(منمنمات) يحيى فضل الله: عميرى يلملم الضحكات ويحجز فى البياض نيه
يحيى فضل الله
( عد اصابعك
كم صباع
يشبه صباع
وياتو صاحب تاوقن
ايامو عمرك
وفجأة ضاع )
هكذا دائما يقذف بنا عبد العزيز العميرى بتساؤلاته الشعرية داخل دوامة من العذاب الوجودى ومن ثم لا نملك الا ان نحيل هذه التساؤلات الى حالة الشاعر نفسه لا نملك ازاء هذه الشفافية المتسائلة الا ان نتأمل هذا الضياع الذى هو محور التساؤل ليصبح العميرى هو ذلك الصاحب الذى تاوقن ايامو عمر أصدقاءه الكثيرين وفجأة ضاع , ترى هل قصد العميرى بموته ان يجيب على هذا التساؤل العميق؟؟
يحدثنى صديقى محمد عبد الرحيم قرنى ان العميرى كان دائماً ما يلوح بموته مهدداً أصدقاءه قائلا لهم وبسمة خفيفة على شفتيه وتبرق منه العيون وكأنه يرى ما لا يرون
: ” عارفين أنا حا أموت قبلكم !! “
( يا قمر انا ما بطولك
ادينى من نورك وميض
شان أنور وأبقى طولك
يا قمر ليلك غنايا
وليلك اكتر من حكايا
فرحة بتطوف المدينة
وغنوة لى همس الصبايا
يا قمر أبقى باسم
حتى فى زعلك معايا
شان البلد
كل البلد
تفرح تقول
القمره جاية )
شواطئ ابوروف وحدها التى تستطيع ان تعلن عن حزنها الدائم وهى تحس بفقد ذلك المغنى , رمال تلك الشواطئ تفتقد العميرى
( ده كلو من السواحل ديك
ومن ظلم المعدية
وانا البعت الفرح لـ الليل
وغشونى المراكبية )
دائما ما يهرب العميرى الى الشواطئ والنيل ، سألته ذات مرة حين لاحظت انه دائماً ما ياتى الى التلفزيون من جهة النيل , اى قبل ان يدخل اليه لا بد ان يقابل النيل .. سالته
(انت طوالى جاى من البحر ؟)
اجابنى ببساطة
.. ( لو ما عملت كدة ما بقدر اقابل ناس التلفزيون , انا أتحملهم لانى استعين عليهم بموية النيل ) انها دفاعات العميرى ضد القبح ، يصادق الموج كى يعادى به الخراب فى التلفزيون يا له من سلاح نبيل الذى يحارب به العميرى كل قبح
( كانو بتمنوكى لو ترتاحى
لحظة على الدرب
حبوكى حب قدر الحروف
الهايمة فى بطن الكتب
قدر الخيال
ما مد ايدو على السحب
كل خاطر كان بريدك
الا ريدك كان رسول الدهشة
فى كل الديار
وانا زى عوايد الشعر فارس
شد خيل الكلمة ليك
مصلوب على ضهر البداية
القالو اخرا بين ايديك
وسرحت
يا مهون
تهون
كان اجيك
كان اصل
يوم لى حضورك
كت بريدك ومشتهيك
وانكسر فينى الترجى
ونلت من سفرى الخسار )
بداية خريف 1985 نصبت الخيام فى منطقة تصادف ان يكون اسمها كدة
” قبر كلب ” تقع شمال امدرمان وغرب الكلية الحربية و هى المنطقة التى تم فيها تصوير مسلسل ” وادى ام سدر ” قصة وسيناريو وحوار الاستاذ محمد خوجلى مصطفى واخراج الاستاذ ” الشفيع ابراهيم الضو ” كنا العميرى ، احمد البكرى – فايزة عمسيب – انور محمد عثمان – عوض صديق- الريح عبد القادر- تماضر شيخ الدين- مريم محمد الطيب- منى الطاهر- بلقيس عوض -ومعنا فى هذا المعسكر الذى يحاط بعدد من جنود القوات المسلحة كحماية و عدد من جماعة من عرب تلك الأودية ، خبيرون بالصحراء نستعين بهم فى بناء خيام من البروش و الجلود ونستغل إبلهم وجمالهم فى التمثيل ولا زلت اذكر كيف ان الجمل الذى يرافق العميرى فى أداءه شخصية “احمد ” فى المسلسل قد تآلف معه بسرعة أدهشتنا فى حين ان الأستاذة ” فايزة عمسيب ” كانت تصرخ وهى على ظهر احد هذه الجمال وتعلن ان الذى سيحدث سيكون آخر أدوارها التى تمثلها , اليفاً كان العميرى مع رفيقه الجمل وحين حاولنا ان نعرف سر ذلك جاءتنا الإجابة من عند احد هؤلاء الأعراب الذى ذكر أن العميرى كان يركب الجمل ويظل يغنى وهو على ظهره بمقاطع من الدوبيت بصوته العذب ، اذكر نيراناً تلتهم الحطب والجمل يبرك قريباً منها و العميرى يضيف أعواداً أخرى الى النار وينطلق صوته بالدوبيت وهنا فاجأنا ذلك الجمل حين بدأ يميل رقبته وينظر الى العميرى وهو يغنى حينها عرفنا ان الجمال يصيبها الطرب ايضا .
قلت أن الوقت انذاك كان خريفاً.. رمال ممتدة الى الافق وتلاقى جبالاً من جهة اخرى , تصب الأمطار فى أماكن بعيدة وتأتينا نحن الكتاحة وعاصفة الغبار التى لا نعرف كيف نتجاهلها وحين نرى السماء بلون داكن اسود كنا ندرك حينها ان عاصفة ستأتى حينها يكون العميرى واقفا يردد ويشير الى السماء
” الاخ جاء “
هكذا أطلق العميرى على الغبار اسم الاخ ولا زلت اذكر مطراً غزيراً هطل عينا وكنا انا العميرى واحمد البكرى نستمتع بمقاومة هذه الطبيعة الثائرة ونحاول ان نعيد للخيام إتزانها وثباتها بإعادة خيوطها التى تبعثرت وفارقت اخرامها وصارت تصفق مضيفة الى صوت الرعد والبرق صوتاً اخر يبعث على عدم الاطمئنان وبين لحظة وأخرى يضىء البرق المكان وكنت خلالها ارى وجه العميرى فى لحظة خاطفة مبللاً بمياه الأمطار وحين هدأت العاصفة والمطر خرجنا من تلك الخيمة منتشين سعيدين بمحاولتنا قتال الطبيعة .
( نحنا تانى
ما عندنا شغل
بالليل )
اهزوجة يحرضنا العميرى عليها حين ننتهى سريعاً من المشاهد الليلية فتتحول كل تلك “النقعة ” الى بؤرة من الغناء التلقائى الذى خرج لتوه من وجدان هذا الفنان العذب والذى يملك قدرة سحرية فى ان يستعذب كل الموجودات حوله .
قاسم .. طفل لا يتعدى الخامسة من ضمن الأطفال الموجودين مع اسر الأعراب الذين معنا ، من دون الاطفال إهتم العميرى به وكان يرى الفضول فى نظراته حين تضأ الكشافات كى نصور المشاهد الليلية ، ضبطه العميرى مرة يتحسس عربة التلفزيون بحذر , لاحظ خوفه التلقائى منها ومن كشافات الانارة وهى اشياء تبدو غريبة عليه وربما يراها لاول مرة وتجاهنا ايضاً ككائنات تتسم بالغرابة لديه ، اقترب العميرى أكثر من قاسم ، تآلف معه , أصبح مشروعاً من مشاريعه ، يحلم بان يدخل قاسم المدرسة ، حاول مع أسرته هذا الأمر لكنهم كانوا فى هموم اخرى ، صار يتخيل شباب هذا الطفل وعلق قائلا ( يعنى قاسم ده بعد عشرة او عشرين سنة ممكن يبيع المويه فى سوق امدرمان )
يقول ذلك متحسرًا على الطفولة الشقية , حاول العميرى ان يكسر حواجز قاسم مع السيارات التى كانت تخيفه الى ابعد حد , مجرد روية ذلك الكائن المسمى عربة وهو يتحرك كانت تصيبه بالرعب . عربة الأستاذ محمد خوجلى مصطفى بوكس كاشف ، كانت تقف ذات عصر بقرب موقع التصوير إتفق العميرى مع محمد خوجلى وذهب وحمل ” قاسم” وصعد به الى ظهر العربة والطفل يرتجف من الخوف وتحركت العربة وحين راى قاسم خيام أهله تبتعد وتبتعد بدأ فى الصراخ ورجعت العربة وقاسم يخفف من صراخه الحاد وحين انزله العميرى من العربة وبمجرد ان لامست قدماه الأرض انطلق ، ركض بكل قوته الى حيث خيمة والديه , لم يترك العميرى الأمر حتى هذا الحد , بل دعانى للدخول الى الخيمة لنرى ردة فعل قاسم لما جرى وحين دلفنا الى داخل الخيمة لم نستطيع ان نرى من قاسم الا تلك العيون المرعوبة بينما يختفى بقية جسده خلف ظهر والدته وحتى تلك العيون لم نتمكن من رؤيتها الا بعد ان ناداه العميرى باسمه فرفع رأسه لتعلن تلك العيون عن ذلك الرعب الغريب وحين خرجنا من الخيمة قال العميرى بأسى عميق : ( مرات الزول بحس بانانيتو لمن يكون طفل زى قاسم ده ما قادرين نوفر ليهو كيف يتعامل مع التكنولوجيا ، تكنولوجيا شنو فى ابسط من عربة بوكس ونحنا فى القرن العشرين )
ترى ماذا يقول العميرى عن احلام الطفولة فى السودان . هاهو العميرى يعلن عن وصيته ً، يوصى للحياة
( خلى بالك
من زهورك
من وطن
باقيهو عندى
درسى لسة الجرح غائر
عندما ضيعت ريدى )
لك التحايا ايها الصديق الذى علمنا معنى ان نراهن على التلقائية ومعنى ان ننتمى للجمال والخير و الحب.