحماية كلا من الأمن وحكم القانون، سنشهد ميلاد جديد لعقلية سياسية مختلفة وفاعلين جدد.
* كيف تقرأ مخرجات مباحثات جنيف الأخيرة، ولأي مدى خيبت الآمال في إحلال السلام؟
لا أعتقد أنه كانت توجد آمال حقيقية في مباحثات جنيف، أو في أي تناول للمفاوضات الآن كحل للحرب الحالية في السودان؛ لا يوجد افق لحل سلمي بعد، وهذه مشكلة حقيقية لا يجب ان نغفل عنها، مجرد جلوس الأطراف في طاولة مفاوضات لا يعني بالضرورة الوصول لاتفاق. فقد تم هذا من قبل، وبالنظر لشراكة الدعم السريع في الدولة حتى وإن بدت شكل من أشكال تشوهاتها لكنه ظل جزء من المكون العسكري في الدولة نفسها وقواها الرسمية!.
بالنظر لتاريخ الصراع في الدولة الوطنية في السودان يمكن الرجوع لتجارب إنهاء الحرب: أي مفاوضات كانت تقوم في السابق كانت تتم بناءا على مباديء سلام واضحة ومحددة، مثلا في أديس أبابا، فبراير-مارس ٧٢، شكلت مخرجات مؤتمر المائدة المستديرة والتي أعقبت ثورة أكتوبر ٦٤، مرجعية لاتفاق السلام، واعتبر ٣ مارس (تاريخ توقيع الاتفاق رسميا) هو عيد الوحدة الوطنية في السودان طوال سنوات حكم مايو. لاحقا في اتفاقية السلام الشامل في ٢٠٠٥ شكل إعلان مبادئ الايقاد الموقع في ٢٠مايو ١٩٩٤، شكل الأساس لحل النزاع في السودان، والغريب ان نظام الخرطوم والذي رفض التوقيع على إعلان مبادئ الايقاد وقتها، رغم توقيع الحركة الشعبية بقيادة د قرنق، والحركة الشعبية المتحدة بقيادة د. رياك مشار، كون الإعلان قد اتى لاحقا لانقسام الناصر الأشهر في تاريخ الحركة الشعبية، قد وقع لاحقا في يوليو ١٩٩٧، دون أي تعديل لبنوده! وقد كان توقيع النظام في الخرطوم في هذا التاريخ متزامنا لتوقيعه اتفاقية سلام مع رياك مشار وفصائل أخرى منشقة عن الحركة الشعبية.
بالنظر الان لطبيعة النزاع والذي يأتي كدائرة من دوائر العنف المتصلة في تاريخنا الوطني، إلا أنه تعبير عن انحلال الدولة في إطار وجودها الرسمي؛ فما حدث في ١٥ أبريل هو أشبه بمحاولة انقلابية للاستيلاء على السلطة تحولت إلى حرب شاملة أثر فشل هذه المحاولة، وينظر كثيرون لحرب الخامس عشر من أبريل كمولود حتمي لثقافة الإفلات من العقاب وهشاشة احتكار الدولة للعنف القانوني وفق واقع اجتماعنا الدستوري والسياسي المضطرب. بالتالي طرح مبادئ لإنهاء النزاع وفق طبيعة أطرافه مسألة يتغافلها الكثيرين الان، وذلك من خلف دعاوى مختلفة تحاول طرح سرديات مغايرة لواقع النزاع، وهو ما يجعلني اعتقد ان الحل السلمي مازال بعيدا حتى كتصور عند الوسطاء الدوليين، بذات الطريقة التي يتم النظر فيها لطرح إنفاذ القانون;law enforcement; ومحاربة ثقافة الإفلات من العقاب كعقبة أمام الحل السلمي، والذي بات تصورا رغائبيا لإنهاء النزاع من خلف مقولة لا للحرب دون أي جهد حقيقي لمواجهة اسبابها التاريخية، ومعالجة آثارها في المستقبل.
* في مشاورات جدة بعثت الحكومة وفد برئاسة ابونمو القيادي بحركة مناوي، هل كان ذلك موفقاً وكيف تنظر لمطالبة الحركات المساندة للجيش في إشراكها في أي عملية تفاوض؟
من المهم الانتباه لطبيعة مفاوضات جنيف كاستمرار لمنبر جدة وفق حديث المبعوث الأمريكي، وكون ما تم هو نقل المفاوضات لجنيف ودخول وسطاء جدد، اعترضت حكومة السودان على وجود الإمارات من بينهم، بالتالي مفاوضات جنيف لم تبارح مناقشة القضايا الإنسانية وفق تفاقم مضطرد للازمة الإنسانية طبعا للوضع في السودان منذ مايو ٢٠٢٣، وبشكل يجعل هذه القضايا اكثر إلحاحا، لكن بالمقابل الأزمة تطورت وتغييرات كثيرة حدثت منذ مايو حين توقيع إعلان جدة، والذي تم بين الجيش والدعم السريع، وقتها كان النزاع فعليا بين الاثنين، ولم تشارك فيه الحركات المسلحة خلاف الحركة الشعبية بقيادة مالك عقار، وأعتقد أن الطاهر حجر والهادي ادريس وحتى نوفمبر ٢٠٢٣، كانا عضوين بمجلس السيادة قبل أن يتم استبدالهم حسب اتفاق جوبا للسلام الذي أعطى ثلاثة مقاعد لأطراف السلام.
من المهم أن نتذكر أن موقف الهادي ادريس والطاهر حجر كان هو الموقف المعلن لكل قوات الجبهة الثورية، وقد ظلت القوى المشتركة لهذه القوات على موقف الحياد في مدينة نيالا والفاشر قبل أن يعلن مناوي عدم التزام الدعم السريع بتعزيز أي فرص للسلام ومهاجمة قواته، وعلنا نذكر ايضا في تاريخ اسبق احتلال مدينة الجنينة واغتيال الوالي خميس أبكر والذي كان أيضاً جزء من اطراف العملية السلمية في جوبا، في يونيو ٢٠٢٣، ليوسع الدعم السريع من أعدائه في حربه هذه، كما توسعت الحرب والتي كانت حدودها في ولاية الخرطوم ومطار مروي وخروقات متقطعة لاتفاق لوقف إطلاق النار شاركت فيه قيادة أهلية في مدينة الأبيض، كما دعمت قيادات اهلية في نيالا والفاشر والضعين واغلب مدن دارفور تفاهمات قريبة لذلك، لمنع تمدد الحرب حتى توقيع إعلان جدة في ١١ مايو ٢٠٢٣، هذا الواقع تغير تماما الان، ولا يمكن اعتبار إعلان جدة مناسبا لمخاطبة الواقع الجديد ومقاومة إعلان فشل نسخته الأولى، وفق توسع دائرة الحرب الآن لتشمل كل دارفور بما في ذلك حصار الفاشر الآن وانسحاب الجيش من باقي مدنها، وامتداد الحرب للجزيرة وسقوط حاضرتها مدينة ود مدني في نوفمبر ٢٠٢٣، لتشمل الحرب وفق تصعيد الدعم السريع لعملياته العسكرية كل من ولاية النيل الأبيض وولاية سنار وتخوم ولاية النيل الأزرق ونهر النيل والقضارف اضافة طبعا لدارفور وغرب وجنوب كردفان في مناطق متفرقة. ومشاركة القوات المشتركة الآن وبشكل فاعل في العمليات العسكرية ليست في حماية الفاشر فقط ولكن في كل جبهات القتال شرقا في الفاو وشمالا في الجيلي وقري، وباقي مدن السودان.
هذا تغيير كبير في طبيعة النزاع وتمدد الأعمال العدائية، والتي صاحبتها انتهاكات من قبل الدعم السريع جعلت تمدده العسكري يأتي خصما علي اي رصيد سياسي يمكن تحقيقه.
وفق هذا الواقع لا يمكن أن نتحدث عن نفس شروط مشاركة الجيش في مفاوضات جنيف بشروط جدة!، وإن كان الذي يجمع الان الحركات المسلحة التي تحارب إلى جانبه هو حكومة الأمر الواقع في السودان الآن، فمشاركة الحكومة أمر طبيعي كطرف وليس الجيش، بالتالي كون ابو نمو هو من ترأس الوفد الحكومي في مفاوضات جدة التمهيدية والتي سبقت وقصد منها التحضير لمفاوضات جنيف، يأتي وفق هذا الإطار. مطالبة الحركات المسلحة للمشاركة في المفاوضات في حال إصرار الوسطاء على تمثيل الجيش فقط أراها في إطار الضغط لتجاوز واقع جدة في مايو ٢٣، ومشاركة الحكومة كطرف، الغير موفق برأيي هو إصرار الشركاء على مشاركة الجيش فقط! فإذا كان المقصود بالمحادثات الأطراف المشتبكة فعليا على الارض فهذه الحركات التي تطالب بان تشملها المحادثات طرف على الارض خلاف موقفها عند ابتدار منبر جدة!! لكن أعود وأقول إن غياب الرؤية لمبادئ يتأسس عليها إنهاء الحرب الآن سيشغل الجميع بقضايا إجرائية كهذه عن اهداف المحادثات نفسها.
