‫الرئيسية‬ ثقافة نقد تبديات “التنوع” فى مسرحية ثورة 1924:
نقد - 4 سبتمبر 2024, 11:06

تبديات “التنوع” فى مسرحية ثورة 1924:

السرالسيد
قبل الولوج فى الموضوع الرئيس سأطرح بعض الإشارات التى أرى أنها مهمة:
الإشارة الأولى:
مؤلف المسرحية هو المناضل العمالى عبدالله بشير فضل (1914-1977)..عمل بالسكة حديد عطبرة وترقى الى ان وصل درجة الملاحظ الاول فى ورشة المخارط بالسكة حديد فى العام 1965.يذكر التاريخ انه من اعلن اضراب 12/7/1947..تولى سكرتارية النقابة دورة 51-52..من رموز حزب الامة وقادته الافذاذ..كان مثقفا بارزا ويعد من أهم رواد المسرح فى عطبرة بل من رواد المسرح فى السودان فقد بدأ نشاطه المسرحى فى العام 1934 وكان يطوف بمسرحياته الكثير من مدن السودان وقراه متبرعا بعائدها للتعليم الاهلى ولانشاء معهد القرش الصناعى..
من مسرحياته نذكر (كَتلة دار جعل وثورة 24)..أنظر حسن احمد الشيخ “كتاب نادى النسر عطبرة 1927-2017.
الاشارة الثانية:
لا يقف فن المسرح كما يعتقد الكثيرون عند مناقشة القضايا المجتمعية والترفيه فقط برغم اهميتهما وانما يتعداهما اذ انه يعد فى الكثير من الاحيان حاملا للمعارف والمقولات الفلسفية،فقد اقتبس كارل ماركس من شكسبير أو أحال اليه كما فى الجزء الاول من كتابه رأس المال وذلك عندما “شبَّه قانون عمل الأطفال اللا إنساني بالعقد الذي أبرمه شايلوك باقتطاع رطل من اللحم من صدر أنطونيو في حال عجز صاحبه عن سداد الدين مستشهدا بمسرحية تاجر البندقية”-انظر مجدى ممدوح-“مقالة”
وأحال الدكتور شريف حرير الى مسرحية (نبتة حبيبتى) لهاشم صديق وهو يتحدث عن مملكة كوش ضمن قراءته العامة لتاريخ تشكل الدولة داخل حدود السودان الحالى..انظر شريف حرير وتيرجى تفيدت..”كتاب السودان:الانهيار أو النهضة”.
واستند فرويد فى بعض تحليلاته النفسية على (مسرحية أدويب ملكا لسوفكليس وقضية قتل الاب ومسرحية “روزمرزهولم لهنريك ابسن)-انظر ابراهيم العريس “مقالة”.
اما الفلسفة الوجودية فقد كان المسرح حاملها الاستثنائي كما فى مسرح سارتر على سبيل المثال.
أيضا مثل المسرح ذاكرة وارشيفا للكثير من الوقائع السياسية والاحداث التاريخية والحكايات الشعبية والاساطير كما فى مسرحيتي (تجنيد اجبارى) للمخرج السودانى ياسر عبداللطيف تلك المسرحية التى مثلت اريشيفا لحادثة العيلفون،ومسرحية (تصريح لمزارع من جودة) للدكتور عبدالله على ابراهيم وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
الاشارة الثالثة:
يلتزم المسرح عند مقاربته للوقائع التاريخية بالحقائق ولكنه يعرضها وفقا لمنطقه الخاص،اى انه لا يفعل كما يفعل المؤرخ فقد يضيف بعض الشخصيات والاحداث خالقا ما يمكن ان نسميه مجتمع النص من غير ان يؤثر هذا على الحقيقة التاريخية،كما انه فى بعض الاحيان ينتخب حدثا ما او شخصية ما من مجمل الحادثة التاريخية ويبنى عليها مقاربته.
فى النص:
اشير بداية الى النص وبرغم توفره على تقنيات الكتابة المسرحية خاصة (التقليدية) منها وبرغم مقاربته لموضوع من الاهمية بمكان هو ثورة 1924 الا انه يقع خارج دائرة الذهن المسرحى المهيمن،فلن تجد له ذكرا فى التاريخ الرسمى للمسرح السودانى،الذى كان ولا يزال ولحد كبير يركز على المسرح فى العاصمة..على الصعيد الشخصى تعرفت على هذه المسرحية قبل سنوات من خلال اشارة لها وجدتها فى كتاب (آمال وأحلام)،لبروفسير هشام عباس زكريا،الذى يحكى سيرة اول فيلم روائي سودانى بعدها تحاورت بشأنها مع الصديقين الفقيدين العزيزين الممثل والمخرج حسن فتح الرحمن “حسن ثورة” و الكاتب الممثل جعفر سعيد الريح وللمصادفة كان ثلاثتهم من عطبرة،
ثم وبعد الحرب وعودتى الى عطبرة
توفرت لى معلومات عن المؤلف والنص بسبب لقاءاتى المتكررة بالمثقف العطبراوى الكبير حسن احمد الشيخ الذى لا تخفى عليه شاردة او واردة فى المتن العطبراوى،وبأشارة منه
وبمعاونة دكتور شمس الدين يونس عثرت على النص عن طريق المثقف المناضل عبدالله القطينى الذى اتاح لنا ان نلتقى الخبير فى تدريس اللغات الاجنبية والمشارك فى التمثيل فى المسرحية الاستاذ عبدالله محمد حسبو الذى اضاء لى جوانبا مهمة عن المؤلف وعن النص وعن تجوال المسرحية وعن طرائقهم فى التمثيل والاخراج آنذاك،فشكرى موصول لهم جميعا.
النص والحقائق التاريخية:
لا يتتبع النص سيرة اللواء الابيض من حيث النشأة وتحولاتها وكذلك لا يستغرق كثيرا فى تفاصيل الحراك ولكنه يبدا من اعتقال على عبداللطيف وصولا للمظاهرات ثم اجلاء القوات المصرية وتمرد الضباط السودانيين بقيادة عبدالفضيل الماظ،ثم محاكمتهم عسكريا..داخل هذه المحطات فى الثورة ينمو النسيج العام للنص ويضاء الكثير من ابعاده.
بخصوص الحقائق التاريخية سنجد ان المسرحية على مستوى الشخصيات،قد ذكرت كل الشخصيات الضالعة فى الحدث الرئيس فى المسرحية الذى هو تمرد الضباط السودانيين وثورتهم اضافة الى بعض القادة الاساسيين فى اللواء الابيض فقد اتت على ذكر، على عبداللطيف،وعبيد حاج الامين،وصالح عبد القادر والماظ والمطبعجى وكل الذين شاركوا عمليا فى المواجهة ضد القوات الاستعمارية،ك ثابت عبدالرحيم،وسيد فرح وحسين داكور وعلى البنا وغيرهم وفى الجيش المصري اتت على ذكر قائده احمد رفعت باشا وفى السلطة الاستعمارية اتت على ذكر السير لى ستاك واللنبى وهدلستون باشا ومكاون باشا و ولسون باشا وجورج باولز ومعاونهم السودانى حكمدار بوليس الخرطوم وداعة محمد قسم السيد واتت كذلك على ذكر سعد زغلول،ونشير هنا الى ان النص بالضرورة ولضرورات المسرح لم يأت بأقوالهم كما قالوها وانما عبّر عن فحواها الكلى بأستثناء أقوال الضابط البريطانى الذى قرأ الاحكام والتى كانت وفق مواد “قانون الاحكام العسكرية البريطانية لسنة 1893″،ونشير ايضا الى ان النص ولضرورات تأسيس (مجتمع النص) حوى شخصيات اضافية كشخصيتى الرجل وزوجته وشخصيتى الاعمى والمعاق حركيا وشخصيات شهود الزور الذى اتت بهم هيئة الاتهام لدعم احكامها وشخصية المغنية،وشخصيتى مواطن1 ومواطن2،أما على مستوى الاحداث والوقائع فقد اشار النص وبطريقة عبقرية الى الوسائل السلمية التى استخدمتها جمعية اللواء الابيض كالمظاهرات والمنشورات والكتابة فى الصحف،وفى المواجهة العسكرية اشار الى مكانها والى المشاركين فيها والى نوع الاسلحة المستخدمة من الطرفين والى عدم مشاركة الجيش المصري وانسحابه فى اللحظات الاخيرة والى المحكمة والاحكام التى صدرت بحق الثوار وكل هذا بالطبع موجود فى الكتب والوثائق ذات الصلة بثورة 1924.
