
الكتابة في زمن الحرب: الكائن الرقمي في متاهة الإرهاق الديجتالي
صلاح الزين
“إنّ أدوات مثل تويتر وفيسبوك منحت حق الكلام لفيالق من الحمقى ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد كأس من النبيذ دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع.. وكان يتم إسكاتهم فورًا .. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل .. إنه غزو البلهاء!”
أُمبَرتو إيكو.
في مقال منشور سابقاً بعنوان: (رقمنة الوعي وميلاد المثقف الرقمي: سؤال الحرب والمعرفة) قلنا إن: “المثقف الرقمي كائنٌ أنجبَتهُ ثورة تكنولوجيا المعلومات وتقاصرَ عن بلوغ الوعي بها كمنجَزٍ تمفصلي وتراكمي. يؤمن بسيرورة المعرفة كتجلٍ خطابيٍّ ونَصّيٍّ ولا يحفل بصيروراتها في حقل الممارسة والبراكسيس”
وأتبعناه بمقال آخر منشور بعنوان: (المثقف الرقمي واقتصاد اللغة)..
والإرهاق، ضمن تعريفات أُخر، هو الاستسلام لعجزين: أنْ تكون بذات الوضعية posture وأمام ذات المرآة والابتهال في الآن ذاته للمرآة أنْ تحيد عن صَدَفتِها الفيزيائية ليجود جوفها بصورةٍ لهيئةٍ ووضعية لا كالتي أورثتها إياه علوم الفيزياء. وهذا نظر وتأمل في رغبةٍ مرهقة أيُّما إرهاق.
بذرة الإرهاق لدى الكائن الرقمي مدفونة في تربة تلك المرآة الخصبة وتتوفر على ينابيع سُقيا تعتقد في إمكانية أنْ لا تكون المرآة بذلك السطح الصقيل المجلو بصدقِ علم الفيزياء والضوء إذ إن ذاك الكائن غير معنيٍّ بمن وما حوله. فقط معنيٌّ بما يودّهُ وما يراه في ماءِ تفكيرهِ الرغبوي المنزوع من أوتاد الواقع وما هو ماثل هناك.
فتصبح المغالطة هي الموشور الضوئي الذي ينير الطريق لدابة النقاش، منظورًا له كمبارزة منذورة لانتصار أحد الطرفين حتى وإنْ كان الطرف الآخر كائنًا مُتخيَلًا يتلامح من مسامات سديمهِ والعدم!!
عادةً ما تكون جملةٌ، بطولِ سطرٍ واحدٍ أو قليلًا يزيد، تحتوي على ذِكْر معلومة أو خبرٍ غير موثق، لا مقالًا أو كتابةً مطولة ومحقَّقَة.
هي صافرة البداية لركض دواب النقاش والتجادل.
ولأن الطرفين، حتى وإنْ كان أحدهما بقوامٍ شبحي، يوجدان في مرآة ذاتهما، تترى المغالطة وتسبح في ماء السراب الذي لا شاطئ يحده إلا بالخروج من تلك المرآة والعدول عن التحديق في جوفها الأملس. ومن ثم تتناسل المغالطة، إنْ كانت سابقة أو آنية، إذ الطرفان بقدمين مغروسين في وَحْلِ مِرآتهما وذاتِ مشيمة المرآة فيكون الضجر سيد الموقف وتنحرف المغالطة عن موضوعها إلى كيفية وجدارة إدارة الضجر!!
يقول وودي ألان، المخرج والممثل الأمريكي: “عليك أن تدرك إنك لستَ مطالَباً بالحديث عن كل شيء، وليس شرطًا عليك الركض وراء ما يركض إليه العالم.. لا تترك أشياءك التي تحب لتحب ما يُحبون” لا مكانَ إعرابٍ للكائن الرقمي في المقتبس عاليه.
فمما يزيد في إرهاق ذاك الكائن إنه يكتب في كل شيء. كائنٌ في حالة كمون يستيقظ ليكتب في كل شيء وعن كل شيء: علم الجينات، قصيدة (العودة إلى سنار) ، أطروحة التفاهة كما عند ألان دونو ، شعرية قصيدة النثر، الإخراج السينمائي وعلوم الحديث وصولاً إلى تشريح وموضَعَة خطاب حرب أبريل الموزع على رأسيْن بجسد واحد!!
يتقاصر الكائن الرقمي لاستحالة أنْ يقول ما يود قوله ليقول الآخر المخبوء في جوف المرايا والذي لا قول له إلا إن هذه الحرب بين فلول (بلابسة) من جهة مقابل جنجويد (جغَّامة) من الجهة الأخرى، إذ القول بغير ذلك يتطلب كسر تلك المرآة، وإنْ كُسِرتْ يَنفَق الكائن الرقمي وتذهب ريحُهُ وينعدم!!
