بروفيسور فضيل في دِروة سهام دعاة استمرار الحرب
د. صديق أمبدة
“الكضب من قلٍة الأكيدة”. سمعت هذا المثل من إحدى قريباتي وأنا في المرحلة المتوسطة أو الثانوية لا أذكر ولكنه علِق بذهني. والرسالة واضحة: لا تخوض في أمر لست متأكدا من صحته، أو إحذر “قول قالوا”. وفي الوقت الراهن يمكن ترجمة ذلك في الحذرمن أخذ كل ما يرد في وسائل التواصل الاجتماعي أنه حقائق مسلم بها. الواتساب اصبح مثل (البار) كما جاء في قول منسوب للروائي الإيطالي امبرتو ايكو، أو (الانداية) كما في التراث الشعبي لمجالس الشرب في السودان في وقت مضى، حيث يكثر اللًغو كمصاحب طبيعي لعدم الوعي. وسبب هذه المقدمة في ذم “لفح الاخبار” من الواتسب هو ما ورد أخيرا في الحملة الجائرة في حق البروفيسور سليمان صالح فضيل الطبيب المعروف، وعميد كلية الطب جامعة الخرطوم الأسبق، وصاحب مستشفى فضيل المشهور، وأحد رموز الطب الباطني في السودان وربما في المنطقة بأكملها، إذ تم اختيارة عام 2009 ضمن أفضل عشرة أطباء في الجهازالهضمي في العالم، وبذلك وحده يصير أحد الرموز الوطنية البارزة في السودان.
الخبر هو أن بروفيسور فضيل قد ذهب الي بورتسودان في مسعي حميد للتوسط في إيقاف الحرب، ورغم نبل المسعي فقد اتضح أن د. فضيل لم يذهب أصلا لبورتسودان أو غيرها، وأن الخبر غير صحيح. ورغم الخبر الكذوب فقد أعمل دعاة الحرب أسنة أقلامهم الصدئة ضد الرجل. ولما لم يجدوا عليه ما يعيبه في أدائه المهني أو سلوكه الشخصي، عابوا عليه أن تحركه (المزعوم) من أجل إيقاف الحرب قد تم بدوافع قبلية. نعلم نحن، الجيل الوسيط، ومن أتي بعدنا في مراحل التعليم ربما حتى ثمانينيات القرن الماضي، أننا لم نعرف ولم نسأل أحدا عن قبيلته، وقد كان ذلك، إن لم يكن من المحرمات الاجتماعية، فهو عُرف قد تم التواثق عليه منذ دعوة مؤتمر الخريجين للتلاميذ والسودانيين جميعا رفض كتابة القبيلة في المكان المخصص في الاستمارات، زمن الاستعمار، وكتابة سوداني بدلا عنها ، وذلك حتي أعادها نظام الانقاذ سئ السمعة، خدمة لأهدافه في “إعادة صياغة المجتمع السوداني” أو تقسيمه وفق ما يريد. وعلي كل فإن انتماء الرجل لقبيلة الرزيقات لم يشفع له، فقد تم نهب منزله وعرباته وتم ضرب ابنه ونهبت مخازن الأدوية والمعدات الخاصة بمستشفي فضيل الخ. فماذا بعد ذلك ، وعلما بأن البروفيسر فضيل غير معرف عنه تعاطي السياسة أصلا.
و بمناسبة رفض مسعى السلام الذي لم يكن ، و أثار ثائرة البعض علي البروفيسور فضيل، دعونا نتذكر ما نعايشه وما عرف عن الحرب بالضرورة. ليس هناك ملائكة وشياطين في الحرب، كلهم شياطين. يرتكبون أفظع الجرائم والانتهاكات بمختلف مسمياتها، والفرق بين أطرافها ، في ارتكاب تلك الجرائم فرق درجة ومقدار. في كل الأحوال كما في حالة السودان الحالية يجب علينا إدانة تلك الجرائم البشعة والانتهاكات في حق المدنيين الأبرياء بأشد ما يمكن، سواء كان مصدرها الدعم السريع أو الجيش وبراميل المتفجرات التي تسقطها طائراته الحربية عشوائيا. الحرب هي الدمار الشامل للبشر والأصول المادية للدولة من مرافق عامة مثل محطات الكهرباء والمياه والطرق والجسور والمستشفيات والمدارس والجامعات والمصانع، الخاص منها والعام. هذه الأصول تم تشييدها بمليارات الدولارات من أموال وموارد الشعب السوداني، و عبر عقود من الزمان. السؤال لدعاة الحرب، هو كيف يبني السودانيون او من تبقي منهم بعد الحرب، هذه الاصول من جديد، فقط لتعود الي حالها قبل الحرب؟ كم نحتاج من الموارد والزمن، بالسنين وليس بالشهور؟ وكلما طال أمد الحرب كلما زاد الدمار وازدادت تكلفة إعادة الإعمار.
