
تداعيات يحيى فضل الله (الثالث)
يحيى فضل الله
حين كانت- سوسن – تقطع البصل منتظرة ان يغلى الزيت ، لاحظت و بحساسية عالية ان الكلب ينظر اليها بطريقة غير عادية ، إنصرفت عن الامر و قذفت بالبصل داخل الحلة..
حين دخلت الغرفة تمددت بإسترخاء على السرير و اخذت تقلب فى مجلة – سيدتي- ، كان الكلب الابيض يتجول داخل البرنده و يعلن عن وجوده دون خجل او تخفى مصدرا اصواتا تشبه الهمهمات الغليظة ، لاحظت – سوسن – ذلك ، خرجت من الغرفة ، حين اوشكت ان تخرج من البرنده احست بوجوده ، إلتفتت لتجد الكلب ممددا على السرير واضعا رجليه الاماميتين على المخدة و يحك رأسه على حديد السرير ، نظرت اليه ، صاحت فيه :- ( جر،جر ،جر )
إنسحب الكلب من البرنده بهدوء ، خافت – سوسن – حين لاحظت ان الكلب كان مبتسما و هى تزجره ، خافت، امام الراكوبه ، على مسافة قريبة من حيث كانت – سوسن – تجلس ، تمدد ذلك الكلب الابيض ، خافت من الفكرة ورجحت انها تتخيل..
تخلت – سوسن – عن فكرتها فى ان تستحم ، حدث ذلك حين احست بحركة تأتى من سقف الحمام ، اصوات اقدام ، نظرت الى اعلى ، من فتحة على سقف الحمام كان الكلب ينظر اليها ، خرجت مندفعة من الحمام ، قفز الكلب من على السقف الى الحائط ، تناولت ثوبها و خرجت ترتجف ، لاذت – سوسن – بالجيران ، لم تقل شيئا لاحد ، كانت تخاف من مجرد الفكرة و تهرب منها محيلة الامر الى وسواسها الخاص ، انتظرت عودة – نهى – بنت الجيران من مدرستها لترجع الى المنزل برفقتها ، حين كانت – نهى – تتحدث و بمتعة عن مباريات الكرة الطائرة فى المدرسة لاحظت – سوسن – ان الكلب يرقد هناك امام البلاعة كأى كلب عادى جدا ، يمد لسانه كما تفعل الكلاب فى بحثها عن البرودة..
فى عتمة مساء ذلك الصيف ، حين كانت – سوسن – تحمل صينية الشاى لتجلس مع زوجها – خالد – فى الحديقة المكونة من نجيلة و جهنمية حمراء و اخري برتقالية ، مرت – سوسن – وهى فى طريقها الى الحديقة حيث كان – خالد- مستلقيا على السرير ، مرت بذلك الكلب ، احست برعشة ، إرتجفت يدها حتى ان الاكواب احدثت صوتا ، كانت قد نسيت علبة السكر ، عادت ، تفادت ان تمر بذلك الكلب ، رجعت بعلبة السكر ، نسيت حذرها ، مرت بالكلب ، عادت تلك الرعشة حين سمعت صفيرا خافتا ، اسرعت فى مشيها ، فكرت فى ان تحدث – خالد- بالامر ، خافت من الفكرة ، دفنت ذلك الهاجس و قذفت به فى بئر اسرارها العميقة..
متظاهرة بالنوم كانت – سوسن – تقلب الامر فى ذهنها ،تقترب من التأكد ، تبتعد عن ان تصدق ذلك ، تعتصر عقلها و ترتجف منها العواطف ، يسيطر عليها الخوف ، خوف خفى ،تنظر الى – خالد – خلسة وتحاول ان تخمن رد فعله حين يعلم بالامر ، لن يصدق ، سيحيل الامر الى كارثة اخرى ، ليل دامس،لا يتفق معها النوم فيه ، يخاصمها الامان و يتعبها التكتم ، ساكنة على السرير ـ ضاجة فى الدواخل ، تعذبها النقائض و تؤذيها التضادات ، تشف الروح فيها و تثقل ، يرعبها هذا السكون الذى حولها ، تقترب من البكاء ، تكتمه فى الداخل ، بكاء مكتوم يكتفى فقط بإنحدار الدمع على الخد ، حين كانت – سوسن – تحاول ان تستغل نوبة البكاء لتغفو، حين إقتربت من النوم احست بذلك الوجود المغناطيسى ، وجود الكلب ، إرتعشت ، بحثت بنظراتها عنه ، كان هناك يقف على الحائط مميزا ببياضه وسط الظلمة ، إستطاعت – سوسن – ان تلاحظ إستعراضه لجسده ، خافت ، ايقظت – خالد – ، شكت له من صداع طارى ، حين تحرك – خالد – نحو الغرفة ليبحث عن علبة اقراص البندول نزل الكلب من على الحائط بخفاء لاحظته – سوسن – ، نزل الكلب من على الحائط الي خارج المنزل و نبح مؤكدا أداءه لمهامه الليلية..