ولقصورٍ بنيويٍّ فيه عن ارتياد مدارك الفكر والشك المعرفي، اختار الكائن الرقمي أن يكون كائنًا ضِديًّا: تكتمل مداركُهُ وصحوُ الوعي عنده بأن يكون كائنًا بالضد لكل شيء، باحثًا شرسًا ونبيلًا لضدٍ وُجودُهُ أو إيجاده، سيان، هو مُكَمِّلُهُ حتى يكون فردًا يُرَى ويسعى ويتبضع في سوح البقالات الرقمية المنثورة في سماوات الأسافير.
وبتلك الصفة فهو، مثلاً، ضد كل ما تواضعت عليه البشرية في رُقِيِّها المتواتر لتنظيم الحياة في أزمنة السلم والحرب: الأمم المتحدة، منظمات حقوق الإنسان، اليونيسيف، وكل المواثيق الدولية لحفظ وصون كرامة الإنسان وما تُصدِرُه من رصد للانتهاكات وقضايا الإبادة الجماعية وجرائم الحرب. كائنٌ ضديٌّ بامتياز، وبالضد يكون ويكون إرهاقُهُ.
سيولة الكتابة في الفضاء الرقمي تسمح بنمو وترعرُعِ الكائن الرقمي، انتشاره والسكنى في استراحاتٍ أسفيرية لا تلزمك بشيء غير السهر والتأمل في مرايا ذاتك. وللبروفايل المثبت فوق الاسم، إنْ كان صورةً أو اقتباسًا وضعيًا أو قدسيًا، ما للعابِ الوردةِ في إثارة النحلة!!
يعضد هذا الرضا عن الذات، الأوديوهات والفيديوهات (audiovisual) التي تصادَفَ أنْ بَذَلها وأعاد سماعها ومشاهدتها مراراً وتكراراً ذاك الكائن، علفاً لمراعي الأسافير وبراريها، فتتضخم الأنا (ego) وينتفخ الكائن الرقمي وصولاً لحالة من اليقين المعرفي والقدرة على الكتابة والتعليق على كل ما هو مشرور على حبل الشاشة الأسفيرية.
يضمحل التعب والإرهاق الشاشاتي ليحل محلَهُ مسؤولية “الكاتب العالِم بكل شيء”!!
كائن رسالي بَعَثتْهُ آلهةُ ثورة تقنية المعلومات الحديثة وصعْبٌ مراجعته ومحاورته في أبجديات وأُسس بنيانه المعرفي، ككل نبي يتعالى على المساءلة.
بخفته تلك فهو يتوسل في سعيه المعرفي فقط على وسيلة المسح (scanning) لكل ما هو مكتوب ومسموع ليسند كتفه المعرفي. فيتسربل في شراكِ ضيقِ سعةِ القاموس اللغوي وأنيميا المفردات ويستنقِع ويمكث هناك: يكفيه بضع مفردات، إنْ كانت قديمة أو مستحدثة، بلابسة، جغم، فلول إلخ، ليقارب ما شاء له من معارف وخطابات، كخطاب حرب أبريل مثلاً، وبذلك يعتريه يقينٌ إلهي به يطمَئِنُ إلى مرآته وتطمئن له وتُطمْئنَهُ باكتمال قوسه المعرفي والمفاهيمي.
جوف المرايا تلك شحيحٌ ويعجز عن استضافة وجه ثالث. مرايا بسطحٍ “مانَوَي” يصيبها بالقشعريرة لتقاصرها عن وظيفتها وما نُذِرَت له: إنْ كنتَ في زورق الجنجويد يصِحُّ وسْمُكَ بمحاباة الفلول، وإنْ اعتليت مركِب الفلول فأنت جنجويدي بكدمول وفائض شهية للنهب والاغتصاب، شهية لا ترتوي وإنْ أوردتها كوثر الجنان.
هكذا يمخرُ مركب الفلول وزورق الجنجويد فوق ماءٍ بلونٍ وطعمٍ ورائحة.
لا سبيل ثالثًا غير أن تكسر تلك المرآة وتفلقها إلى نصفين يكون في أحدهما وجه الديسمبريين وميثاقُهم، وهذا باستحالة انطراب شجر الحراز بنثاثِ غيمٍ ورذاذٍ كريم، لاستحالة أن يرى ذاك الكائن الرقمي وجهه في مرآة موزعة بين نصفين (شقفتين)! وهذا عين الفناء والانمساخ الذي يخافه ذلك الكائن الرقمي ومراياه.
بذلك يضيع حتى (النقاش) عن الحرب وخطابها، بمَركِبِها وزورقها، وينمسخ إلى اختبار مهارات ودِربة حول كيفية إدارة ضجرٍ وإرهاقٍ تسببه حربٌ لا أحد من المتحاورين يتحدث عنها!!
ويظل كائنُنا الرقمي هناك، هناك أمام مرآته يدلك مفاصلها ويرعى وساوسه حتى لا تخطئ المرآة، مرآته، وينشغل عنها بحربٍ هناك تعدت مرحلة الحبو إلى تمام استواء ساقيها.
التعليقات مغلقة.
أهل يتسع جوف المرايا لهذا الكائن الرقمي؟؟