فتى النيل الأزرق (7)
جورجيوس أيوب بالامون
ترجمة: إيهاب خيري
الامتحانات والتماسيح
بعد عامين في مدرسة الراهبات وعندما أصبحت في التاسعة من عمري تقريباً، أي في العام 1927، نُقلت إلى مدرسة عطبرة القبطية الأولية للبنين، وبعد ثلاث سنوات من الدراسة فيها، كان عليّ الجلوس لامتحانات المدرسة الأولية في الخرطوم. في حال النجاح، كان والدي مصمماً على إرسالي إلى مصر للدراسة الثانوية حيث لم تكن هناك مدارس مماثلة في السودان، وكان يرغب أن أدرس الطب في جامعة فؤاد الأول بالقاهرة. أما أمي، فكانت ترغب في إلحاقي بكلية غردون التذكارية في الخرطوم. لا أعرف لماذا كان يطلقون عليها اسم كلية في حين أنها مدرسة وسطى مع تمتعها بمستوى أكاديمي مرتفع.
قبل ثلاثة أيام من الامتحانات، سافرت مع الطلاب الثلاثين في فصلنا وثلاثة معلمين على متن الدرجة الرابعة من القطار إلى الخرطوم. كان علينا الإقامة في فندق رويال، الذي يقع في تقاطع شارعي السردار وفكتوريا، حتى لو كان لدى الطالب أقارب في المدينة، ليقوم أساتذتنا بمراجعة الدروس معنا في مساء اليوم السابق لكل امتحان، مع إمكانية زيارة الأقارب بعد نهاية الامتحانات.
جلسنا للامتحانات في ست أو سبع مواد تشمل اللغة العربية في التعبير والإملاء والشعر والنحو، والقرآن الكريم، واللغة الإنجليزية في التعبير والترجمة، والحساب، والمعرفة العامة، والرسم، وامتحانين شفاهيين، وكان على الممتحن أن ينجح في كل المواد.
الخرطوم مدينة حدائق. خطط اللورد كتشنر المدينة على شكل العلم البريطاني. كانت الشوارع مستقيمة كالمسطرة ويبلغ عرضها نحو خمسين متراً، فيما تنتشر الأشجار الظليلة على جانبي الشارع. شارع فكتوريا كان أجمل الشوارع، ويبدأ من التمثال البرونزي للجنرال غرودن، وهو يمتطي صهوة جمل وينظر نحو الجنوب، ويعبر حديقة على امتداد أربعة أفدنة بها أنواع من الأشجار والأزهار والورود والأعشاب النادرة. يمتد الشارع جنوباً حتى محطة السكة حديد وعلى جانبيه، مثل بقية الشوارع، أشجار ظليلة وأعشاب وأزهار ملونة. من النادر أن ترى الرمل هناك، وربما كان الرمل نفسه يبدو جميلاً ومختلفاً. كانت كل الشوارع تقريباً تُرش مرتين في اليوم؛ قبل شروق الشمس وبعد مغربها.
هناك ثلاثة مباني فقط جنوب مدرسة كمبوني؛ معامل أبحاث السير لي ستاك ومدرسة كتشنر الطبية ومستشفى الخرطوم العام. بُنيت المعامل والمدرسة الطبية من الأموال التي تبرع بها رجل البر العراقي أحمد بيه هاشم البغدادي، بينما شُيد المستشفى بأموال مصرية. كان كل شيء نظيفاً وجميلاً مثل المستعمرة البريطانية في عطبرة.
عُرفت الخرطوم، وما تزال، بالعاصمة المثلثة وهو الاسم الذي اكتسبته عندما كانت الخرطوم ترتبط بالخرطوم بحري (الحلفايا) بجسر واحد على النيل الأزرق وبأم درمان بجسر آخر على النيل الأبيض.
اصطحبنا الأساتذة لرؤية التقاء النيليين في المقرن، حيث يلتقي الأزرق بالأبيض ويكونا نهر النيل العظيم. قام نجيب أفندي، أستاذ المعرفة العامة، بمل كأس من النيل الأزرق وآخر من النيل الأبيض، وسألنا إن كنا نلاحظ أي فرق بينهما. لم يكن هناك أي فرق، ودهشنا ولم نستطع استيعاب اختلاف لون الماء في كل نهر بينما يتشابه في اللون والمذاق عندما يوضع في كأس شفاف.
لزيارة مقرن النيليين وما تبقى من قبة المهدي وبيت الخليفة، استقلينا الترام الذي كان وسيلة المواصلات الوحيدة آنذاك. فرحنا بركوب الترام الكهربائي وعرباته ذات المقاعد النظيفة والسقف الخشبي والجوانب المفتوحة. من النادر أن يكون الترام ممتلئاً بالركاب، وكان على كل طالب دفع (مليم واحد) للرحلة.