قررت – سوسن- ان تحدث – خالد بالامر ، إنتظرت الوقت المناسب ، مع شاى الصباح قبل خروجه الى العمل ، احست بعدم المنطق فيما تنوى الحديث عنه ، ترددت ـ قررت ان تحوم حول الموضوع
( عليك الله يا خالد اطرد الكلب ده )
( مالو ؟ )
( مزعج )
( مزعج الكلب و لا مزعج الحرامى البجى يتلب فى البيوت داك ؟ )
( بعدين يا خالد نحن ما ربيناهو ، جانا براهو ، جانا كبير فى حالتو دى )
( ودي فيها شنو يعنى ؟، ما كلب برضو ، ربيناهو و حتى لو دخلناهو المدرسة برضو كلب )
( غايتو انا ما عاجبنى )
( يا سلام ؟ ، و يعجبك ليه ؟، عايزه تناسبيهو ؟. والله حكاية غريبة ، هسه خلاص مشاكلك كلها انتهت بقت بس على الكلب المسكين ده ؟ ، سوسن إنتى عايزه شنو ؟ ، مالك دايره تنحسينا من الصباح ؟ ، بتلفى و دورى مالك ؟ ، قوليها عدبل إنو حياتك معاى ما عاجباك بدل تعليقها فئ كلب ، الكلب و لا انا الماعاجبك ؟ ، بعدين انا ذنبى شنو ؟ ، ما منى انا ، ربنا عايز كده ، انا ما اخترت كده ، انا )
( انت هسه منفعل كده مالك ؟ ، انا اصلو قلت شنو ؟ )
( قلت شنو ؟ ، لا ما واضح ، الكلب ما عاجبك ، خلاص ياستى بعد شويه قولى لى يا انا يا الكلب ده ، ما انتو النسوان لازم تكونن رمزيات ، تجينى من بعيد ، إياك اعنى يا جاره ، تقولى الكلب و تقصدينى انا ، عشان ربنا ما ادانا ولد ؟ ، عشان التحليلات قالت انا الما بلدى ؟ ، كده يا سوسن تقارنينى بى كلب؟)
خرج – خالد – من البيت تاركا – سوسن تبكى بحرقة ، إرتعشت بعنف ، تخلت عن البكاء ، ارهفت سمعها ، سمعت ضحكة غليظة اشبه بالنباح ، نظرت فى الاتجاه الذى جاءت منه الضحكة ، كان الكلب يبتسم بخبث واضح..
امام الراكوبه حيث تطبخ – سوسن – عادة كان الكلب يحاول ان يلفت نظرها اليه ، قررت – سوسن – ان تنظر فى عينيه ، ارادت ان تتأكد اكثر ، نظرت اليه ، كان ينظر فى عينيها ، اغمض الكلب عينا وفتح اخرى علي طريقة صعاليك الستينات ، إبتعدت عنه نظرات – سوسن – ، همهم الكلب ، نظرت اليه – سوسن – وجفلت بعيونها ، همهم مرة اخرى ، نظرت اليه ، كان يحرك الحاجبين بطريقة غزلية واضحة و بغمض عينا و يرمش بالاخرى ، تخاف – سوسن – وتلوذ بالجيران ، تهرب من قضاء الظهيرة فى البيت ، تنجح في ان ترافقها فى عودتها الي البيت بعض من نساء الجيران و البنات ، تخاف ان تتحدث مع احد حول الامر ، يتعبها الكتمان ، الكلب لا يتوانى فى تكثيف معاكساته الغريبة ، يشغلها امر – خالد – الذى فسر مجرد محاولة ابعاد الكلب عن البيت كمحاولة لابعاده هو عن حياتها ، احست بإرتياح حين أخفت عنه حقيقة الامر ، لن يصدق مطلقا ما ستحكيه عن هذا الكلب الغريب ، تدخل – سوسن – منطقة الحيرة العظمى ، كم تحلم بالخروج منها. .
تعبت – سوسن – حين تمادى ذلك الكلب اكثر ، صار يتحرش بها بطريقة واضحة لا تخفى ، دخلت الغرفة ، اقفلت الباب بالمفتاح ، لم تمر دقائق حتي كان الكلب يقف على الشباك ، يهز كتفيه امامها ، يشير باحدى رجليه الامامية فى وجهها ، يحرك حاجبيه ، خرجت من الغرفة و جلست محتارة على سرير بالبرنده ، طاردها الكلب حتى هناك ، جلس امامها ، يهمهم ، يداعب فمه بلسانه ، حين حاولت ان تخرج من البرنده إعترض سيرها ، شب فيها ، صرخت و ركضت نحو الراكوبه ، اخذت ثوبها و تركت له المنزل..
قررت – سوسن – ان تحسم الامر ، ان تعلن ما يحدث لها ، كانت على استعداد للتخلص من هذا الكلب حتى لو فهم – خالد – انها تريد التخلص منه هو ، حدثت – خالد – ، ضربها حتى جاء الجيران ، كان – خالد – يصرخ بقسوة كل الدنيا محيلا الامر الى عقدته الخاصة ، إنتهت تلك المعركة بعد ان ذهبت – سوسن – الي منزل اهلها تحمل سببا غريبا لطلاقها من زوجها ، فى تلك الليلة التى غابت فيها – سوسن – عن البيت لم يستطع – خالد – ان يلاحظ ان هنالك حزنا قد إرتسم علي وحه ذلك الكلب ، نظر خالد الى الكلب حين فتح له الباب ليخرج و يتابع مهامه الليلية امام الباب ، تأمل ذلك الكلب ، كان مطيعا ، لاشئ مطلقا يبدو عليه مما حكت عنه – سوسن – ، اقفل – خالد- الباب ، زفر زفرة طويلة و إمتلأ صدره بالغضب. .
تدخل الاجاويد ، عادت – سوسن – الي – خالد -، لم يصدق احد قصتها ، بخرتها امها ، احضر والدها احد الشيوخ ، اوصى بعضهم – خالد – بالنظر الى موضوعها باعتباره من فعل العين ، لم تعد حياتهما كما كانت ، الكلب الابيض لم ينس ان بعبر عن فرحته بعودة – سوسن- ، عادت – سوسن- الى الحى ، حيث تنهشها الهواجس و الوساوس ، إنعزلت عن الجيران ، اصبحت تخاف من نظرتهم اليها ، حاولت ان تشهر صبرها على كل ما يحدث و الكلب يستمر فى إعلان تغزله الغريب. .
فى الجمعة التالية لعودة – سوسن- الى بيتها ، جهزت – سوسن – الغداء و جلست تاكل هى و – خالد – بينما يجلس الكلب على مقربة منهما ، نظرت – سوسن- الى الكلب ، غمز لها بعينه اليسري ، إلتفتت الى – خالد الذي كان بعيدا عن ملاحظة الامر ، نظرت مرة اخري الى الكلب الذى حرك لسانه حول فمه بشهوة عاشق قديم ، إرتعشت ، إرتجفت اوصالها ، نظرت الى – خالد – ، قالت له و هى تنظر الى الكلب
( هسه يا خالد الكلب ده كان بغمز لى و يعمل لى بى لسانو كده)
وقلدت حركة لسان الكلب ، نظر اليها – خالد – ، نظر الى الكلب و قرر ان يسخر فقط من الامر ، نظر – خالد مرة اخرى الى الكلب قائلا ( لا عليك الله أخطفا )
لم يكمل خالد جملته الساخرة تلك الا و كانت – سوسن – قد إختفت من امامه و معها الكلب ، في اقل من لمح البصر نفذ الكلب ما قاله – خالد – و خطف – سوسن و إختفى .
يقال بعد ذلك ، إن – خالد- بحث عن – سوسن – ، ركب البحار ، قطع فيافى و سهول و وديانا و اخيرا و بعد ان سأل كل العارفين و الفقهاء و علماء الارواح و عرف الكثير عن الجن المسلم و الجن الكافر ، ذهب الى جبل – مكوار – حيث تلك العجوز التى عرفت ما حدث له..
وقفت العجوز امام الجبل و صاحت بما لايفهمه – خالد – فجاءت افواج من الكلاب البيضاء و وقفت امام تلك العجوز التى تحدثت مع الكلاب ، تحدثت و تحدثت الى ان تقدم ذلك الكلب الذي اختطف – سوسن- ، سألت العجوز ذلك الكلب بعد ان أشارت الى – خالد –
( بتعرف الزول ده ؟)
رد الكلب قائلا ( ايوه)
قالت العجوز سائلة ( ليه خطفت مرتو ؟)
رد الكلب بعد ان هز كتفيه قائلا ( ما هو قال لى أخطفا ) .
———–
* إعادة كتابة لحكاية شعبية
و النص من تصوص كتاب التداعيات الثانى (و ملأت شادية شباكها بالإبتسانات) الصادر عن (مكتبة الاصدقاء) بامدرمان 2015