‫الرئيسية‬ ثقافة صحراءُ النَّهرِ الأسود
ثقافة - 3 سبتمبر 2024, 14:38

صحراءُ النَّهرِ الأسود

بابكر الوسيلة
لا يُمكنُ التَّحكُّم الكامل في التَّجرِبةِ الشِّعريَّةِ وتسييرُها على وِفقِ ما يُريدُ أو يطمحُ الشَّاعر؛ فالقصائدُ، بطبعها، كائناتٌ تُولَدُ في الغامض شُعُوراً ومُخيِّلةً، كما أنَّ حياتَها تنفلتُ عن روح الشَّاعرِ لتعيشَ حياةً أخرى خاصَّةً بها، وواقعاً له أقدارهُ الخاصَّةُ ومصائرهُ المتعدِّدة. إنَّه لغزُ الشِّعرِ كما يُفسِّرُ “بورخيس” بأكثرَ من معنى.
حدَّثني أخي الأكبرُ محمَّد خلف (فيما يُشبه حكايةً مفتوحةَ النِّهاية) بأنَّه كان قد استلم _ بملء يدَيهِ وروحِه_ من الشَّاعر النُّور عثمان أبَّكر مخطوطةً شعريَّةً مكتوبةً بخطِّ يدِ الشَّاعرِ نفسِه. كان النُّور حينها أستاذاً للُّغةِ الإنجليزيَّةِ بمدرسة وادي سيِّدنا الثَّانويَّة، ولم يكُنْ له من فيض روحه الشِّعريِّ، إلَّا أن يُرسِلَ عبرَ أحدِ العاملين بالمدرسة، والَّذي كان صديقاً له، مخطوطةً شعريَّةً أُولى، بعد أن علِمَ بالاهتمام المُتعاظمِ والمحبَّةِ الكبيرةِ الَّتي يُكنُّها أخي لأشعارهِ النَّابتةِ بين النَّاسِ للتَّوِّ كأزهار منزليَّة.
تسرَّبت، من قبلُ، هذه المخطوطةُ الشِّعريَّةُ (الَّتي سمَّاها صاحبُها باسم “النَّهر الأسود”) إلى بعض المنتسبين لتنظيم “الجبهة الدِّيموقراطيَّة” بجامعة الخرطوم آنذاك، وقاموا بطباعتها على الرُّونيو وتوزيعِها على بعض طلَّابِ الجامعة، في أعدادٍ محدودةٍ بالطَّبع. كان ذلك في نهاية السِّتينيَّات على ما أظن، فقد قام الشَّاعرُ النُّور بطباعة ديوانهِ الأوَّلِ (صحو الكلمات المنسيَّة) في العام 1970، بعد أن انحسرَ كثيرٌ من أمواجِ نهرهِ الأسود ذاك.
الَّذي حدث لاحقاً، أنَّ أحدَ أصدقاءِ أخي محمَّد، كان قد استعار منه هذه المخطوطةَ اليدويَّةَ لفترةٍ محدَّدةٍ كما وعد، ولكنَّه لم يستطعِ الإيفاءَ بوعده، بل إنَّه اعتذر أخيراً لأخي وذكر له أنَّ هذه المخطوطة كان قد حملها معه في رحلةٍ بالقطار إلى القاهرة (كي يستمتعَ بكلماتها في وُجُوديَّةٍ عامرةٍ مع الذَّات)؛ وما حدث هو أنَّ أوراقَ المخطوطةِ تبعثرت ورقةً ورقةً في صحراء الشِّمال، نتيجةَ عاصفةٍ هبَّت عليهم وهو يعتلي سطحَ القطارِ ويقرأُ النَّهر.
تبدَّدَ النَّهرُ الأسودُ في صحراءِ العتمور وانطمرت بذلك أجملُ قصائدِ النُّور كما يعتقدُ أخي، وضاعت بذلك على النَّاس فرصةُ أن يكون النَّهرُ الأسودُ هو باكورةُ النُّور الشِّعريَّة، عِوَضاً عن “صحو الكلمات المنسيَّة”.
والآن تشهدُ هذه الصَّحراءُ نفسُها، الصَّحراء الَّتي ابتلعت رمالُها مخطوطةَ النُّور الأولى، سُيُولاً وأنهاراً سوداءَ على حياةِ النَّاسِ وممتلكاتهم. فكَّرتُ لحظةً: نعم، جاءت هذه السُّيول السَّوداء إلى صحراءَ تمتدُّ فيها الرِّمالُ مدَّ البصرِ والخيالِ لتُذكِّرَنا بأنَّ هناك نهراً أسودَ كان قد تداعت أوراقُه على الأبديَّةِ البيضاء، ولتقولَ لنا إنَّ كلَّ شيء يُعادُ بطريقةٍ مختلفة؛ خُصُوصاً إذا كان هذا الشَّيءُ شعراً عظيماً يقف على متردَّمٍ لا تُفارقه الحكمةُ ولا ساكسفونُ غناءِ العشب والزَّهرة.
غير أنَّ هناك سُيُولاً سوداءَ أخرى كانت قد جرفت (في أعظم مأساة تشهدها طينةُ التَّاريخ السُّوداني) ليست حُقُول الكتب والمكتباتِ العامَّةِ بكلِّ ما تحوي فحسب، بل إنَّها دخلت حتى زوايا الخزائنِ السِّرِّيَّةِ للبيوت وعبثت (كيفما تُريد جيادُ نزعتها نحو العدم) بمحتوياتها من أوراقٍ حبُلت بها بالدَّمِ والعَرَقِ الجوهري، ومخطوطاتٍ حملت أجنَّتَها وَهْناً على وَهْنٍ ، ولم يكن يدور في خَلَدها أبداً أنَّ فِصالَها سيطولُ تاريخُه، وربَّما اندثرت خيوطه، جنينيَّاً، للأبد.
لم أهجُرْ يوماً دارَ أبى
لأَهيمَ بكهفٍ في الصَّحراء
أتدثَّرُ ما نسجتْهُ أكفُّ الرِّيحِ
على مِنوالِ الصَّمت...
والسُّؤال: هل كان ديوانُ النُّور الأوَّلُ هو محاولةٌ دؤوبةٌ كي تصحوَ في ذاكرته الشِّعريَّة، كلماتُه المنسيَّةُ تلك بين ضفَّتيْ (صحو الكلمات المنسيَّة)، الكلمات الَّتي تبدَّدت في صحراءَ ما نزال نغرقُ في نهرها الأسود. وكأنَّا نَحرِثُ في الرِّمال!

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال