‫الرئيسية‬ مفكرة الحرب الحرب والمكان (3)
مفكرة الحرب - 30 أغسطس 2024, 18:54

الحرب والمكان (3)

صلاح الزين

الحرب، من شدة حيائها وخفرها، لا تُعرَّف. دوماً ينقصها المكان أو حتى الحيز فتُستعصَى على التعريف. بها شبقٌ وجوعٌ للمكان space hunger. إذ مَن لا مكان له عارٍ من عباءة الهوية. فالعباءة تحتاج إلى جسد وهيئة لتحتاز الاسم والتوصيف بما يسمح بالإشارة إليها وإلى منافذ بيعها.

بهذا النقصان، الحرب جُبِلت على الذهاب، الذهاب إلى مكانٍ وجغرافيا بها يكون ميلادها وقِمطُهُ، حَبْوُها واستواؤها على ساقين بهما تخطو وتتبختر، إنْ لزم الأمر، فتُعْرَف وتُعرَّف لتكون، كما الماء والهواء.

هي كما الغريب الذي به صفات النتوء، النتوء عند خاصرة المكان أو عنقه. والأخير، أعني النتوء، يمكن أن يكون ضيفاً بسماحةٍ أو نتوءٍ يُجفِل النعاس ويُخرِس هديل الحمام وسعة المكان. والأخير، المكان، عكس الحرب التي تأتي من حيثما كانت حين تضيق بنفسها ويُجِفّ نَسَغُها وينعدم إدامُها فترتِقُ نعالها وتخطو. تخطو، بوصلتُها الضرورة، ضرورة أن تكون لينكشف المخبوء وقبوُهُ المُزَنَّر بتساكناتٍ عصفت بها الرياح وأضاعت إلفتَها لتنقذها يدُ الضرورة لتتآلف لحين.

بالحرب تعرف الضرورة فتكونُ بمشرطِ قابلةٍ تحرس المستقبل والقادم من المحو والانسهاك: هذه ضرورةٌ لتلك كما نِصْفَيْ برتقالة بهما يكون اكتمالُها.

المكان به كل صفات الآلهة، دوماً هناك، هناك بصلواتٍ وترتيل. يحتفي بقاطنيه كما تزهو الآلهة بمخلوقاتها ومَن خَلَقَتْ وأوجَدَتْ حتى وإنْ كان سراباً أو حصاة. وكما للآلهة قدسيتها للمكان أيضاً قدسيتُهُ ورُسُله: أنْ تكون فيه مثلما يكون البستان في البذرة.

كما الأخير، يموت المكان وييبس إنْ جُفِّفَت بذورُهُ واقتُلِعت. بذورُهُ مخلوقاتُهُ وقاطنوه من بَشرٍ وحَجَر، رذيلةٍ وفضيلة، شِرك وإيمان وكل ما يشير لدِربةِ الخالق وحِنكتِهِ حتى يُنفَخُ في الصور وينفَضُّ سامرُ الحياة.

والحرب، من فرط يُتْمِها، ترتفِقُ بمَن وما هو غريب على المكان فتنزعه من مكانٍ له وتغويه بالخروج. كلاهما يأتيان ولا أحد يذهب إليهما، كما المكان الذي هو مصب المجيء ورسو رَكْبِهِ وليس من صفاته الذهاب. المكان لا أرجل له وساقان يعينانه للخطو خارج ما هو فيه كما جبل الأولمب. ليس كما الحرب ورفقتها، الذهابُ ليس من صفات المكان.

تأتي الحرب بدابتها إلى المكان من غير استئذان ومواضعة فتعتلِيهِ الشيخوخة. المكان، وللمفارقة، كما شجر الحراز تصيبه الشيخوخة آن يتكاثر نزفُ الغمام.

مثلما يتساقط صفقُ شجرةِ الحراز ويعتريها اليباس، كذلك يصاب المكان عندما يُبتلَى قاطنوه بالنزوح والمغادرة، إذ من صفات المكان، كما السموات، المكوثُ ببقاءِ من ألِفَهُم وألِفُوه. وهنا يكون موت المكان وانتلافه حد صيرورته أقرب إلى بقعةِ جغرافية منه إلى مكان تُعرِّفُهُ الثقافة والعادات لا الأنواء وتبدُّل الفصول. فيَنْبَهِم وتتناوشه عاديات العدم واللامعقول.

والمكان، بطبيعته المفطور عليها، لا يستضيف من هم خارج أمعاء ذاكرته وروائحها: إنْ تبدلت الرائحة والذكرى ينصابُ المكان بتوحشٍ يَعطِبُهُ ويؤذيه كما تصاب الآلهة بأرقٍ وسُهْدٍ جراء وخز مسامعها برنين خطايا العباد. فكلاهما، الآلهة والمكان، مفطوران على الإلفة وخصومةِ الإحلال.

هكذا كانت حرب الخامس عشر من أبريل 2023 سطواً على ذاكرة المكان بإحلاله ذاكرةٍ أخرى وتصييره مجرد خرقةِ جغرافية ليس لها من نَسَبٍ وتاريخ، سابقٍ ومقيم. فالإقامة في الجغرافيا ومحو المكان هي حربٌ أخرى بريحٍ بلونين.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 4.3 / 5. Total : 6

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *