
وما المكان؟؟ وما الحرب؟!
صلاح الزين
” المكان” أوانَ الحرب لا مكانَ له من التعريف الفيزيقي. يصبح جغرافية والجغرافية مكانٌ بلا وجدانٍ وعاداتٍ وخطايا لا تكف عن التناسل. فهو يلزمه، للتعريف، بعض من خطايا وأخطاء.
الجغرافية يعوزها هذا السمت. فهي مجرد مناخ وفصول تتردد فوق سديم المكان المنزوع من إلفة المكان كبَكْرَةِ خيوطٍ يصعب فرزها. فضاء يعرفه الأوكسجين كجهات أربع تتوشى بها الرياح في حلها وترحالها وتخلع عنه ثوب الحياة. وبذلك يكون هذا الفضاء -اللامكان- علفاً للحرب وركض حوافر خيولها والصهيل.
هكذا ينكسر المكان ويتناثر ويصير مسكنه ومأواه الطعم والرائحة ويتحوَّر إلى حاسة ذوق وشَمٍّ. تحتاج الحاسة تلك، كرضيع، لأثداء ترضعها فلا تنضب وتفنى وتنعدم فيصبح للمكان أثداء فِطامُها اليباس.
المكان، بكرم العطر، لا يميز ولا يستثني كما الموت والحزن، يهب الهوية والتعريف للموجودات والأحياء، الموتى الأحياء والأحياء الموتى، سيان. حتى الزمن يندبغ وينطلي بهويةٍ وألوانٍ يجود بها المكان آن ينثال فوق سفوح المكان وجنباته إن كان وطناً أو منفى. الأول فتوة المعرفة بينما الأخير كهولتها.
والمكان، حتى لا يفقد مكانته وجدواه الأنطولوجِيَّة، يَخرُج وينسلخُ من ترَفِهِ الفيزيقي المعلوم نحو وضعيةٍ تكون فيها الذاكرة هي الحامل الفيزيقي الحافظ للمكان من التوهان: “المكان الذاكِري” وبذلك لا يفنى المكان وإنما يتحور حتى لا يفلت من قبضة الطبيعة والآلهة وكأنه إله آخر.
وهكذا يكون للمكان صنو آخر، مرآة أبداً لا يعتم جوفها وجه المكان وإنْ تهشمت وخارت مفاصل الضوء والشعاع.
للحرب تعريفات عدة منها: هي اعتداء الجغرافية على المكان: الأولى كشَرَكٍ بأسنانٍ عدة تصطاد الجميع ولا توفر أحداً بينما المكان شركٌ بِسنٍّ واحدة، مرايا جوفها لا يسع غير وجه واحد، جميلاً أو قبيحاً، لا فرق.
فالحرب حالة انتظار “يتحول فيها الزمن إلى اللازمن، والشيء إلى اللاشيء، والمعنى إلى اللامعنى” كما تذهب نوال السعداوي.
الحرب حبل الماء الذي جف.
المكان ينزح مع النازحين ولكن بغير أقدام، فيبقى هناك وكأن أقدامَهُ من دخان، هناك وراءهم يُسلِّي نفسه بحكمة الحرب وشبقها. يغفو متوسداً حُلمَ عودةِ الخطايا، كأنْ تعشق خلسةً أو تتسوَّر المنزل وأنت مخمور. غريب أمر ذاك المكان المشنوق بحبل تلك الخطيئة!!
ولأن المكان يحتذي نعلات جبال الأولمب لا يبارح مكانه ويخطو خارجاً مع النازحين نحو شهوات السديم ومراعيه. عِوضاً عن ذلك، ورحمةً بهم، يَدُسُّ في لونِ بشرتهم، في لهوجتِهِم تلك، تميمةً وسجادةً لصلاةٍ قادمة فوق تراب “المكان الذاكِري” الذي ليس هو بمكان وإنما “حَيزٌ” تُرعبُهُ جلبة النازحين وتدهشه قدرة المكان على القيلولة وسط تلك القيامة الصائتة.
والحيز ذاك، ليس كما المكان كرفاهٍ وجودي يتساقط من غمام الآلهة، الحيز ذاك مكانٌ مستلفٌ تَقاصرَ عن رحمة الخالق والمواضعة: موضِعٌ معطونٌ في ماء الموقوتية والريبة.
تعجز تميمة المكان تلك المُودَعةُ أسفلَ مساماتِ رهقِ النزوح أن تمدَّ عرق التعب بقليل من هواء يعين على ترتيب شؤون الحيز كمكانٍ ذاكِريٍّ بمرايا من سطحها يطلُّ المكان، المكان “الهناك” بوجهه المعطوب ببثور الوجدان والإلفة، والحشاش يملى شبكتو !!
يصاب الحيز من شدة وَجَلِهِ كمضيف بداء المسخ metamorphosis فينمسخ إلى منفى.
والمنفى سديم المكان. يَشنقُ المكانَ من غير أن يقتله، لا يطلق عليه رصاصة الرحمة ليرتاح المكان ويخبو شبقُ الرصاصة وشوقُها للحياة.
فقط تبقى هناك، هناك كريحٍ أضاعت جناحها ونَصَلَتْ حوافرها.
فالمنفى قيلولة ينقصها تمام النعاس، بيضةٌ لم تفقس بعد تبحث عن صياح ديك ليوقظ الدجاجات لتكون آلهة الخلق.
هو زمن لا يُعرَّف بالوقت ولا يَتعرَّف به. يتساقط كقطرات ماء من على سقفٍ متهالك أو دعواتٍ تهبط نحو الأسفل عِوَض الارتقاء في درج الصعود.
هكذا صوت ضربات حوافر خيول الجغرافية تُفقِد “المكان” حريتَهُ فيغدو رهينة، رهينةً مردوفةً في سرجِ الجغرافية كمعنىً لم يتعرَّف على الأبجدية بعد.
لكلٍ مكانٌ: الآلهة في السماء أو المجهول، والعِبادُ هنا أو المعلوم.
وما المكان وما المنفى؟!
التعليقات مغلقة.
النص الذي أصابني بالقشعريرة
“يصاب الحيز من شدة وجله كمضيف بداء المسخ Metamorphosis فينمسخ الي منفي.”
وخشي نحن القدماءإن تصبح هذه الامكنة التي لذنا بها منافينا ….. نخشي آن يضمحل رويدا رويدا شغفنا في ان نحكي لاحفادنا عن تاريخنا وامجاد اسلافهم وان السودان كان يوما “المكان” الذي شهد البدايات الاولي للتاريخ.
لكل مكان: الالهه في السماء، او المجهول والعباد هنا او المعلوم
وفي الحتميه القدريه للحرب فى المعلوم،ينتفي المكان، ويبقي عبيره بالزاكره حيث سطوع الحيز منفذ. للنزوح والمنفي فيتوقف الزمان