منذ عام 1885، كانت قبة المهدي من أكثر الأماكن الدينية شهرةً لدى السودانيين. ربما كانت زيارته تسهم في تخفيف معاناتهم وبؤس حياتهم، وربما كانت رغبة التأمل في شيء لا يدركه المرء جيداً لكنه يشعره بنوع من الحماية… تلك الرغبة والغموض والشعور بالتقديس الذي يشعر به معظم البشر. ربما كانت هذا الشعور هو السبب الأقوى للإيمان بالمصير الأفضل والجنة في الحياة الأخرى.
بعد ذلك، ذهبنا مشياً عبر الشارع العام لزيارة السوق. كانت أم درمان مدينة نظيفة لكن بها أشجار أقل مقارنةً بالخرطوم وعطبرة. كنا في شهر مايو، حيث تصل درجة الحرارة تحت الشمس إلى أقصى ما يمكن توقعه (أعلى من 50 درجة مئوية).
قال نجيب أفندي: “يشجع الحكام الإنجليز على زراعة الأشجار. يجب أن تغطي الأشجار الأرض مثلما كانت في القرون الماضية. يُطبق القانون بصرامة ومباشرة على من يقوم بقطع شجرة أو حتى فرع شجرة، وعقوبة مخالفة هذا القانون مثل عقوبة السرقة، حيث يُجلد مرتكبها ويُغرم أو يُسجن، وعادة ما يصبح عاملاً بلا أجر يقوم بزراعة المزيد من الأشجار خلال فترة عقوبة السجن. بفضل المخبرين كان الحكام قادرين على إلقاء القبض على من يقطعون الأشجار حتى في الليل. مصلحة الغابات هي الوحيدة التي يمكنها طرح الحطب للبيع في السوق. هل تعلمون أهمية الغابات؟”سأل نجيب أفندي وتناقشنا في قضايا اجتماعية واقتصادية. استمعنا له باهتمام وأصبحنا اتباعه في حب الأشجار.
بعد شهر من عودتنا إلى عطبرة، جاءت النتائج من القاهرة حيث أُرسلت أوراقنا للتصحيح . حققت أعلى الدرجات في كل المواد ما عدا النحو، الذي رسبت فيه بفارق درجتين فقط. شعرت بالغضب الشديد، لكني درست بجد للجلوس لامتحان الملحق في النحو بعد 8 أسابيع. سافرت مع 12 من زملائي الذين سيجلسون لامتحانات الملاحق في مواد متنوعة إلى الخرطوم. لم نكن في وضع نفسي جيد هذه المرة.
بعد أربعة أو خمسة أسابيع بعد الفرصة الثانية، أعلنت النتائج وعرفت برسوبي في مادة النحو العربي مرة أخرى. لم أعد قادراً على كبح غضبي.
قال أيوب:” فجأة تغير هذا الولد. لم يعد يضحك، يبحث عن مشكلة لأي سبب، حتى مع “ويسكي” الذي يحبه”. وقال لي: أعرف أنك متضايق من النتائج غير العادلة مع أنك الأفضل في الصف… سوف تمتحن كل المواد مرة أخرى، وهذا ما يجعلك غاضباً… معليش! ستنجح المرة القادمة”… هذا ما قاله أبي وأساتذتي. أما وردة فقالت: كله مكتوب ومقدر!
كان على أصدقائي المقربين في المدرسة، عزيز ومجيد ووهيب، أن يعيدوا السنة الدراسية لكن ليس بسبب مادة سخيفة مثل النحو العربي. للتخفيف من شعورنا بالإحباط، قررنا مواصلة تعليم أنفسنا السباحة في النيل، شمال المقرن، حيث يلتقي (الأتبراوي)، آخر فروع نهر النيل القادم من الحبشة، بالنيل. عادة ما يكون التيار قوياً في أغسطس مع زيادة الفيضان، ويصبح خطراً. رغم ذلك، ذهبنا إلى السباحة في المناطق الضحلة ثم توجهنا شمالاً.
تقع كل أحياء عطبرة في الضفة الشرقية، ولم يكن هناك أي سكان في الجانب الغربي. اقترحت أن نسبح نحو الضفة الغربية وبدأنا، لكن سمعنا أصواتاً من بعض الناس على متن (فلوكة) بالقرب من الضفة الشرقية: “يا هوي… هوووي! تمساح! يا أولاد… تمساح.. تمساح… هووووي!
نظرنا حولنا وبالتأكيد كان هناك تمساح! رأيت فكيه الكبيرتين وظهره الشوكي، وعينيه. شعرنا بالرعب وبدأ التيار القوي يسحبني إلى الشمال. أصبحت حياتي على شفا الهاوية. حاولت الطفو، لكن في بعض الأحيان كان التيار يتغلب عليّ، وأدخل في عمق الماء، ومجدداً دفعني التيار إلى الأعلى وكنت بالكاد قادراً على التنفس. عندما دفعني التيار إلى الأسفل، دخل الماء من أنفي إلى رئتي. لم أكن أملك أي بديل سوى ابتلاع الماء. كنت أصارع من أجل التنفس ولا أدري أين أنا. بصعوبة كنت أرى الشمس والسماء، كانت الرؤية غائمة، لكني واصلت في المقاومة من أجل المحافظة على حياتي.
ساعدتني قوة استثنائية بداخلي على الطفو والسباحة مع التيار، مع الوقت، فقدت القدرة على السباحة وكان تيار الأمواج يدفعني مثل ريشة. فجأةً، أصبحت بالقرب من شجرة على الضفة. استجمعت كل قوايّ، ورفعت يداي وجسمي كله لالتصق بالشجرة. أمسكت بأحد فروعها بيد واحدة ثم باليد الثانية أيضاً. ظللت معلقاً في فرع الشجرة لعدة دقائق كي استجمع أنفاسي.. سعلت بقوة واستفرغت كمية كبيرة من الماء التي يبدو أنها ملأت بطني. ربما بقيت في تلك الوضعية الخطرة لـ15 دقيقة. التيار القوي كان يهدد بسحب الشجرة نفسها معه. سحبت نفسي بالاعتماد على الشجرة ووصلت إلى الأرض سالماً لكني كنت في قمة الإرهاق ولا أدري إن كنت على قيد الحياة أم أحلم. استلقيت على الرمل لنحو ساعة ثم بدأت العودة إلى المنزل… عارياً!
نظرت خلفي فلم أرى سوى المياه والأشجار. عطبرة كانت بعيدة، نحو أربعة أو خمسة أميال جنوباً، حيث دفعني التيار شمالاً لمسافة بعيدة. لم يكن هناك تمساح. أين أصدقائي؟ هل ابتلعهم التمساح. وأين أنا؟
بعد مبعدة ثلاثة أميال من بيتنا، قابلت عم إبراهيم، الذي صُدم عندما رآني في تلك الحالة… “لا اله إلا الله محمد رسول الله… وقسماً بالله، كنت أعرف ذلك. أنت الشيطان ذاته”!
حدقت فيه وأنا خجل من نفسي وخائف.
“اتكلم يا شقي.. ما الذي حدث؟ خذ. استر نفسك. واركب خلفي على الحمار. سآخذك إلى بيتكم”
: “كنت اسبح مع أصحابي في المقرن، وجاء تمساح. كان سيأكلنا. أمسكت في شجرة لتنقذني من التيار القوي. كنت في “حلة كنور” ولا “جناين كركور”. وملابسي غرقت في البحر. سيقتلني أبي يا عم إبراهيم. أنا خائف منه، هل ستحميني؟
:” والله أنت إبليس. سأقتلك قبل أن يقتلك أيوب. تستحق ضرب الموت. هل تفكر أن أيوب أنفق كل ماله في تربيتك لكي تقضي على حياتك قبل دفع دينك! لقد أنقذك الله من التمساح والغرق، لكنه لن ينقذك من الضرب المبرح، وساتأكد أن أيوب يقوم بذلك بشكل جيد. لديه سوط ممتاز”.
بعد دقائق، سألني: “أين أصحابك؟ ربما ماتوا؟ أكلهم التمساح أو غرقوا. الله وحده يعلم، لكننا سنعرف بعد قليل. لا بد أن هناك تمساحين أو ثلاثة. كان قائد البوليس الإنجليزي يبحث عنها، لكن تلك المخلوقات أذكى من الرجل الأحمر”.
وصلت أخبار مغامرتنا إلى أهلنا والشرطة، فمن العادي أن تنتقل الأخبار خلال نصف ساعة من بداية المدينة إلى آخرها. من الواضح أن هناك من رآني وأنا أسير عارياً، مع أني لم أدرك أن هناك من يشاهدني عندما كنت بالقرب من ضفة النهر. لذلك، وصلت أنباء نجاتي المعجزة إلى كل الأطراف التي كانت تبحث عني وأصدقائي الثلاثة.
عندما وصلنا إلى بيتنا، كان مليئاً بالنساء بينما ذهب الرجال والأولاد إلى المقرن. لم تصدق أمي أني على قيد الحياة. لأول مرة في حياتي، صفعتني وبقوة على خدي الاثنين. كانت تبكي بصوت مرتفع أما بقية النسوة فبدأن يزغردن فرحاً . كانت تلك أول مرة أرى أمي تبكي بهذه الصورة، وكنت في قمة الخجل والغضب.
بعد ساعتين من وصولى إلى البيت، حضر رجل شرطة مع أبي لأذهب إلى مركز الشرطة، لكن قبل ذلك قام أبي بسحبي إلى غرفة وبدأ يجلدني حتى قام إبراهيم بفتح باب الغرفة وإيقاف أيوب. “عشر جلدات قوية… قمت بعدها. هذا يكفي”.
قال العسكري الكنوري: “ماذا؟ عشر جلدات فقط؟ بعد كل ما حصل؟ معجزة أن الأولاد الأربعة بخير. اغسل نفسك لكي نذهب إلى مركز الشرطة. الرجل الأحمر قتل التمساح، الذي ترقد جثته في مركز الشرطة الآن”.
ظهري كان ينزف بسبب الجلد المبرح. وضعوا كميات معتبرة من الملح، العلاج التقليدي لهذه الحالات، على الجروح لكنها كانت مؤلمة.
:” كلكم غاضبون لأن التمساح لم يأكلني أو يبتلعني البحر… يللا. سأذهب من هنا ليبتلعني البحر! ولن أحضر إلى هذا البيت أبداً”! قلت وأنا أبكي، ثم جريت نحو النهر. ركض خلفي عدد من الرجال والأولاد وأمسكوا بي وحملوني إلى البيت بينما كانت أحاول الإفلات من قبضتهم.
قال إبراهيم: “لم تفهم، لكن على أي حال، دعني أغسل الملح من ظهرك وأمسحه بزيت السمسم”. بعد ذلك، أعطوني كوب شاي وقطعة خبز. “كٌل. لم تتناول أي شيء طوال اليوم.. مشاكل! المشاكل هي ما نجنيه من عيالنا. أنظر كيف يراقبك جوني وولكر ويسكي؟ هو نفسه لم يتناول أي طعام طوال اليوم، ولا والديك أو أي واحد من هؤلاء الناس. لن تعرف كم نحب أطفالنا. لن تعرف ذلك حتى يكون لديك أطفال”… وظل يردد الجملة الأخيرة.
بعد الإجراءات في مركز الشرطة، قمنا بمراقبة جثة التمساح. كان أكثر الحيوانات إثارة للرعب. يبلغ طوله نحو ثلاثة أمتار ولديه فكين ضخمتين يمكنهما قطعنا لجزأين بقضمة واحدة. ظهره كان شوكياً . وعندما نظرنا إلى عينيه ومنخاريه، تخيلنا أنه يبتسم لنا!
في الليلة نفسها، شعرت وردة بآلام الولادة. قالت الداية (القابلة): ستلد وردة بسبب الصدمة من حكاية الولد والتمساح. الله سيكتب لك ولادة يسيرة يا ابنتي!
قبل منتصف الليل، انضمت شقيقة جديدة إلى العائلة.
قالت الداية الكبيرة في السن: “البنت بكت لبضع دقائق ثم توقفت عن البكاء. أعطيها صدرك لترضع. الحمد لله، فهي ترضع الحليب. معجزة أخرى من الله”.
كل النساء كن يثقن في هذه الداية لأنها جيدة وماهرة وذهبت للتدريب لمدة 6 أشهر في مستشفى الجمعية الكنسية التبشيرية في أم درمان سنة 1921 عندما افتتحت أول مستشفى للنساء والولادة في تاريخ السودان.
أطلقوا اسم خالدة على شقيقتي الصغرى على اسم جدتها.
قدموا اللحم والعظام المسلوقة مع البصل والثوم بالإضافة إلى الأرز والقمح لوردة. قامت أمهات أصدقائي بتجهيز أطباق متنوعة. كان آباء وأشقاء وشقيقات أصدقائي هناك أيضاً، وانتظروا حتى تناول العشاء. وفقاً لعاداتنا، لم يتركوا شيئاً لليوم التالي. جووني ويسكي نال من الطعام مثلي. العديد من المتسولين، الذين يعرفون بمثل هذه الأحداث، حضروا أيضاً… “كُثر مثل الحشرات”، كان وصف أمي المفضل للمتسولين، أما إبراهيم فيقول: لديهم آذان تسمع صوت الدلوكة من أي مكان!
