مَرايا القاهرة: أو المحطة الأخيرة لسفور الخطاب
صلاح الزين
(اطمئِنوا، الجحيم يتسع للجميع، فالأمر لا يستحق كل هذه المنافسة الشرسة على مَن سيكون الأسوأ فيكم)
ديستويفسكي
مرة أخرى وليست أخيرة لا يعدم خطاب الحرب، الخطاب ذو الرأسين وبجسد واحد، أنْ يُخرِج من قبوِهِ عدةً جديدة، وإنْ كانت مكرورة وبائسة، لفك اختناقه بتهافتٍ فيه لازماً له.
هنا يلجأ الخطاب في ورطته تلك لاستلاف الجغرافيا والعواصم والمدن، حتى يكتمل تناغمه، ولتحل محل عورته ويكون تغيير العواصم والأمكنة والشخوص ولون ربطات العنق الزورق الذي يظنه آمناً ليعبر به فوق ماء التاريخ وفصاحته: والتاريخ يمكر وهو خير الماكرين.
برأسَيْهِ ذينك وجسده المنهك بتناقضاته البنيوية يُسرِج الخطاب دابته برَسَنٍ سِريٍّ فيه يَرضَع من ذات الثدي ويتموضع في عواصم ومدن متغايرة علها تغطي سوءاته كحرباء في ظنها أنَّ تغيير المكان والحيز ينفي عنها ما فطرته الطبيعة عليها: حرباء وإنْ افترشت حقلاً أو نامت سحابةَ يومها فوق حجر وصحراء!!
لا الدابة تُنهَك ولا تخور مفاصل الخطاب المنذور لحتفه، إذ لكل خطاب مخزون استراتيجي به تكون انتقالاته وسيرورته.
هكذا جمع الخطاب أطرافه وحوامله، البعيد منها والقريب، البائن والخفي، السري والمستسر، وحطَّ في قاهرة المعز ليومَيْ السادس والسابع من يوليو الجاري.
ما يميز هذا الخطاب أنه مطلي بذاكرة زَلِقة فيها الأمس واليوم والغد وحداتٌ متجاورة في سيولة زمنية لا ترِد ذات المنبع وتستظل بذات الشمس والأنواء. شعاره: فليبق الأمس في أمسه حتى لا يُضايق الآني رأفةً بقيلولة الغد ووَسَنِهِ. فسقطت من تلك الذاكرة الحدباء ما جرى ويجري حديثاً في عموم ولاية الجزيرة (قرية ود النَورة) وفاشر السلطان.
فالخطاب غير معنيٍّ بموجودات المكان قدر عنايته باستدبار المكان لمكانٍ آخر ليقول ما لا تقوله الحرب ومكانها فيلتقط أنفاسه ويُصلِح رتقه استعداداً للانتقال لمكان آخر ليقول ويشي بذات القول. إنها انتقالات الخطاب في بنية القول والإفصاح من غير الخروج عن بنيته ومساءلتها. عرق الخطاب دساس!!
يتفق رأسا الخطاب في ضرورة قَبرِ انتفاضة الديسمبريين وأحد شعاراتها الأساسية: العسكر للثكنات والجنجويد ينحل، ليعلو صوت حربهم في اتفاقهما السري على الحرب كحتم ضرورة بها يكون تأبيد سيطرة خطابهم، في عجزه وعوارِهِ التاريخي، لتكون ديمومة مصالح الخطاب ورافعاته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية.
هكذا نادت أطراف الخطاب بعضها بعضاً والتأموا في “قاهرة” مَن يُعز ومن يُذل. وما كان لهم إلا أنْ يصموا آذانهم، لبرهة، عن ضوضاء رصاص حربهم وويلاتها حتى لا يوقظوا الخطاب، خطابهم، عن حلمه المنثور فوق رؤوس ملايين من النازحين في أوديسة تَخْلُد في التاريخ كما في تيه اليوم التالي لخلق البشرية عقبَ ترجُّلِ آدم عن شجرة الفردوس وصعود غريزة البدائي والجلافة.
أتت الأطراف بقوس قزح بلون واحد: منهم من كان متلفعاً بعباءة اتفاق يناير من العام الجاري، اتفاق (تقدُّم) مع حميدتي في هضاب أديس أبابا وتوأمه الآخر بأصابع اللجنة الأمنية.
بلونِ قوس قزحهم الواحد أتوا وإنْ تغايرت الألوان، أحياناً، فتلك استراحة الخطاب في حربه لتوحيد اللون وشرفة الرؤية وطعم النبيذ وإنْ تبدلت القناني وجوقة الندماء والوتر. فانتهوا لما انتهوا إليه سابقاً مرات ومرات من الحرية والتغيير (قحت) مروراً بالإطاري وانتهاءً ب(تقدُّم) ليمكثوا هناك، هناك في برية الخطاب وهضابه المتحركة وصولاً لاستحداث اسمٍ جديد لا تعدمه كنانتهم. فرَسَى قارب جمْعَهُم على شاطئ ما سبقه من خيبات أسميتها، في عدة كتابات سابقة، تعاطي السياسة كممارسةٍ معنيةٍ بشؤون البشر والكبرياء والجمال، كمقاربات نَصيَّة فيها النَص اللاحق يمحو ويُجرِّف النص السابق، كما شهدنا في الرحلة النصية المرهقة في محو واستبدال نصوص الحرية والتغيير منذ يومها الأول. وهذا أدخَلٌ في باب النقد والأدب منه في السياسة، الأول لا يَقتُل بينما الأخير يفعل.
بذلك كان فشل أطراف الخطاب في كلا الحالتين: الصعود في مراقي دَرَج الخيال وفي ذات الآن السقوط عمودياً في مزبلة السياسة، فخسرت أطراف الخطاب احتمالَ كاتبٍ وسياسيٍّ يَمامِي.
اتصف لقاؤهم بقدرٍ من الحياء لا محيد عنه كحياء وخفر صبية مِن تلمُّظ رشفِ قُبلتها الأولى، حتى كان ختام لقائهم خلو بيانهم الختامي من ذِكر أسماء طرفي الحرب بأسمائهم المدونة في لوح الحرب وجبين النازحين والضحايا. فذِكْر الأسماء والنطق بالتسمية عارٌ يخشاه من تجَمَّعوا وحُشِروا في قاعة لا تصد رائحة الفضيحة وإنْ تبدَّلَ عطر مَن بربطةِ عنقٍ أو بجلابية ومركوب. وما ولن يغفر لهم ما أظهروا من خصومات طفيفة لبعضهم البعض وامتناع بعضٍ منهم عن تذييل البيان الختامي بإمضاءاتهم وأسمائهم حتى لا يكشفوا استراتيجيات الخطاب وهيئته المحتملة فيما هو قادم: يقول نزار قباني: اسخف ما نحمله الأسماء.
وتقول حكمة الأهالي: (أبو القدح بِعْرِف من وين يعض أخوهو).
هكذا لم يحتاج الخطاب، ذو الرأسين والجسد الواحد المنهك، زمناً طويلاً لاستعلان سفوره والسِرِّي في بنيتِهِ في بلاغةٍ وإفصاحٍ غير مسبوق لينكشف قوله المستور بدخان خطابه ذات ريحٍ ومكانٍ مختلف.
أهدتهم القاهرة مرآةً استلتها من سديم تماثلهم ليروا ما عَفُّوا عن رؤيته وهُم أدرى به.