‫الرئيسية‬ دراسات المخطوفون في يومهم العالمي: جرائم ضد الإنسانية
دراسات - مقالات - 1 سبتمبر 2024, 5:17

المخطوفون في يومهم العالمي: جرائم ضد الإنسانية

مقاربة فكرية لمأساة العصر مع اتساع رقعة الحروب وصعود العنصرية وانتشار استراتيجيات الرعب

*مارلين كنعان

حددت منظمة الأمم  المتحدة الـ30 من أغسطس (آب) من كل عام يوماً عالمياً للمفقودين والمخفيين قسراً. ولعل المفقودين والمخفيين قسراً والمخطوفين باتوا يشكلون قضية كبرى في القرن الحالي، لا سيما مع اتساع رقعة الحروب في بقاع عدة من العالم، وصعود العنصرية بلا رادع قانوني أو أخلاقي.

ما هو الإخفاء القسري؟ وما هي الجهات التي ترعاه؟ وهل يملك الإنسان باسم أي عقيدة دينية أو سياسية الحق في التصرف بحياة الآخرين وتقرير مصيرهم؟ ولماذا يختطف الناس وينتزعون من كيانهم ويقتلون، علماً أن أكثر ما يُختلف عليه يتغير ويفنى؟.

إذا كانت الإجابة عن هذه الأسئلة التي تتداخل فيها الفلسفة والأخلاق والحقوق والعقائد الدينية والسياسية ليست أمراً سهلاً، فإن التاريخ القديم والحديث يزخران بقصص أناس فقِدوا من دون سبب، أو خطفوا قسراً بسبب معارضتهم لنظام أو أيديولوجيا سياسية بأمر من النظام نفسه. يكفي أن أشير في هذا السياق إلى مرسوم “الليل والضباب” الذي أصدره عام 1941 رئيس القيادة العليا في القوات المسلحة الألمانية فيلهيلم كيتل بناءً على أوامر هتلر والذي سمح باعتقال الناشطين المعارضين للسياسة النازية خلال الحرب العالمية الثانية ومن تم تحديده على أنه وضيع عرقياً أو بيولوجياً. لكن حالات الإخفاء قسراً لم تبدأ مع هذا المرسوم. فقد شهد العالم منذ أقدم الأزمنة أنواعاً مختلفة من هذه الجرائم المؤسفة التي شوهت صور المجتمعات الإنسانية وأنظمة حكمها، لا سيما تلك التي مورست أثناء الحروب والنزاعات أو في فترات القمع وأولها الاختطاف والاختفاء في ظروف غامضة والتحكم بحياة آلاف الأفراد، خلافاً لإرادتهم وللقيم الأخلاقية والعقائد الدينية والشرائع الدولية، وعلى رأسها شرعة حقوق الإنسان ومعاهدة مناهضة التعذيب وغيرها من المواثيق الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة.

قد تحدث جرائم الاختفاء القسري في أي زمان ومكان، فهي ليست ظاهرة منعزلة ولا ترتبط بمنطقة أو فترة زمنية محددة، أو بخلفية اجتماعية أو سياسية معينة. ويقصد بها، بحسب الاتفاقات الدولية، “الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي نوع آخر من أنواع الحرمان من الحرية التي يتعرض لها الإنسان من قبل وكلاء الدولة أو من قبل أشخاص أو مجموعات من الأشخاص الذين يعملون بإذن أو بدعم أو بموافقة الدولة، يتبعها إنكار الاعتراف بالحرمان من الحرية أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يجعله خارج نطاق حماية القانون”، ومن الممكن أن تقوم بعمليات الإخفاء في بعض الأحيان عناصر مسلحة غير تابعة للدولة…

الإخفاءات المجهولة

ينطبق هذا التعريف على حالات تاريخية عدة تمكّن المحققون أو الصحافيون الاستقصائيون من معرفة هوية المسؤولين عنها ومصير مخفييها. لكن ثمة نوعاً آخر من الاختفاءات القسرية مجهولة الفاعل، كتلك التي تحدث إبان الحروب والنزاعات الأهلية المسلحة، إذ يُفقد آلاف الأشخاص الأبرياء ولا يعرف مصيرهم ولا تتمكّن أي جهة من الوصول إلى معلومات تفيد عن قتلهم أو أسرهم كما هي حال المفقودين في الحرب الأهلية اللبنانية، وحال مطراني حلب المختطفين عام 2013 اللذين ما زال مصيرهما مجهولاً، من دون أن ننسى جرائم الاعتقال والاختطاف التي تعرض لها الشعب الفلسطيني منذ نكبة 1948 التي طاولت الطفل والشيخ والفتاة والأم والطبيب والعامل والمواطن الأعزل والطالب والمثقف والقائد السياسي إلى جانب اعتقال أمهات وزوجات محتجزين لإجبارهم على الاعتراف، وغيرها من الاختفاءات القسرية في أميركا اللاتينية وفي كل دول العالم.

