ثَمَّةَ، في وِجْدان سارَّة، خُضرةٌ مُتمَوِّجة
عادل القصَّاص
يعودُ تعرُّفي إلى سارَّة سِرِّ الخَتِم إلى أربعِ أو خمسِ سنواتٍ أثناء انخراطِنا معاً في العملِ ضمن الفريق التَّأسيسيِّ لـ”حَمْلة الحقِّ في الحياة”، الَّتي نَبَتَت، أوَّل ما نَبَتَت، وتفتَّقَت، في-من الوُجدانِ الفسيح، المجبولِ على الخُصوبة والطَّلاقة، للصَّديقة نجلاء التَّوم.
كان للحُضُور النَّوعي، النَّاجمِ عن ذخيرةٍ معرفيَّةٍ-علميَّةٍ غنيَّة، كما عن خبرةٍ عمليَّةٍ ثَرِيَّة، لسارَّة، دورٌ بارزٌ في المِسْيار (البُرُوسِّسْ) السَّاعي نحو بلورةِ أبعادٍ بنيويَّة أو هيكليَّة لـ”الحملة”. “لابدَّ أنَّ يكون لحقلِ إدارةِ الأعمال، الَّذي انحدرت منه سارَّة، نصيبٌ وافرٌ أهَّلَها للعبِ هذا الدَّورِ البارز”. كان ذلك ما قلته لنفسي، إذْ كانت تلك الخلفيَّة هي كلُّ ما عرفته عنها حينذاك. كما أتذكَّر أنْ راودني تأمُّلٌ أنَّ إدارة الأعمال هو من الحُقُول الَّتي هي ضحيَّةُ التَّثاؤبِ النَّظريِّ من جهة، والإهمالِ و/أو التَّطبيقاتِ الكسيحة، النَّابعة من “أُمِّيَّةٍ إداريَّة”، من جهةٍ ثانية، بالإضافة لعِلَلٍ بنيويَّةٍ في حقولٍ أخرى، ذات صلةٍ عضويَّةٍ بهذا الحقل، من جهةٍ ثالثة، بحيث كان – وما يزال – من عوائدِ ذلك هذا الانحطاطُ المؤسَّسيُّ الشَّامل – من قِمَّةِ المنظومة الحاكِمة (بهيئاتها المتغايرة) حتى أُخمصِها – في بلدِنا الموسومِ بالنَّكباتِ المُتتالِية، المتناسِلة بغزارة، والمُتعاظِمة.
داخل الفريق – الَّذي كان عامراً بالطَّاقاتِ النَّوعيَّة، ذاتِ الوشيجةِ المتينة بمعارفَ، إبداعاتٍ وأنشطةٍ اجتماعيَّة، ثقافيَّة، سياسيَّةٍ ومِهْنيَّةٍ متمايزة – كان من اللَّافت لي أنَّ مساهماتِ سارَّةَ كانت تتميَّز – علاوةً على الرَّصانةِ والمنهجيَّة – بالرَّشاقة. ذلك أنَّني كنتُ أُلاحظُ بأنَّها لا تدفعُ بفكرةٍ أو تعليقٍ أو مقترَحٍ إلَّا بعد تريُّثٍ، مُتخيِّرةً السِّياقَ الملائم، بالصِّيغةِ الَّتي تُثير غبينة الصَّخَبِ واللَّغوِ، حتَّى لو اقتضى الأمرُ أن تنزويَ إلى حين.
على صعيدِ الفريق، كانت مساهماتُ سارَّةَ تُحظى بتقديرٍ عالٍ. على الصَّعيدِ الشَّخصي، بخلافِ عينِ الدَّرجةِ من التَّقدير، كانت مُساهماتُها تُضاعِفُ شُعُوري بالغبطةِ والجدوى، بلِ النَّشوةِ المُحَفِّزة – المتولَّداتِ – في مستواهنَّ الأوَّلِ – من الفكرة: مشروعِ الحملة، كمُبادَرةٍ تقطعُ مع الأنماطِ السَّائدة للعملِ الاجتماعيِّ القاعديِّ، ذي الأبعادِ الثَّقافيَّةِ والسِّياسيَّة. لذلك، وعلى إثرِ انسحابِ سارَّةَ – لأسبابٍ ضاغِطة – من عملِها معنا، أحسستُ بعَرَجٍ في وجداني. وبعد عدَّةِ خطواتٍ، كَمَّاً ونوعاً – لا علاقةَ لها بالقهقرى أو بـ”مَحَلَّكْ سِرْ” – لفريقِنا، عبَّرتُ لصديقتي نجلاء عن أنَّه ليس سهلاً أن يملأَ شخصٌ موضِعَ سارَّة. ذلك دفعني إلى أن أُهاتفَها. كان كلُّ أملي، هاتفئذٍ، أن تكونَ فداحةُ الظُّروفِ الَّتي أرغمتْها على الاعتذارِ عن المواصلة، قد انتفت، أو خفَّت وطأتُها على الأقل، ما قد يسمِحُ لها بالعودةِ للعمل، حتَّى لو بإيقاعٍ أقلَّ كثافةً من سابقِه. للأسف، لم يكن أيٌّ من التَّغييرَينِ المأمولَينِ قد حدث.
على أنَّ تلك المُهاتَفة، ومهاتفاتٍ ومراسلاتٍ لاحقةً – على تباعُدِها – حوَّرَت علاقتي بها من علاقةِ زمالةٍ آنِفة إلى صداقةٍ وارِفة. ذلك أنَّني اكتشفتُ – بالأحرى تيقَّنتُ من – أنَّ سارَّةَ تتمتَّعُ بحساسيَّةٍ اجتماعيَّةٍ-ثقافيَّةٍ يَفتقرُ إليها واقعُنا العام، بما في ذلك مشاريعُ التَّغييرِ الاجتماعيِّ-الدِّيموقراطيِّ، سواءً عبر منظَّماتِ المجتمعِ المدني أو التَّنظيماتِ السِّياسيَّة؛ كما اتَّضحَ – بل ثبُتَ – لي أنَّ النَّبْرةَ الهادئة والصِّيغةَ المُنضبطِة لم تكونا قاصرتَيْن على تعبيرِها عن أفكارِها أو مقتراحاتِها – بالكتابةِ داخل مجموعةِ الواتساب للفريقِ التَّأسيسيِّ للحملة – وإنَّما هما تَسِمانِ تعبيرَها الشَّفويَّ أيضاً. أكثر من ذلك – وهذا ممَّا فاقمَ من حفاوةِ وُجداني بها – إدراكي أنَّها مُتفاعِلة، من فِئةٍ رفيعة، مع صُنُوفٍ إبداعيَّةٍ مختلفة. ومع ذلك، فقد تباعدت فتراتُ التَّواصلِ بيننا، ليس بسببِ وَهَنٍ أصابَ وجداني، وإنَّما لتكالُبِ براثِنَ حادَّةٍ على روحي.
أمَّا وقد بلغ بنا سوءُ الحال السِّياسيُّ العام هذا المنعطف الحادَّ واللَّاهب، فقد تفقَّدتُها – من بين أصدقاءَ وصديقاتٍ أُخَر، لِأطمئنَّ عليها من تداعيَّات الحرب. فتهلَّلت أساريرُ القلب حين أخبرتني أنَّها ونفراً من أُسرتها قد توخَّوا “حمايةَ” القاهرة، رغم ارتيابِنا الموضوعيِّ في أصالةِ هذه الحماية. ومن هنا التَّحفُّظ بوضعِ مفردة حماية بين حاصرتين.
غير أنَّ الَّذي تسبَّب لإيقاعِ تواصلِنا في مزيدٍ من الحرارة، ممَّا ترتَّب عليه – ليس استعادة شعوري المُضاعَف بالغبطة، الجدوى والنَّشوة المُحَفِّزة فحسب، وإنَّما بلوغه أقصى درجاتِ المُضاعَفة – فيتمثَّلُ في مُعانقتي لنصَّينِ قصَصِيَّيْنِ لسارَّة. نَصَّانِ رائعانِ لم يُضاعِفا حفاوةَ وجداني بها فقط، وإنَّما أفعماهُ بالعناقِ، الرَّقصِ والتَّصفيق.
لعدَّة عوامل، غالباً أوَّلُها القُصُورُ الذَّاتي (الَّذي بعضُ مصادرِه موضوعيَّة) عن متابعةِ ما يُنشَر من إبداعٍ سوداني، لم يقَعْ بين يديَّ، في الآونةِ القريبة، نصٌّ قصصيٌّ سودانيٌّ حديث، داعِمٌ بالأجنحةِ الملوَّنة، مثلما دعمني بها هذان النَّصَّان لسارَّة. لن أُقدِّمَ عرضاً لهذينِ النَّصَّين، خشية أن أُفسِدَ عليكم متعةَ الاكتشاف ودهشةَ التَّحليق، لا سيِّما وأنَّه سبق لي – كقارئٍ يزعَمُ النَّجابةَ للقصَّةِ القصيرة – أن عرَّضتُ تلك المتعةَ والدَّهشة للانتهاك أكثر من مرَّة، وذلك بقراءةِ نقدٍ يتضمَّنُ عرضاً لبعضِ القصصِ القصيرة. على كُلٍّ، أتمنَّى أن تكونَ تلك المرَّاتِ المفسِدة هي اللَّدغاتُ الأخيرةُ من نفسِ الجُحر.
موخَّراً، ذات تأمُّلٍ أخضر، نَدَّ عن خاطري هذا السُّؤال: ما الَّذي خرجتُ به من ارتباطيَ، متعدِّدِ الملامحِ والنَّزعاتِ المشتركة، بسارَّة؟
على المستوى الأوَّل من الإجمال، هذانِ نصَّان قصصيَّان أخَّاذان؛ نموذجيَّان، من حيث توازُنِ عناصرِهما التَّكوينيَّة: ذكاءٌ في معالجة الفكرة أو المحتوى، أبعدُ ما يكون عن تشويهاتِ الإسقاط؛ سردٌ مُحْكَمٌ، بعباراتٍ منضطبة، تمدُّ لسانَها للثَّرثرةِ أو التَّرهُّلِ الإنشائي؛ انتقالاتٌ رشيقةٌ، بين الجُمَلِ و/أو المَشاهِد، تتفتَّحُ عن بعضِها صوَرٌ بديعة؛ وخاتمتانِ أبرز مَهامِّهِما دَسُّ وصيَّةِ الأجنحةِ في خيالِ القارئ.
لعلَّه فَشَليَ الأخضر في السَّيطرة على زَخَم منابع حفاوتي، أو ربَّما لِما لهذا البُعد، الَّذي أنوي إبرازه بعد قليل، من أهمِّيَّةٍ لديَّ تستدعي نسبةً من الاستطراد، أو عساه للسَّببين معاً، يبدو أنَّني لن ألتزم – في الفقرةِ التَّالية – بالاستمرارِ في الصِّيغةِ التَّعبيريَّةِ المضغوطة – عن تعمُّد – الَّتي وسَمَتِ الإشاراتِ الَّتي وردت في الفقرةِ السَّابقة.
هذه، إذاً، تلويحةٌ حفيَّةٌ، لها شهوةُ الرَّاية، لـ”الهوِيَّةِ الأنثويَّة”، غيرِ الباهِتة، غيرِ الضَّاوية، غيرِ الواجِفة، لأصواتِ الشَّخصيَّاتِ القصصيَّةِ للنِّصَّين (وهذا البُعدُ أسطعُ ما يكون في قِصَّة “ضد عقارب السَّاعة”)؛ مِمَّا قد يُرَجِّحُ تأويلُ تمتُّعِ الذَّاتِ الكاتبة بحساسيَّةٍ اجتماعيَّةٍ-ثقافيَّة قطيعتُها/طليعيُّتها ما تزالُ تُكابِدُ المصادرَ المُركَّبة للضُّمورِ في واقعِنا الاجتماعيِّ-الثَّقافي (والسِّياسيِّ طبعاً). بكلماتٍ أُخَر، على النَّقيضِ من بعضِ النُّصوصِ القصصيَّة، المكتوبة بأقلامٍ نسائيَّةٍ سودانيَّة، ذاتِ الخلفيَّةِ العربيَّةِ-الإسلاميَّة، فإنَّ الأصواتَ الأُنثويَّة، الهوِيَّةَ الأُنثويَّة، لـ”ضد عقارب السَّاعة” على نحوٍ أخصَّ، قد نجَت من رُهابِ الخارجِ/المجتمَع، من الرَّقابةِ الذَّاتيَّة، من الكوابحِ الدَّاخليَّة، النَّاتجة عن هيمنةِ “الآيديولوجيا الذَّكوريَّة”، بسطوتِها الثُّنائيَّة (في الوعيِ والَّلاوعي) لدينا؛ مِمَّا يحمِلُ بعضَ الكاتباتِ القصصيَّات على مُماهاةِ أصواتِ شخصيَّاتِ نصوصِهنَّ بـ”هويَّةٍ ذكوريَّة”، عبر طرائقَ و/أو اِلتواءاتٍ متباينة المواضِع، متفاوتة العُمق، بغرضِ مُداراةِ، أو تحجيمِ حضورِ، أو خفض حرارة بعض السِّماتِ الأنثويَّة (ذات الأبعادِ الفيزيائيَّةِ، العاطفيَّةِ و/أو النَّفسيَّة). ذلك أنَّه – في الوضعيَّاتِ المعافاةِ من الاهتزازِ و/أو المخاتَلة، خارج وداخل النَّصِّ القصصي (وأنساقٍ إبداعيَّةٍ أخرى) – فإنَّ السِّمات أو الخصائص الأنثويَّة التكوينيَّة، في تآثُرِها الكُفءِ، في تفاعُلِها الجَسَورِ مع عناصرَ حيويَّةٍ أخرى (في محيطيها)، إنَّما تُشكِّلُ قِوامَ الهوِيَّةِ الأنثويَّةِ غيرِ المضطرِبة.
على إثرِ عناقي لـ”الموتُ مرَّتان”، وهو نَصُّها القصصيُّ الأوَّل (من حيث ترتيب استقبالي للنَّصَّين، لا من حيث تاريخ إنتاجِه)، عرضتُّ على سارَّة، بقلبٍ أبيضَ ولسانٍ راقصٍ، أن أدفع بذلك النَّص – بعد إذنِها – للنَّشر. “الجهة الَّتي سترسله إليها سوف تنشره بغير شك، وربَّما دون التَّمَعُّنِ اللَّازمِ فيه، لأنَّكَ أنتَ من بعثَ به. أُريدُ لنصِّيَ أن يُنشَرَ لأنَّه جديرٌ – بذاتِه – بالنَّشر. أنا لستُ رقماً في الحياةِ الثقافيَّةِ أو الأدبيَّة. بالتَّالي، اسمي لا ثِقَلَ له. الميزةُ الوحيدة الَّتي يمكن أن تقنعَ المحرِّرَ المسؤول بنشرِ أو عدم نشرِ هذا النَّصِّ تكمن في جودتِه، أو رداءتِه”. كان هذا هو ردُّها على عرضي ذاك. لم يقنعني هذا الرَّدُّ فحسب، كما لم يُبرهِن لي على ثقةٍ، غيرِ فاقعةٍ، في الذَّاتِ فقط، وإنَّما زاد من سُمُّوِ مكانتِها عندي.
على المستوى الثَّاني من الإجمال (الَّذي له درجةُ الإجمالِ الأوَّل – إذْ التَّفريقُ أوجَبهُ داعٍ إجرائيٌّ)، فهو مستوى الوجدانِ الَّذي تخلَّق فيه، وبسببِه، هذان النَّصَّانِ الآسِران – وجدانُ سارَّة – والَّذي تجاورَتْ، تحاورَتْ فيه – من بين ما تجاورت وتحاورت فيه – فاكهةُ دروبٍ تعلُّميَّة – بِسَيْرٍ متوازٍ أحياناً – مُتوغِّلةٍ في التنوُّعِ والثَّراء، بما يضمُّ هندسة الكمبيوتر، الفلسفة، دراساتِ السَّلامِ والتَّنمية، إدارةَ الأعمال ولا ينتهي بالتَّعالُقِ مع قراءاتٍ وأجناسٍ إبداعيَّةٍ متعدِّدة. ثُمَّ، في نفسِ مستوى الوجدان، حيث ثَمَّة سارَّةُ الإنسانة، ذاتُ التَّجاربِ الحياتيَّةِ الكثَّة، سارَّةُ المتفاعلةُ مع التحدِّيَّاتِ المتكاثرة والمتضخِّمة، كما مع التَّوقِ المُرَكَّب، لواقعِنا المرضوض، فإنَّ خصائصَ مثل التَّروِّي، الدِّقَّة، الإجادة، التَّواضع، السَّخاء العاطفي، التَّدبُّر العقلاني، التَّماسُك الدَّاخلي، المهارات التَّنظيميَّة، المبادرات الرَّائدة، التَّمثيل النَّاصِع، الحضورِ النَّافِذ، التَّواري البصير، الأُذن الظَّليلة، العين الخارجيَّة/الدَّاخليَّة الثَّاقبة، التَّعبيرِ المُحكَم، الإيقاعِ الرَّشيقِ والتَّواشُجِ الصَّميم، الحميم، إنَّما هي – وسواها حتماً – من القواسمِ المشتركة، الرَّاسِخةِ في وجدانِ، نظَرِ، مخيِّلةِ وممارساتِ سارَّة. أي أنَّ هذه القواسم – وسواها حتماً – الدَّالةُ على تساوقٍ داخليٍّ مثاليَّةٌ خُضْرتُه المتموِّجة – هي الَّتي كافأتنا بتمظهُراتٍ بهيَّةٍ في بستانِ القِصَّةِ القصيرة، في حديقةِ الصَّداقة (حيث – على فِساحِ وجدانها – إلَّا أنَّه عصيٌّ على الارتباطاتِ الرَّخوة)، في مواقعِ الالتزاماتِ الوظيفيَّة، كما في ميادينِ العملِ العام، ببواعثِه وآفاقِه الفئويَّة، القاعديَّة، الاجتماعيَّة، السِّياسيَّةِ والتَّنظيميَّة، والَّذي أقصتها عنه ملابساتٌ ليس هذا بالحيِّزِ المناسبِ للتَّفصيلِ فيها.
بَيْدَ أنَّه دونكم هذا الفضاء، الَّذي تتلألأ فيه هاتانِ القِصَّتان.
———
اللَّوحة: سارَّة بعين إبراهيم كوجان.