لماذا تريدون دمارا أكثر للسودان؟
هل يعلم دعاة استمرار الحرب أن الوطن الخارج لتوه من الحرب مثخننا بالجراح يكون ضعيفا قليل الحيلة و القوة التفاوضية مع ممولي إعادة الإعمار، و بسبب ذلك ربما ترتفع تكلفته أضعافا مضاعفة و تصبح مواردنا مرهونة للدول ذات الفوائض المالية التي تتلمظ للاستيلاء على مواردنا لأننا حينها سنكون بلا خيارات، و غالبا بلا أصدقاء، قياسا بما نراه الآن من المجتمع الدولي تجاه الحرب في السودان.
إن دعاة استمرار الحرب ليسوا أغبياء ولا يعوزهم التعبير الفصيح في إغتيال شخصيات الرموز الوطنية الذين قد يسعون لإيقافها، مثلما حدث للبروفيسور فضيل، ولكنهم يلزمون الصمت تجاه بشاعاتها ويريدونها أن تستمر، و ذلك هو المحّير. فماذا يريدون اذن؟ فقط نريد أن نعرف. إن إستمرار الحرب يعني المزيد من موت الأبرياء، يعني تيتم أطفال و يعني مزيدا من الأرامل رجالاً و نساءاً. تقول الأرقام إن عدد من حصدتهم الحرب من الأبرياء قد زاد عن الثمانية عشر الفاً ، و لكن الأرحج أن العدد ربما كان أضعاف ذلك، لأنه ليس ثمة جهة موكلة برصد عدد ضحايا الحرب، إضافة الي صعوبة ذلك عمليا. فهناك من أصيبوا في الطرقات ولم يجدوا من يستطيع المخاطرة بدفنهم فصاروا جثثاً متخثرة تنهشها الكلاب والضواري الأخرى. تلك الارقام قلًت أو كثرت ، حقيقتها ، إنهم بشر، لهم أسر و أرحام و ليس لهم علاقة بأطراف الحرب و لاالمتسببين فيها. كانوا فقط في المكان الخطأ في الوقت الخطأ.
السؤال الأخلاقي المهم لدعاة الحرب واستمرارها ورافضي مساعي الصلح والتفاوض، هل أنتم و أسركم في مأمن من ويلاتها في دول اللجؤ والولايات التي ما زالت بعيدة عن لهيبها، أم أنتم في مرمى نيرانها عرضه للرصاص الطائش والدانات العشوائية و براميل المتفجرات التي يلقيها الطيران الحربي عشوائياً؟ إن الداعي للحرب واستمرارها هو مُحرض عليها و عليه وزرها مثلما على الجندي الذي يخوضها. و المسؤولية كذلك في (رقبة) الذين يدبجون الخطب الحماسية المليئة بالأحاديث الشريفة والايات الكريمة لتحشيد الشباب بما فيما سمى بالنفرة الشعبية، و يقدمونهم وقودا لمعارك لا يشاركون هم فيها، بل و يختفون (فص ملح و ذاب) بجلاليبهم الناصعة البياض وعممهم وشالاتهم النظيفه، في الوقت المناسب ، قبل بدء المعركة. وما حدث في قرية “ود النوره” خير شاهد. يا هؤلاء كيف تدعون لاستمرار الحرب وانتم إما لستم في مرمى نيرانها، و في مأمن منها، وإما في عرباتكم الفارهة ذوات الدفع الرباعي تنهب بكم الأرض هربا من معاركها، بعد أن تكونوا قد جيًشتم المستنفرين لخوضها ؟
دعني أكرر، إذا كنتم في مأمن وتدعون لاستمرارالحرب وتستأسدون في الأسافير على من يسعون لإيقافها، فتذكروا أبناءكم على الأقل. لا تستهينوا بأسئلتهم الصامتة فهم يفهمون التناقض بين عيشتهم في أماكن آمنة ، وهم يشاهدون الأطفال الأبرياء الذين هم في مثل أعمارهم يموتون ، فقط لأنهم في مرمى الحرب، وبين دعوة آبائهم لاستمرارها. هذا جيل مختلف والتلفونات الذكية في كل يد. وتذكروا أنه ولذات السبب قادت الفطرة السليمة كثير من أبناء الإسلاميين للمشاركة في تظاهرات ثورة ديسمبر المجيدة ضد النظام الغاشم الذي كان آباؤهم من قادته، وفي ذلك عظة وعبرة.
إن الجيش السوداني ليس به مشاة أو العدد الكافي منهم لخوض الحرب بالندية المطلوبة كما أشار إلى ذلك كثير من المعلقين من معاشيي الجيش. وبالمقابل فإن الدعوة للاستنفار لسد النقص لم تنتج الأثر المطلوب، كما أن استمرار الحرب قد أدى إلى المزيد من موت المستنفرين والمزيد من خسارة الجيش للمعارك، مما أضعفه أكثر وزاد من عدم ثقه المواطنين فيه. وبالأمس، وفي تسجيل لأحد أبناء قرية “ود النورة” قال ” الجيش خانًا. مافي جيش”. صحيح أنه باستمرار الحرب سيرتكب الدعم السريع المزيد من الانتهاكات والجرائم، وستسوء سمعته أكثر – إذا كان ذلك هو المقصود- و لكن الثمن الباهظ الذي ندفعه لكل ذلك واضح ؛ مزيد من الضحايا ومزيد من المعاناة. ورغم الاستنفار لم نر حتى الآن مکاسب حقيقية في الميدان للجيش وكتائبه إلا في وسائل التواصل الاجتماعي وأخبارها (المفبركة) في غالبها . وحيث أنه لا يصح الا الصحيح ، فإن الشعب ليس بغافل ويستطيع أن يفرق بين الاكاذيب والحقائق .