في اليوم التالي، ذبحوا خروفاً، ومجدداً أكلنا “المرّارة”؛ قطع من الكبد والرئة النيئة مع البصل والفلفل الحار والليمون. كان برميل الماء الكبير مليئاً بالمريسة، وجلب إبراهيم كميات كبيرة من الزبادي هدية بمناسبة المولودة الجديدة، وتولت زوجته رعاية وردة. مجدداً، أشعلوا البخور لطرد العين، كما صنع إبراهيم أحجبة وضعوها حول رقابنا. وقاموا بوضع الحناء على قدمي أمي والرضيعة.
جلس الرجال على بروش تحت ظلال الأشجار خارج المنزل، وقدمنا لهم الشاي والجبنة (القهوة) بشكل مستمر. كل رجل لديه علبة (تمباك) صغيرة، وما أن يضع “سفة” في فمه حتى يبدأ في البصق بالقرب من المكان الذي يجلس فيه. كان المنظر مقرفاً. أقوم بملء الإبريق الحديدي بالماء وصبه بين يدي الرجل المقعي قبل أن يقوم بإدخال الماء في فمه والمضمضة لغسل التمباك ذو الرائحة الكريهة والبصق على بعد بضع أقدام من مكان جلوسه. يصاحب ذلك أصوات قميئة للتأكد من نظافة الحلق من أي شوائب من التمباك. بعد ذلك، يخلدون لنوم المقيلة تحت ظلال الأشجار خارج البيت.
في الوقت نفسه، نحضر نحن الأولاد الماء من حنفية الشارع، ورش الأرض بالماء دون إحداث أي غبار من أجل تثبيت الرمل وتبريد الجو.
عند الخامسة عصراً، يستيقظ الرجال ونقوم برش الماء مجدداً وتقديم القهوة والشاي لهم. إذا مر أي رجل في الشارع، يقوم بتحية آبائنا الذين يلحون عليه لينضم إليهم: “عليك الله… اتفضل معانا”.
وعندما يقول لهم: “لا تحلفوا”.. ويجلس في البرش، أجلب الإبريق ليغسل يديه وقدميه وأنفه، ويدفع الماء من بين فتحة في أسنانه العلوية ليصل إلى مسافة ياردتين من مكان جلوسه. يقوم الرجل بإخراج علبة التمباك ويضع “سفة” كبيرة في فمه ثم يبدأ فاصلاً من البصق. عادةً، يقوم الرجال بتحويل السفة من جهة إلى الأخرى في الفم باستخدام ألسنتهم، ويقومون بالبصق مراراً.. بصقات حالكة اللون.
أهم موضوع في نقاشات هذه المناسبة كانت مدرستنا ونتائج الامتحانات. راجع آبائنا أوراق الامتحانات وحاولوا الإجابة على الأسئلة. إبراهيم كان يريد معرفة المزيد عن الخرطوم وأم درمان، حيث لم تسبق له زيارتهما، لكنه قال إنه سيزورهما عندما اتزوج أنا ليكون ضيفي.
انتقل الحديث بعدها إلى الراديو …” هو صندوق به أسلاك كهربائية، وسلك طويل يوضع في سقف البيت. هناك أجهزة داخله. بعد ذلك يتكلم.. بالإنجليزي طبعاً”.
“حكمة الله…” قال إبراهيم.
“أليس عجيباً ما يفعله الإنجليز؟ تخيل.. صندوق يتكلم! قالوا لو كان هناك شخص يتحدث في لندن، يمكن للحاكم العام أن يسمعه هنا، في الوقت نفسه. والله… دا شغل شياطين!
“…. وهناك موسيقى وغناء كمان”. قال أيوب وهو يعبث بأصابع قدميه!
قال جارنا علي: “أريد شراء غرامفون. الشيء الذي تحركه وتضع عليه اسطوانات فتدور سريعاً وعندما تضع عليه إبرة خاصة تدور وتسمع الموسيقى والكلام… صوت صاحبه”.
“الراديو والغرامفون غالي جداً. قد يعادل ثمن الواحد راتب سنتين. هناك محل في الخرطوم يبيع هذه الأجهزة. طيب… لو قمنا بتغيير الرجل الذي يتحدث في لندن بشخص يتكلم اللغة العربية، هل يمكن أن ينقل الراديو الحديث باللغة العربية”؟ تساءل أيوب.
رد إبراهيم: ربما كان الراديو يعرف الإنجليزية فقط.
فكر الرجال ملياً، وبصقوا مجدداً، ولم يتوصلوا إلى إجابة لذلك السؤال: هل يستطيع الراديو تحدث اللغة العربية؟
———————————————
الأسبوع المقبل: عطبرة و”عشش فلاته” في الثلاثينيات