* بعض حضور الورش التي نظمت على شرف المباحثات – النذير البراق – تحدثوا على عن أن ما يدور هو بداية لتقسيم السودان، ما تعليقك بالإضافة إلى تقييم الوساطة في تعقيد المسألة او حلها..؟
أنا ليس لي علم بطبيعة الورش التي صاحبت محادثات جنيف، لكن في رأيي مسألة التقسيم هذه مرتبطة بمنطق سقيم في تناول أي حل تفاوضي كواحدة من اليات انهاء النزاع، وقد اصبحت عندنا أشبه بمتلازمة ما بعد نيفاشا، وخلاف الحديث عن طبيعة هذه الحرب وامتدادها في كل أنحاء السودان، حتى يبدو ربط الدعم السريع فيها بدارفور مغالطة ساذجة، كونها من أكثر المناطق التي يقابله فيها عداء وفق إرث انتهاكاته هناك والتي سبقت هذه الحرب، وفق ميلاده كقوات صديقة للدولة (والتي يصفها بدولة ٥٦) ونموه وتطوره وفق تشوهات ذات الدولة، لكن بعيدا عن هذا، التقسيم لم ينجح في نيفاشا في إرساء السلام واستدامته في شمال وجنوب السودان، وما يحدث عندنا دليل افضل من تناول ما يحدث في جنوب السودان. برأيي التخوف الحقيقي هو من تشكيل الدعم السريع لسلطة حكومية أو إدارة مدنية في مناطق سيطرته، وهذا تخوف لا أساس له برأيي ولا يعزز اي فرص للانقسام، بالعكس عدم تشكيل ادارة مدنية في مناطق سيطرة الدعم السريع يعكس طبيعة هذه القوات كقوة عسكرية مقاتلة فقط لم تملك مشروع سياسي بعد، فوجود سلطة مدنية وقضائية في مناطق سيطرة الدعم السريع لن يضيف سوءا للوضع هناك، بالعكس قد ينقل مستوى المساءلة في هذه المناطق لدرجة اعلى، وتحميل الدعم السريع لمسؤولياته تجاه مناطق سيطرته. من المهم أن نعي كون وجود سلطة مدنية في مناطق سيطرة الحركة الشعبية الآن وفي السابق ومناطق سيطرة حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور كان من أسباب تحسن الوضع الإنساني وضبط القوات المقاتلة في تلك المناطق، ولم يقف عثرة أمام حل النزاع هذا إذا لم يدعمه بظني، أنا لا أدعو هنا الدعم السريع لتكوين إدارة مدنية او أشجعه على ذلك، أنا فقط أشير إلى فشله في أمر بديهي لتشكيل هذه الإدارات المدنية، رغم المحاولات المتكررة منذ إعلان لجنة لمحاربة الممارسات السالبة بقيادة عصام فضيل، وحتى محاولات تشكيل ادارة مدنية في الجزيرة وغيرها من مناطق سيطرته! في الحقيقة نفس أفراد الشرطة في مدينة الضعين مثلا ما زالو يعملون، ولكنهم لا يتمتعون باي سلطات حقيقية في مقابل خروقات تشكيلات الدعم المقاتلة وأفرادها! لا اعرف لماذا يعتقد كثيرين محاولات تشكيل الدعم السريع لإدارة مدنية هو تعزيز للانقسام بأكثر من الحرب!، حتى لو كانت ادارة من القادة العسكريين وجودها لن يكون أسوأ من فشل هذه المحاولات إذا قدر لها أن تنجح.
هذه الجولة من المفاوضات في جنيف بالتأكيد لم تقدم حلولا ولا اعتقد ان الاعلان عن تحالف دولي لدعم السلام في السودان يعدو كونه تعقيدا للمسألة، فمسألة السلام والقضايا الإنسانية في السودان يجب ان تحظى بدعم أممي واهتمام دولي عبر المؤسسات والمنظمات الأممية وفي مقدمتها الأمم المتحدة، وتعزيز دور المنظمات الإقليمية مثل الإيقاد والاتحاد الأفريقي ووفق القانون الدولي وأسس التعاون الدولي ودوره في تعزيز السلام وليست عبر مجموعة محدودة من الدول، تشكك الأطراف المتحاربة في نواياها أو حتى حيادها تجاه النزاع! من المهم هنا الاشارة لدور دول الترويكا في دعم منظمة الإيقاد للعب دور في إرساء سلام في السودان في السابق فقد استعانت المنظمة الإقليمية وذات الإمكانيات المحدودة ماديا بالطبع شركاء الإيقاد في دعم الحل السلمي في السابق في السودان.
* ايضا تحدث الدعم السريع عن مقترح دفع به إلى الوساطة بشأن تشغيل عدد من المطارات في دارفور، ما مستقبل مثل هكذا خطوة؟
لا يوجد مستقبل لهكذا خطوة في تعزيز فرص السلام، وقد تكون مسعى للمغالطة في مسالة سيادة الدولة مجددا لا اكثر، لكن مسالة الملاحة الجوية أكثر تعقيدا من ان تطرح هكذا، مثلها مثل الملاحة البحرية. هنا العالم أكثر حساسية اتجاه القانون الدولي لان حرية الملاحة مسألة مصيرية وترتبط بها مصالح الجميع، وفي جوانب كثيرة تترتب عليها اجراءات السلامة وأمن الأجواء، وهي مسألة فنية بالغة التعقيد، وتتلقى سلطات الطيران المدني في اي دولة تدريب على مستوى عالي ووفق معايير عالمية، وستلقي باسئلة اساسية، مثلا الدعم السريع الان يستخدم في حربه طيارات مسيرة، وقد يتلقى دعم لوجستي عبر مطارات إقليمية، وبالتاكيد لو امتلك الدعم السريع قدرة تشغيلية للملاحة الجوية لن تكون لأغراض الدعم الإنساني فقط، والذي يمكن أن تُجبَر الحكومة السودانية في ظروف طارئة بتوفيره عبر مطاراتها بالمناسبة، بحيث تكون عملية داخلية in boarder، لاستخدامات أخرى لماذا الحوجة لاعتراف دولي؟ فهو لا يمكنه التنقل جوا كما يتنقل براً بين الحدود من خلال مناطق سيطرته بنفس السهولة، فالحركة الجوية أمر مختلف، الحصول على دعم فني لتشغيل المطارات قد يصل لاقامة قاعدة جوية من قبل دولة ذات قدرات فائقة حتى يتثنى له تشغيل المطارات بشكل مستمر، هذا مستوى آخر لاستدامة النزاع وليس لتعزيز فرص السلام. طبعا لا يوجد ما يمنع هبوط طائرات بشكل غير رسمي في أي من هذه المطارات، وقد تكون هناك طائرات وفق محاذير في الحجم والنوع قد هبطت بالفعل، دون الإعلان عنها، كون استخدام هذه المطارات بشكل غير رسمي أمر يمكن مواجهته عسكريا، وتهديد حركة الطيران قد يكون في قدرة الجيش السوداني مع امكانية تعزيز هذه القدرات من خلال تحالفاته.
* هناك تفاهمات حول فتح معبر ادري وإيصال المساعدات الإنسانية هل يمكن أن تقود تلبية احتياجات النازحين والمحاصرين في مناطق النزاع؟
طبعا لا يمكن استخدام الغذاء كسلاح، اراد كثيرين النظر لشريان الحياة في السابق كتهديد أمني، ويعتقد البعض انه من اسباب اطالة اماد الحرب الأهلية! علينا أن نتوقف عن طريقة التفكير هذه، فحتى من خلال ظروف النزاع وتهديد كافة أشكال النشاط الإنتاجي للنازحين والمحاصرين تتيح هذه المعابر درجة محدودة جدا لسبل الحياة، ولكنها تظل ظروف غير طبيعية وليس الأفضل. معبر ادري كان مفتوح أمام حركة الاغاثة والعون الإنساني قبل مفاوضات جنيف في اعتقادي، اغلق لاتهامات من قبل الحكومة السودانية حول استخدامه لنقل السلاح للدعم السريع، اعتقد مسألة وجود لجنة من الأمم المتحدة والجيش التشادي والسوداني والدعم السريع لمراقبة حركة الشاحنات عبره تعود بإلحاح كل مرة. لكن من المهم ان نعرف رغما عن كون معبر أدري أصلا تحت سيطرة الدعم السريع، إلا أن مرور شاحنات الاغاثة الدولية دون موافقة حكومة السودان يجعله نشاط غير قانوني، لذا تطالب المنظمات العاملة في مجال الاغاثة بالموافقة الرسمية اولا، وايضا تطالب بالسماح بالعبور الآمن من قبل الأطراف المتحاربة. وان ظلت الشاحنات وموظفي الاغاثة يتعرضون لمهددات مختلفة ودرجات امان اقل بدءا من استهداف الشاحنات نفسها ووقودها وحتى حرية وحياة الموظفين.
* الواقع يؤكد كل يوم ان البلاد تواجه أزمة مفصلية خطيرة لأي مدى ترى تفاعل القوى السياسي مع هذه الأزمة الوجودية الخطيرة، هل يكفى إطلاق الدعوات بلا للحرب او الأمنيات بحلول جذرية، ما يمكن فعله؟
الواقع والأزمة الآن تجاوزت برأيي القوى السياسية وقدرتها على التفاعل مع مهددات الوجود السوداني، الاشتباك داخل الحركة السياسة لا يقل ضراوة عن الاشتباك العسكري، ويزيد في تهديد قبولنا ببعضنا. في الحرب فرصة ذات كلفة عالية للجميع للتعلم، وفي رايي بنهاية هذه الحرب ستسقط كثير من الأفكار والطموحات التي تقاصرت عن تحديات هذه المرحلة المفصلية من تاريخنا. أننا أمام ميلاد جديد لن تعود بعده الحركة السياسية كما عرفناها، وبذات القدر الذي سنشهد فيه ميلاد جديد للعقيدة العسكرية عند الجنود والأفراد الذين سيقومون بحماية كلا من الأمن وحكم القانون، سنشهد ميلاد جديد لعقلية سياسية مختلفة وفاعلين جدد، انتهت صلاحية التمثيل السياسي الحالي وسيتصدى الفاعلين وأصحاب المصالح التي تم تبديدها بشكل مباشر لإقامة نظام سياسي جديد.
لا اعتقد انه توجد فرصة مجددا لاختطاف آمال الناس وحقهم في حياة أفضل من خلف إطلاق دعوات منقوصة او كتابة مواثيق منقوضة.
* يتخوف الكثيرون بأن الحرب قضت على أحلام وآمال ثورة ديسمبر وفي أفضل السيناريوهات، ستنتهي على تركيبة حكم متناقضة مع ما خرج السودانيون من أجله..؟
أعتقد أننا تجاوزنا الخروج بتركيبة حكم مناقضة لما خرج السودانيين من أجله. الثورة هي ضرورة تاريخية، وليست فعل ننتخبه فقط، والتغيير شرط من شروط الاستمرارية والبقاء، مغالطة هذه الضرورة تقود لتهديد وجودنا، وهذه الحرب هي محصلة هذه المغالطة من قبل النخب العسكرية وفي رايي تهديد الانتقال وفشله في السابق هو نتاج مغالطة النخب السياسية المدنية ايضًا للصيرورة التاريخية، سواء من قبل المحسوبين على الثورة والذين هم أعداءها. عدم استيعاب اللحظة التاريخية قاد لهذا التهديد لأحلام وآمال ثورة ديسمبر، ولكنه لم يقضي عليه، في الحقيقة نحن الآن أكثر حوجة لهذه الآمال واستعادة روح الثورة حتى لو لم نعي بهذا لاستعادة حياتنا. نهاية هذه الحرب تعني إعادة الاعتبار لسلمية ثورة ديسمبر، واستعادة الدولة تعني الانتصار لأهداف الثورة في الحرية والسلام والعدالة، تغافل كثيرين عن واجبات تحقيق هذه الأهداف وتحايل البعض عليها واستغلتها قلة للصعود للسلطة من خلالها وحاولت الانفراد بها على ذات نسق النظام السياسي السابق، وعكس كثيرين أنا ارى سقوطهم هم، وليس سقوط امال السودانيين وأحلامهم المشروعة في التغيير،
لست ميالا للإدانة وفق منطق الثورة، ولكن التغيير سيدينك حتى تتغير أنت، هذا ما نحتاجه الآن في كافة أوجه النزاع الحالي. سيستمر هذا التهديد للوجود السوداني، ما استمرت هذه المغالطة لأحلام وآمال ثورة ديسمبر. وسينتهي هذا الانقضاض على الوجود السوداني بانتهاء هذه المغالطة.
* كيف ترى الدعوة الدولية بنشر قوات أممية لحماية المدنيين وتوسيع نطاق الجنائية…؟
إذا نظرنا لسياق هذه التوصيات والتي أتت ضمن ولاية لجنة تقصي الحقائق والمكونة بموجب قرار مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة في أكتوبر ٢٠٢٣، والذي يتضمن: تقديم توصيات، لا سيما بشأن تدابير المساءلة، بهدف إنهاء الإفلات من العقاب ومعالجة أسبابه الجذرية، وضمان المساءلة، بما في ذلك، حسب الاقتضاء، المسؤولية الجنائية الفردية، اضافة طبعا إلى التحقيق وإثبات الحقائق والظروف والأسباب الجذرية لجميع المزاعم حول انتهاكات حقوق الإنسان والتجاوزات وانتهاكات القانون الإنساني الدولي- بما فيها تلك المرتكبة ضد اللاجئين- والجرائم ذات الصلة في سياق النزاع المسلح المستمر الذي بدأ في 15 نيسان/أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، بالإضافة إلى الأطراف المتحاربة الأخرى؛ كذلك، تحديد، حيثما أمكن، الأفراد والكيانات، المسؤولة عن الانتهاكات، أو غيرها من الجرائم ذات الصلة، في السودان، بهدف ضمان محاسبة المسؤولين؛ وقد دعا القرار أطراف النزاع إلى التعاون- بصورة كاملة- مع بعثة تقصي الحقائق في أداء عملها، كما دعا المجتمع الدولي أن يقدم الدعم الكامل للبعثة في سبيل تنفيذ ولايتها.
تاتي تحديدا التوصيتين الخاصتين بنشر قوات اممية لحماية المدنيين، وتوسيع تفويض المحكمة الجنائية لتشمل كل السودان وليست دارفور كما كان في السابق، ويشمل هذا تسليم المتهمين السابقين فورا لسلطات المحكمة الجنائية وفق ما جاء في المؤتمر الصحفي للبعثة، تأتي هذه التوصيات كفرصة للتعاون مع التحقيقات حول مزاعم الانتهاكات في كافة ارجاء السودان، اثر الحرب الحالية، وهو ما يعني تحديدا؛ وعي الأطراف الوطنية بعدم قدرة الأجهزة العدلية الوطنية، وليست غياب الارادة او الرغبة في تحقيق العدالة، كما يأتي نشر قوات دولية، لحماية المدنيين، في ظل عجز القوى النظامية المناط بها فرض إنفاذ القانون، كضرورة لمواجهة الانتهاكات والانفراط المروع للنظام القانوني، بطبيعة الحرب الحالية والتي تشهد تمرد قطاع أساسي من القوى النظامية، في مواجهة مع بعضها، وغياب الشرطة والأجهزة الامنية والسلطات العدلية في مناطق النزاع.
التعاطي الإيجابي من قبل السلطات السودانية مع تقرير لجنة تقصي الحقائق، ورغم عن اعتراض السودان في مجلس حقوق الإنسان على قرار تشكيلها، الآن أمر مفصلي وضروري لمخاطبة مستقبل النزاع وفرص السلام الحقيقية، من خلال استعادة حكم القانون، والأهم مواجهة الواقع الحالي المروع للسودانيين وانهاء معاناتهم، من خلال الاضطلاع بمسؤولية الحكم، ودعم المجتمع الدولي، وكجزء منه، في الاضطلاع بمسؤلياته وواجباته وفق القانون الدولي وعبر المنظمة الاممية، واجهزتها، والحيلولة دون مزيد من الامتهان للإرادة الوطنية من خلال التفريط في سلطة القانون والعدالة، والتي ظلت تركة ثقيلة للنظام السابق هددت الانتقال الديمقراطي وتهدد وجود الدولة الان.
* في السياق هناك دعوات جنائية سابقة بل وقرار من المحكمة الجنائية لكن مازال هناك إفلات من العقاب…؟
نعم يتم النظر لكون المحكمة الجنائية الدولية كالملاذ الأخير لمحاربة ثقافة الإفلات من العقاب، كمقولة نظرية، لم تبلغ حيز التنفيذ بعد، ويلقي كثيرين باللوم لدول العالم (الأول)، كون المحكمة تخدم أغراض سياسية لهذا العالم بشكل اساسي قبل مسالة محاربة ثقافة الافلات من العقاب، وتخضع بشكل كبير لرغبات هذا الجزء من العالم في ابتزاز القادة من دول (الجنوب) وأفريقيا، دون غيرها. لكن بالنظر للقضية السودانية وملف جرائم الحرب في دارفور اعتقد ان المسؤولية المباشرة لمسألة الإفلات من العقاب هنا تخضع للإرادة الوطنية عندنا، فطوال سنوات الانتقال المضطرب بعد أبريل ٢٠١٩، وقبل حتى انقلاب أكتوبر ٢٢، ظلت المحاولات في مثول (تسليم) المطالبين للمحكمة الجنائية سببا مباشراً في تعثر العدالة، وقد تم تخدير الرأي العام في قضية الانقلاب والتي شملت عددا من المطلوبين ورغم عدم اكتمال ملفات الادعاء فيها، ناهيك عن عبثيتها وفق تواتر الأحداث السياسية بالبلاد مرورا باتفاق السلام الشامل في ٢٠٠٥، والذي يجعل ملف الانتهاكات المباشرة لنظام الإنقاذ اولى من هذه المماحكة السياسية، التي ظل تقديمها كملهاة شاغلا عن الواجب في التعاطي مع ملف المحكمة الجنائية، وقد قاد تسييس القضاء في تلك الفترة أحد المتهمين المحبوسين للمطالبة بتسليمه للمحكمة الجنائية؛ المتهم/ أحمد هارون، كما قام متهم آخر وقبل إلقاء القبض عليه بتسليم نفسه للمحكمة الجنائية؛ المتهم/ علي كوشيب! بالتالي لا يمكن أن نكتفي ببحث دور ما يعرف بالعالم الأول في تهديد دور المحكمة الجنائية للحد من ثقافة الإفلات من العقاب، دون الحديث عن دورنا في العالم الذي يتم تعزيز هذه الثقافة فيه، وبرأيي كوننا نقع في الجانب الذي نكون فيه الضحايا للأنظمة السياسية، يظل فساد هذه الأنظمة هو السبب المباشر في الإفلات من العقاب، ونلاحظ عندنا في السودان وبعد الثورة وأثناء الانتقال، كون الذين كانوا يتربصون بالانتقال سواء من المكون العسكري أو أولئك الذين في المعسكر المضاد للثورة، هم من كانوا يعطلون مسالة (المثول) هذه امام المحكمة الجنائية لقائمة المطلوبين من قادة النظام السابق، وللأسف قد سايرهم بعض من مثلوا قوى الثورة في المكون المدني، وذلك (تحاشيا) لفشل الشراكة، في خضوع مريب برأيي للمساومة في قضية العدالة، وهنا اذكر ان مفردة (مثول) المطلوبين هذه قد تم استحداثها بديلا عن (تسليم) المطلوبين أثناء مفاوضات سلام جوبا، في تلاعب لفظي يتجاوز العبارات للمعاني، وذلك لتجاوز الخلاف حول تسليمهم للمحكمة الجنائية في مقرها بين المفاوضين!
* كيف يمكن أن تنجح قوة لحماية المدنيين بالمقارنة مع تجربة اليوناميد السابقة في دارفور، ويرى مراقبون أن التدخل المباشر سيقود إلى تفاقم الأوضاع وتصاعد التيارات الوطنية المتشددة؟
لا اعتقد ان المقارنة قائمة هنا، كما لا يمكن وصف الوضع أثناء وجود قوات يوناميد في دارفور بأنه كان أفضل دون وجودها، رغم اختلافات اساسية بين ما يمكن ان يقود اليه تشكيل قوات أممية الان بناءا على توصية لجنة تقصي الحقائق، ففي حال قبول هذه التوصيات من قبل مجلس حقوق الانسان وعرضها على الجمعية العمومية في أكتوبر، ستفتح الباب أمام قرار للتدخل الأممي تحت البند السابع، وهو يمكن أن يوقف في مجلس الأمن، ليس من خلال حلفاء الحكومة السودانية الحالية، ولكن حتى من قبل حلفاء الدعم السريع، فمثلا رغم اتهام الحكومة للإمارات بدعم قوات الدعم السريع، إلا أن السودان والإمارات قد صوتا سويا ضد قرار تشكيل لجنة تقصي الحقائق! وان كان موقف الإمارات من ضمن موقف الكتلة العربية و(الإسلامية) شاركته فيها قطر والجزائر وماليزيا والدول الاخرى في هذه الكتلة إضافة إلى ارتريا والصين، ليفوز القرار وقتها بتأييد ١٦ دولة ومعارضة ١٤ دولة وامتناع ١٢ دولة عن التصويت، استقدام يوناميد في دارفور تم وفق جهود دبلوماسية من قبل بان كيمون الامين العام للامم المتحدة وقتها، وقد اتت جهوده اضافة لمساعي قادة أفارقة ودوليين اخرين بعد توقيع اتفاق سلام دارفور في مايو ٢٠٠٦، لتثمر هذه الجهود قبول السودان في يونيو ٢٠٠٧ استقبال هذه القوة، لتنشأ البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، يوناميد، في أواخر يوليو ٢٠٠٧، تحت البند السابع وفق تبني مجلس الأمن للقرار ١٧٦٩.
وقتها كانت حكومة السودان هي الحكومة الانتقالية التي تشكلت بموجب اتفاقية السلام الشامل في ٢٠٠٥، والتي كانت بشكل أساسي شراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، ونلاحظ وجود بعثة أخرى لدعم اتفاق السلام الشامل والتي احتفظت أيضا بقوات أممية عرفت بيوناميس UNMIS اختصاراً لبعثة الأمم المتحدة في السودان، احتفظت بمقر رئيسي في الخرطوم، واحتفظت بمبنى إداري مستقل داخل مطار الخرطوم من جانبه الشرقي لادارة عملياتها اللوجستية، لتصبح بعد استقلال جنوب السودان بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان UNMISS وتكتفي بوجودها في دولة جنوب السودان. وهذا السرد مهم لتناول ما سميته بتصاعد دور ما للتيارات الوطنية المتشددة، فلا يمكن أن نعتبر في السودان وجود قوات دولية وفق البند السابع كسابقة في السودان وفق ظروف أفضل، وفي ظل وجود هذه التيارات في قمة السلطة، إذا كنت تقصد تيار الإسلام السياسي او النظام السابق، والذي ربما يحاول توظيف الحرب الآن للثأر من الثورة السودانية التي أسقطته، ولكن الأوضاع الآن في السودان أكثر خطورة، ومعاناة الناس اكبر من توظيفها في هكذا معارك بين مشاريع سياسية، فشلت عمليا، في دولة يتم تهديد وجودها، وفق حصاد هذا الفشل.
لا بد من مدخل مختلف في التعامل مع التحديات الحالية، والوعي بكون مسالة انفراط عقد الامن الان قد تكون اكبر من قدرة الأطراف المتحاربة على ضبطها، فالدعم السريع وفق أفضل تقدير فاقد للسيطرة على قواته وفق تفلتاتها، وتورطها في جرائم ضد الإنسانية إضافة للانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي، والتي كان لها النصيب الأوفر في تقرير لجنة تقصي الحقائق.
الجيش ووفق نفس التقرير وحلفاءه عاجز عن أن يكون قوة قانونية ملتزمة بالقانون الدولي، ولا يخلو سجله ايضا من انتهاكات جسيمة، وما يهم ان استمرار النزاع يعني هدر كثير من الحيواة وموارد البلاد. على حكومة السودان (الأمر الواقع) ان تتعاطى بشكل شجاع مع تقرير لجنة تقصي الحقائق وتوصيات اللجنة، وإبداء تحفظاتها الموضوعية على أي من نقاطه، ومن الافضل ان تكون طرفا في صياغته النهائية والقبول بتوصياته، وبشكل مغاير للتعاون الشكلاني الذي يبديه الدعم السريع مع الجهود الدولية؛ فوفق الذين يدعمون الحرب في المعسكرين؛ الدعم السريع يدير علاقات عامة وفق حضوره في المنابر الدولية، بما في ذلك ترحيبه بلجنة تقصي الحقائق هذه والجلوس معها، دون أي رغبة في الوصول لسلام، مستمرا في تصعيد أعماله العدائية، وحصار الفاشر الان والإصرار على دخولها بأي كلفة يقف شاهدا على ذلك.
هذا واقع يجب تجاوزه والاضطلاع بدور الحكومة الحقيقي ودفع المجتمع الدولي للعب دوره القانوني والشرعي في دعم الاستقرار في السودان وإنهاء معاناة السودانيين والسودانيات. بدلا من الإصرار على مغامرة سياسية مستمرة منذ تهديد الانتقال السياسي الديمقراطي من قبل الانقلاب واحداث فض الاعتصام وطوال فترة الانتقال، ومن قبل الطرفين، في مغالطة كارثية لحركة التاريخ.