كل الخبراء والمعلقين السياسيين والعسكريين يجمعون على أن كل الحروب في الغالب تنتهي بالتفاوض. وليس من المتوقع في حالة مثل الحرب الحالية أن تنتهي بانتصار أحد أطرافها ، وعليه فإن السياسة العقلانية الوحيدة هي الجنوح نحو السلم والتفاوض. مرة أخرى أين العقلانية في رفض مساعي السلام والصلح. إن رفض مساعي السلام و السعي نحو إيقاف الحرب من قبل دعاة استمرارها ، يدخل فى باب اللامعقول. وإذا كان القصد من ذلك أن ” يلعبوا بينا سياسية” ، كما في قول منسوب لاحمد هارون ، فلعنة الله علي السياسة، إن كانت تعتبر حتي اللعب بمستقبل الوطن سياسة.
كفى بالحرب سوءا أنها مهدد حقيقي لوحدة الوطن، ونسيجه الاجتماعى، بما تفعله بالجميع و بالدعوات الفطيرة لتقسيمه ، وبارتفاع وتيرة خطاب الكراهية ضد مكوناته الاجتماعية. الخطاب الذي يجب علينا جميعا شجبه ومعه الفجور في الخصومة المستحل لتجريح واغتيال شخصيات كل من لم يتفق معهم سياسيا. أيها الداعون لاستمرار الحرب والرافضون للسلام اتقوا الله في الوطن و في مواطنيه.
وعودة للحملة ضد بروفيسور فضيل، فإنه لم يذهب إلى بورتسودان أصلا كما أشرنا من قبل، وقد نفى ذلك ، من بين آخرين ، الفريق إبراهيم سليمان رئيس الأركان الأسبق ووزير الدفاع الاسبق وحاكم دارفور الأسبق في عهد البشير، إذ قال ( لم يذهب معي لا د. فضيل ولا صافي النور). ولكن لنفترض أن د.فصيل قد ذهب فعلا في مسعى للتوسط بين الدعم السريع والجيش هل في ذلك مسبًة؟ علما أن الصلح خير كما في الموروث الديني والاجتماعي. لقد نبح دعاة استمرار الحرب بروفيسور في لا شيء تقريبا.
أولا ، إن السعي نحو إيقاف الحرب و تحقيق السلام يجب أن يكون مدعاة للشكر في تقديرى وليس العكس. ثانيا اتضح أن الخبر غير صحيح، وفي عجلة ظاهرة بدأت الحملة ضده قبل التأكد من حقيقة الخبر نفسه. ثالثا كان الركن الأساسي في الحملة ضد بروفيسور فضيل ، هو أن دافعه في المسعى كان لإنقاذ الموقف الحرج لقوات الدعم السريع في الميدان – باتفاق للسلام – لأنه ينتمي قبليا لمجموعة الزريقات التى ينتسب إليها العدد الأكبر من قوات الدعم السريع كما يذهب الزعم، ولأن أخاه الأصغر اللواء عصام فضيل أحد كبار قادته. أولا بالنسبة للواء عصام فضيل، الضابط السابق في القوات المسلحة، فقد تم إعفاؤه وهو عقيد، ثم أعيد إلى العمل وانتدب لقوات الدعم السريع عندما كانت اليد الباطشة للجيش ومرضي عنها، فما علاقة الدكتورفضيل بذلك، وهل نسي هؤلاء الآية الكريمة (ولا تزِر وازرةٌ وزر أخرى). وأما أن الدعم السريع في موقف حرج وضعيف أمام الجيش ميدانيا حتي يطلب من أبناء الرزيقات التوسط، فهو قول مشكوك فيه إن لم يكن غير صحيح تماماً. وما دامت الحقيقية في هذا الأمر تقديرية إذ يستقى الجميع الأخبار من مصادر الأطراف المتحاربة فصاحب ” العقل ” يميِز” . وأما عن الانتماء القبلي فهو فرد وليس زعيم القبيلة، كما أن الصحيح أن مجموعة الرزيقات وعدد من قبائل الغرب كانوا تأريخيا يشكلون جزءا معتبرا من مشاة الجيش، وحتى الآن ما زالت أعداد كبيرة منهم يحاربون في صفوف الجيش، رغم وجود أعداد كبيرة منهم في الدعم السريع. فأين موقع بروفيسر فضيل في كل هذا وما ذنبه؟ يا هؤلاء اتقوا الله. ربنا يهدينا ويهديكم.