ويصنف الاختفاء القسري وفقاً للقانون الدولي جريمة ضد الإنسانية واستراتيجية من استراتيجيات نشر الرعب والإرهاب التي تمارسها الدول والديكتاتوريات العسكرية أو المنظمات والميليشيات المسلحة والتي تُرتكب في أوضاع معقدة من الصراع الداخلي، بحق رجال ونساء عزل، بهدف قمع المعارضين السياسيين والمنتمين إلى جماعة اجتماعية معينة وأصحاب الرأي الحرّ وإخضاعهم، أو بحق المختلفين عرقياً أو دينياً.

ضد جوهر الإنسان

لكن هذه الجرائم التي تمسّ كل ما هو جوهري في الإنسان، عنيتُ حياته وحريته وكرامته وسلامته الجسدية والنفسية والتي تؤكد كلها مقولة هوبس إن الإنسان ذئب للإنسان، هي ببساطة أفعال غير إنسانية. وبوصفها كذلك، تتجاوز تبعاتها في معظم الأحيان الأفراد الذين تطاولهم لتنال من أفراد أسرهم ومجتمعاتهم الذين باتوا يجهلون مصيرهم، فأصبحوا مثلهم معلقين بين الأمل واليأس، في حال من الترقب والقلق والانتظار تمتد أحياناً لأعوام كي يحصلوا على أخبار ربما لا تصل أبداً، ولمعرفتهم أنهم متروكون بلا جثة تكون لهم خيال وجود، وأنهم مهددون ومعرضون في الوقت عينه للمصير نفسه، فضلاً عن معاناتهم بسبب الصعوبات المادية في حال اختفاء السند والمعيل والقيام بالبحث عن المفقود، مع ما يستلزم ذلك من نفقات مادية وغياب تشريعات قانونية تتيح الحصول على مساعدات مالية من دون تقديم شهادة وفاة.

ويدرك المفقودون والمخفيون قسراً بدورهم أن أسرهم لا تعرف ما حدث لهم وأن فرص إنقاذهم ضئيلة، بعدما “اختفوا” من المجتمع، وأصبحوا تحت رحمة خاطفيهم وحرموا من حقوقهم، وعلى رأسها الحق في الاعتراف بشخصهم أمام القانون وفي عيش حريتهم وأمنهم الشخصي وفي عدم تعرضهم للتعذيب والمهانة أو المعاملة القاسية واللاإنسانية وحصولهم على محاكمة عادلة وغيرها من الحقوق. ولعلهم في الحالات التي لا يكون الموت فيها هو النتيجة النهائية لجريمة إخفائهم، فإن الصدمات الجسدية والنفسية الناتجة من هذا النوع من التجريد من الإنسانية والكرامة، إلى جانب الوحشية وأعمال التعذيب، تترك آثاراً دائمة أشد إيلاماً من الموت نفسه.

الخطف يعني في ما يعنيه ألّا يعرف المرء أولاً مكان وجوده، فيضطرب ويتسلل الخوف إلى نفسه، ذلك أن في معرفة المكان شيئاً من تكوين الذات واستقرارها، وهذا بيّنٌ في التحديدات الفلسفية والنفسية التي حاولت الإحاطة بالإنسان والتي رأت في المكان معطىً أساسياً في تكوين شخصيته. فالإنسان أليف الأمكنة والأشياء التي تحيط به، لذلك كان إبعاده قسراً من أماكنه وأشيائه، إبعاداً من الحياة وموتاً قبل الموت.

والخطف يعني ثانياً سلب الإنسان حقه في التصرف بحياته وحجز حريته ضد إرادته، فالحرية ليست القدرة على فعل ما يحلو لنا، بقدر ما هي السيادة على الذات والاعتناء بالكيان، مما يعني أن في الاختفاء القسري بعضاً من إبادة ومن إغلاق على الأنا وجعلها عاجزة عن السيادة على ذاتها والاعتناء بكيانها وتنمية مواهبها وتحقيق طموحاتها، بسبب إقصائها عن المعية وإبعادها من التفاعل مع الآخرين.

في هذا السياق، يمكن القول إن الإخفاء القسري نكران لوجود الآخر، فيصبح المخطوف شيئاً، ملكاً لأهواء خاطفيه ومصالحهم، في تعطيل للإنسانية برمتها. وإن أنعمنا التفكير في طبيعة هذا الاختفاء غير الطوعي، أدركنا أنه يترافق في معظم الأحيان مع تهديدات قد تكون أكثر خطورة منه، تطاول حق المقربين والمجتمع المدني في معرفة الحقيقة حول ظروف الاختفاء ومصير الشخص المختفي، وحقه في العدالة والتعويض، فضلاً عن الحق في جمع وتسلّم ونشر المعلومات المتعلقة باختفائه.

من يتابع قصص المخفيين قسراً، يلاحظ أيضاً أن النساء الساعيات وراء البحث عن المفقودين، يتعرضن أكثر من الرجال للترهيب والاضطهاد والانتقام والتهديد بالاعتداءات الجنسية وغيرها من صور العنف المجاني، على رغم تضمّن “الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري” الصادرة عن الأمم المتحدة، الحق في الوصول إلى الحقيقة والعدالة والسماح بعملية البحث عن المفقودين والتحقيق في قضايا اختفائهم والمطالبة بتحريرهم. إن حياة أولئك النساء مجمّدة بطرق محددة للغاية، بعدما أصبحن بين ليلة وضحاها ربّات الأسرة نتيجة اختفاء أزواجهن أو آبائهن، فربما يقبَل عدد منهن مثلاً بشهادات وفاة مشكوك فيها تفيد بوفاة أحبائهن للحصول على الحق في إعالة الأسرة وتغطية حاجاتها المالية، ويُجرد كذلك أطفال الآباء المختفين قسراً من طفولتهم…

وإذ يدرك كثير من أصحاب القرار خطورة الاختفاء القسري الذي تعمل بعض المنظمات الإنسانية والدولية على منع حالاته وتكافح في سبيل عدم إفلات مرتكبيه والآمرين به من العقاب، فإن أعداد ضحاياه تزداد باستمرار في انتهاك صريح لحقوق الإنسان وكرامته وللحريات الأساسية، على رغم تأكيد دول عدة التزامها مكافحة هذه الممارسة المجردة من الإنسانية وإعرابها عن تضامنها الكامل مع المفقودين وأسرهم والمقربين منهم في كل مكان في العالم.

يعترف الأمين العام للأمم المتحدة بأن حالات الاختفاء القسري عبر العالم تسجّل بصورة شبه يومية، فيما لا يزال مصير آلاف المختفين مجهولاً، مضيفاً أن الاختفاء القسري “أصبح وسيلة للضغط السياسي على الخصوم في النزاعات المحلية بعدما كان مقتصراً على الديكتاتوريات العسكرية”.

لم تنجح حتى اليوم كل الاتفاقات والإعلانات العالمية بالكشف عن مصير آلاف المفقودين أو الحدّ من الاختفاء غير الطوعي، ولعل هذه الاتفاقات بحدّ ذاتها لا قوة ولا حول لها، ذلك أن الاكتفاء بالدعوة إلى التحلي بالإنسانية والاعتراف بحرية الفكر والمعتقد واحترام الإنسان وحقه بالتنقل والعيش بكرامة غير كافٍ للقضاء على ديكتاتوريات وآفات عقائدية تزيّن للجاهلين المنضوين تحت رايتها أن مصلحة الدين والدولة لا تكون إلا بالقضاء على بعض الأشخاص وأن العنف يلغي العنف.

حسبنا أن الأنظمة ليست في ديمومة وأن الكشف عن مصير المفقودين لا بدّ من أن ينجلي وأن معرفة ما حصل لهم ليس مجرد حاجة ملحّة، بقدر ما هو حق من حقوق الإنسان التي تهدر كل يوم في كل مكان في العالم.

*أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة

https://www.independentarabia.com/node/606774/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AE%D8%B7%D9%88%D9%81%D9%88%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%8A%D9%88%D9%85%D9%87%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A-%D8%AC%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%85-%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *