قصة قصيرة - 2 أغسطس 2024, 7:10

(ضربة حظ)

قصة :إقبال صالح بانقا
قادتني جرآة طاغية مباغتة أوهمتني في حينها، ولكنها قهرت وهمي بخضوع ألجمني فإنصعت لها متحفذا. أوهمتني لأنها ليست من طبعي أو شيمتي، فقد دفعت بي إلي النهوض في صباح يرزخ تحت عبء شمس شديدة الحرارة لآسعة ورطوبة جعلت كل شئ لزجاً لا يطاق. باغتني أيضاً صحوي المبكر رغم الاختناق الذي أحاط بالصباح .تهندمت واسهبت مخرجاً من مكامن مهملة كل ما عندي من نفيس وغالٍ مما أستغرق مني وقتاً طويلاً في تهيئة هندامي حرصاً مني علي الإفراط في الإغتسال وتصفيف شعري وحلق لحيتي وارتداء أفخر وأرقى وأنظف ما أملك والتعطر بأنفس ما أقتني من عطر وأنا مباغت من ذاتي مأخوذ بسلوكي المفاجئ. وذلك بعد تواكل درجت عليه طويلاً تزامن مع إهمال لصحتي وشكلي وملبسي وإمعاناً في التكاسل والنوم واللامبالاة ، بعد إحباط وزهد وبعد أن أعيتني الحيل عدة سنوات من عمري في إيجاد ذاتي الهاربة مني وفقداني التواصل مع كل ما ومن حولي وإغلاق الأبواب أمام وجهي كأنها جميعها قد عقدت العزم وتكاتفت مع بعضها لصدي , عن ولوجها وفتح منافذها أمامي وكاد الشباب وسنواته الغضة أن تفلت من يدي فأمعنت بعدها في تقوقعي حاملاً خيبتي .
في ذلك الصباح عزمت أمراً دفعني إلى الاهتمام بنفسي والخروج في الطقس القاسي، أخذتني سيارة أجرة إلى مقصدي ووقفت أمام مبنى شاهق شديد الأناقة والفخامة ولو أن أحداً رأى هيئتي الماضية للفظني خارجا منذ أن وطئت عتبة بوابة المبني الفاخر ولكن هندامي وشكلي ووسامتي التي لا تخطئها العين مسحت تلك الهيئة وصبغت هيئة الأبهة على ذاتي المنعدمة وشكلتني بشكل يليق بالمكان الدالف إليه ، حياني حارس المبنى بأدب جم وأفسح لي وهو يبحلق في وجهي كذا موظف الاستقبال الذي ترك ما في يده في اهتمام مباغت ملحوظ وبادرني بالسؤال هل تريد مقابلته ؟ فأجبته نعم لا أدري من يقصد ولكن خمنت مقصده وعندما نطق اسمه تأكد ظني وبغت لجرأتي فانا لم أقابل مسئولاً على ذلك المستوى على الإطلاق كانت معاملاتي دائما مع من في الظل وأعيش تحت تبعات ظل ذلك الظل الذي كان لا يقيني شيئا .
أفسح لي الطريق متقدما مني وتاركا مكانه ليدلني مبحلقا في وجهي مبهورا بشكلي وهندامي والإبهار الذي اكتسبته هذا الصباح ، ينم وجهه ويرسم مئات من الأسئلة عاجزا عن الإفصاح عنها محجما ، تلك الاسئله التي ارتسمت على وجوه الجميع بعده .
دخلت فلاقيت المعاملة نفسها من مدير مكتب المسؤول عن المكان وقد كان مشغولا ولكن ذلك لم يمنعه أن يدعوني للجلوس بترحاب مبالغ فيه فاغرا فمه وهو يبحلق في بشئ من التعجب والإعجاب و ترك ما في يده و هو يتلوى عذرا لانتظاري لحين خروج ضيف كان مع رئيسه فهززت رأسي دون إفصاح عن أنه ليس هناك حرجا وجلست ، دقائق قليلة لم يطل انتظاري حتى خرج الزائر ودخل مدير المكتب وعاد بعد أقل من لحظة ووجهه مشعُ بالابتسام رغم أنه لم يسألني أي سؤال حتى عن اسمي ولم أعطه شيئاً رغم أنني كنت متيقنا من أن رأسه كان يعج بالسؤال.
دخلت بذاتي المفقودة حاملا فقط مظهري الخارجي الباهر ، متوجسا ومتمتما أن يعينني ذلك على مقصدي. دلفت وتأملت المكتب المنيف للحظه خاطفة وكدت أن أولّي الأدبار وفؤجئت بالمسؤول عينه كان يعطيني ظهره واقفا أمام مكتبة في الجدار ينتقي منها شيئاً ما ، كان مرتديا لباسه الشعبي راسما لوحة تعبيرية محببة وسط جو من الفخامة يحيط به وعند ما عاد أدراجه إلى مكتبه لآحظت به عرجا خفيفا في ساقه اليمنى وعندما جلس رحب بي بكلمة واحدة مبتورة وهو لا يزال يطالع بعينيه في ما انتقى من المكتبة وبعد برهه حدق في بعينين إحدهما مغلقه والأخرى نصف مغلقه يسألني حاجتي وما اريد فأفصحت وداخلي يرتعد من جرأتي واقتحامي لكل تلك الهيبة مقدما وواضعا على مكتبه أوراقي الهزيلة وشهاداتي المتواضعة التي عفا عليها الزمن والتي إهترأت من شدة قبضتي عليها طالبا ومسميا وظيفة حتى عجز لساني عن نطقها تحثني جراءتي المقتحمة وهاتف في داخلي يلح مهونا ، أن الأمر لو قوبل بالرفض فلن يغير من الآمر شيئا كما اعتدت ولن اخسر شيئا وسوف أنزع كل ما كسيت به نفسي الآن و أعود متقوقعا في ذاتي الخاويه لبطالتي وعجزي وكسلي ويخيم علي شبحي الباهت الذي اعتدته وإن أتى الرد بالإيجاب يكون القدر قد خط وفتح لي طاقه من عنده تكون منفذ لعالم حلمت به طويلا ولم يستجيب لي بل لفظني في عنف وغلظة فمججته زمننا وعافيته وعافيت نفسي وأهملتها بسببه .
لم يطل تجاذبي مع نفسي سوى ثوان معدودة حتى سمعت صوته يعلن لي ما أريد حتى دون أن يطلع على أوراقي وشهاداتي بل لمحها في عجالة ، ضاغطا على زر أمامه معلنا لمدير مكتبه اصطحابي إلى مكتبي الذي عينه لي وأعلمه بأني المدير الجديد المسؤول عن ذلك الصرح العملاق بعده لم يلحظ مباغتات وجهي وبحلقتي في وجهه وهو يعلن في جملة مبتورة خاطفة وبعينه تلك نصف المغلقة بأن الجميع سوف يكونون في خدمتي وإعلامي بما يجري ومهامي ، لحظه أخرى ودلف إلى المكتب مديره هاشا و قد اتسعت ابتسامته حتى أن معالم وجهه كلها قد اختفت من خلال تلك الابتسامة ولم الحظ من ملامح وجهه سوى أسنان غير منتظمة وفم مفتوح فقد غاصت عيناه وأنفه اللين وانزاحت خداه فلم يكن لكل ذلك أثرا .
وقفت مبهورا أصابني خرس شل لساني ولم أحس إلا بقدمين تقودانني خلف مدير المكتب ململما أوراقي من أمامه في عجالة وارتباك وهو يشير لي  بيده حتى دون أن ينطق وعيناه نصف المغمضتين ما تزالا تتابعان ما يطالع فيه ولم يبالي بي ولا بكلمة الشكر التي خرجت متلجلجة من فمي وما لبث مدير مكتبه أن أفسح لي الطريق وهو يقودني .
بعد برهة وجدت نفسي في مكان رحب محاطا بترحيب مفرط وكل من فيه يقف لي بادب وخشوع جم . ويبدو أن هناك من اعلمهم بأن مديرهم العام الجديد في طريقه اليهم والجميع يتسابقون على خدمتي واعلامي بالمطلوب مني وتقديم الاوراق والعون لي حتى خيل الي أنني لن اقوم باي دور سوى الاطلاع على تلك الاوراق المقدمه لي .عندما ترك الجميع المكان وتركوا الاوراق أمامي وخرج آخر واحدا منهم موصدا الباب خلفه تهاويت على الكرسي الفخم الوثير خلف المكتب الضخم في الغرفه الهائله العملاقه الشديدة الثراء والفخامه المغلقه على باب مكتوب على صدره المدير العام .
تاهويت ولم افعل شئ سوى النظر الى ساعتي التي اعلنت لي أنه لم يمض على استيقاظي ولفظي لعالمي ولما درجت عليه وحملته طويلا سوى ساعات لا تحسب من الزمن ونظرت إلى هندامي ممتنا إذ ساهم بتاجج جراءتي واقتحامي المكان وإن كان قد تبلل كثيرا في اللحظه الاخيره لأن العرق طفر غزيرا من أثر المباغتات التي الجمتني في اللحظات الفائته ، غصت عميقا في الكرسي الوثير داسا في درج بقرب يدي اليمنى أوراقي وشهاداتي التي ظلت قابعه فيه منذ ذلك الحين حتى الان . بعد مضي عشرة اعوام لأني اصبحت مسؤلا عنها وعن أوراق الجميع في ذلك الصرح وهانا ذا أملأ المكان حضورا وصخبا وتفردا يميزني وكان السبب فيما حدث اطلاعي في الليله التي سبقت اقتحامي الصرح على جزء من صحيفه طرحت أمامي عرضا فوجدت فيها صورة شبيها لي تحت عنوان ما، يمتلك ذلك الصرح حتى خلته نفسي فعزمت يومها حمل ذاتي الشبيه له ، آملا الحصول على مكان في صرحه ولم يكن في نيتي ذلك الموقع الذي اصبحت فيه والذي افصحت عنه نفسي امامه في جراءه غير معهوده فيها ولم يفطن حينها لدواخلي ومرامي ولكن شبهي له وهندامي جعل العاملين حوله يوصلونني إليه وإلى منصبي وقد كان .
*إقبال صالح بانقا من مجموعتي القصصية ( رحي بلا طحين ) الصادرة عام 2013م

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 1

كن أول من يقيم هذا المقال