على المستوى الهيكلى يتكون النص والذى كتب بما يطلق عليه الشعر الشعبى..يتكون من أربعة فصول ولا يعتمد تقنية (المشهد) فى الانتقال من طور الى الى طور وانما يستعيض عنها بما يعرف (بالارشادات المسرحية)، باستثناء الفصل الرابع الذى يتكون من ثلاثة مشاهد.
يتعرض الفصل الاول والذى يبدأ ب على عبداللطيف فى مناجاة للوطن..يتعرض الى رؤية ثوار 24 للاستعمار،والى النضال المشترك بين شعبي وادى النيل والى بدايات انتظام الثورة فى الخرطوم والمدن السودانية الكبرى شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.هذا الفصل يدور فى منزل على عبداللطيف و ينتهى بأعتقاله ومن معه وتظهر فيه شخصيات (على عبداللطيف وصالح عبدالقادر وعبيد حاج الامين وحسن شريف والمطبعجى و عازة زوجة على عبداللطيف وحكمدار بوليس الخرطوم وداعة محمدقسم السيد والجاويش) الذى يقوم بتفتيش المنزل..اما الفصل الثانى والذى جاء مكرسا لطرح ملابسات المواجهة العسكرية ومناقشة ابعادها فستدور احداثه فى مكتب عبدالفضيل الماظ وسنقف فيه على الطريقة التى يرى بها الثوار السودان والعالم فى ذلك الوقت وسنقف على حضور الثورة المهدية ممثلة فى معركة كررى وعلى حضور اللواء الابيض. فى هذا الفصل سنقف على اتساق الرؤية بين ما يمكن تسميته بالجناح المدنى للحركة الذى ظهر فى الفصل الاول والجناح العسكرى لها الذى ظهر فى الفصل الثانى..فى هذا الفصل والذى يبدأ أيضا بمناجاة الماظ للوطن تظهر فيه شخصيات (الماظ وسليمان محمد وثابت عبدالرحيم وحسن فضل المولى وعلى البنا وسيد فرح ومحمد خير السيد
وخالد محمد صالح والقائد المصرى رفعت باشا ومعه ضابطين مصريين) وينتهى بأداء القسم بينهم على مواصلة النضال والمواجهة حتى النصر او الشهادة.
الفصل الثالث وتدور احداثه فى البداية فى الكركون حيث الوحدة السودانية وارهاصات المواجهة ومفاوضات الجيش الانجليزى معهم.فى هذا الفصل تتجسد المعركة..”معركة النهر الثانية” وسنقف على انسحاب الجيش المصرى واستشهاد عبدالفضيل وهروب سيد فرح ومحاولة القوة السودانية عبور النهر،لتنتهى المعركة ويقتل من يقتل من الطرفين ويتم اسر واعتقال افراد الكتيبة السودانية وتظهر فيه شخصيات (أحمدخيرالسيد وهدلستون باشا ومكاون باشا وحكمدار امن الخرطوم وداعة محمدقسم السيد والديدبان والماظ وحسن فضل المولى وثابت عبدالرحيم وعلى البنا وسليمان محمد وخالد محمدصالح وبوليس سري1 و2 ومواطن 1و2 والزوجة والزوج و الاعمى والكسيح).
أما الفصل الرابع فتظهر فيه شخصيات (ملازم اول سليمان محمد وملازم ثانى ثابت عبدالرحيم وملازم ثانى حسن فضل المولى وملازم ثانى على البنا والحرس وحاجب المحكمة وهيئة المحكمة المكونة من هدلستون باشا ومكاون باشا وضابط انجليزى وممثل الاتهام حكمدار بوليس الخرطوم وممثل الدفاع والقاضى والشهود الثلاثة)،و تدور احداثه فى مشهده الاول فى المحكمة العسكرية فنسمع التهم واقوال المتهمين واقوال الشهود ومرافعة الدفاع وصدور الاحكام وفى مشهده الثانى تدور الاحداث فى ساحة الاعدام فنرى المحكوم عليهم ونرى كتيبة الاعدام وتنفيذ الحكم وفى مشهده الثالث نرى سيرة عريس تغنى فيها المغنية أغنية تمجد الثورة والثوار فيتم اعتقالها وبعضا ممن كانوا معها.
تبديات التنوع فى النص:
أشرت الى ان النص نهض بالاساس على قصة جمعية اللواء الابيض وثورة24،كما حفظتها الوثائق وكتبها المؤرخون والباحثون ولكن على طريقة المسرح،لذلك فالتنوع الذى يتبدى فيه انما هو التنوع الذى قامت عليه الجمعية وعبّرت عنه الثورة،وما يجب لفت الانتباه اليه هنا هو ان المقالة وهى تستجلى تبديات التنوع فى النص،لا تقف عند “تمثيله” لحضور “الهويات” على مستوى العرق او الثقافة او النوع على أهميته وقد كان له حضور فى الجمعية وفى النص اذ انها ترى ان هذه النظرة للتنوع لا تخلو من تعسف ما فهى أولاً تقفز على معطى تعددية الهوية الواحدة فالشخص الذى هويته “أفريقية” مثلا هو فى نفس الوقت له هويات اخرى تلتقى مع آخرين ليسوا بالضرورة من اصحاب الهوية الافريقية كأن يكون على سبيل المثال مسلما او مسيحيا أو رجلا او امرأة أو معاقا أو عضوا فى حزب لا يقوم برنامجه على الاثنية او الدين أو الفئوية وكل هذه أنماط من الهويات كما نعلم،وثانيا أنها تفترض نقاء مستحيلا للهوية بغضّها الطرف (عمدا أو سهوا)،عن حركة التاريخ التى يتآز فيها الطبقى والثقافى والسياسى والنوعى
“من نوع”،فى هارمونية محكمة،قانونها التنوع كمعطى تاريخى لا يمكن الفرار منه،عليه ستكون مقولة أن ثورة 24 قام بها ابناء المسترقين السابقين تضليل صنعه البريطانيون والمتحالفون معهم من السودانيين أصحاب المصالح المرتبطة به من القوى الحديثة المتدثرة بالدين والعنصرية وكيف لا وهى قد قامت على خطاب تحررى كما اشار عدد مقدر من المؤرخين والباحثين..خطاب تحررى نهل من ارث التاريخ السودانى المقاوم المجمع عليه بشكل كبير كالثورة المهدية ومن المعرفة الانسانية المقاوِمة
فى ذلك الوقت..هذا الخطاب التحررى،هو الذى جمع بين أعضاء الجمعية على ما بينهم من اختلافات إثنية وثقافية و”تواريخ شخصية” وهو نفسه الذى أوجد مساحة لمشاركة المرأة فى ذلك الوقت الصعب (كالحاجة نفيسة سرور وخديجة عبدالفضيل الماظ و
العازة محمدعبدالله)-تاج السر بابو-“مقالة”،ليس بهدف تمثيل التنوع الجهوى والاثنى والنوعى وانما كان بهدف بناء الوعى بوجوب العمل على صناعة المواطنة المتساوية لذلك حوى قاموس الجمعية مصطلحات (وطن) و(شعب) و(أمة) و(سودانى).
ووزّعت المنشورات المساندة لها وخرجت المظاهرات لتأييدها فى عطبرة ومدنى وحلفا وبورتسودان والابيض وغيرها من المدن والتى كان من هتافاتها،”يسقط..يسقط الاستعمار” و”عاش كفاح الشعب السودانى” كما ناصرها العمال والمزارعون والمتعلمون فقد أشار بعض الباحثين أن حقوق المزراعين فى مشروع الجزيرة كانت من ضمن مطالبها،ولا بأس هنا من أن نعيد ما كتبه الاستاذ محمدسليمان فى جريدة الأضواء السودانية،يناير 1969 تحت عنوان:”صحائف مطوية من تاريخنا الحديث” فقد كتب (جاء في تقرير المخابرات في شهر يوليو عام 1924 ما يلي : وصلتنا معلومات تفيد بأن حزبا عماليا قد تكوّن برئاسة علي أحمد صالح يضم النجارين والبنائين وصناع الأحذية وغيرهم بهدف حماية مصالح العمال ، ويقال أن رئيس الحزب يسعي لضم حزبه مع حزب علـي عبد اللطيف)-تاج السر بابو”مقالة”
كل هذه الإشارات وغيرها تبدو حاسمة فى التعبير عن التنوع الذى اتسمت به الجمعية وعبرت عنه الثورة وتبدّى فى النص
وهذا بالضبط ما جعل الاستعمار وحلافاؤه يناصبونها العداء لأنها كما أرى قد مثّلت الجينات الأولى للمشروع الوطنى السودانى الذى يعبر عن جميع المواطنين دون تمييز تحت أى دعاوى.

________________________
ملحوظة:
كل المقالات التى تمت الاشارة لها منشورة فى الشبكة العنكبوتية.
السرالسيد

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *