‫الرئيسية‬ مفكرة الحرب دندنة وسط الرصاص
مفكرة الحرب - 1 يونيو 2024, 22:43

دندنة وسط الرصاص

مرام علي
دوماً ما أجدني أنظر إلى الحياة والأيام بعين سينمائية، عين تفوكس عدستها على المعنى مهما كان ساذجاً ولا يعني شيئاً لأحد، ربما السبب في ذلك هوسي بالمعاني، وربما لأحداث كانت بؤرتها التوافقية والتوارد العجيب، وربما التناقض، وربما لانتمائي الجيني والجغرافي لأهل ومناطق ديدنهم الحكمة والغناء والدوباي ونظم الشعر والتصوف الفطري الذي ينظر صاحبه للحياة بعين حُلوة متجاوزة المرارات، تعبر المستنقع ولا شيء يعنيها سوى اللون الأخضر، ونشوئي في مكان يختلف تماماً عن انتمائي ..
كنتُ الطفلة التي وقفت على باب الشارع اللبني حاملة لعبة بلاستيك موسيقية بمفاتيح بيانو مصغرة تريد أن تعزف يا حبيبي نحن اتلاقينا مرة، ومن المطبخ يأتي صوت العود والعاقب محمد الحسن،فلما لم تعرف كيف تفعل ذلك اللحن حطمت اللعبة حتى صارت شظايا، وحينما كبرت وعزفتها أحست بالحنين يتضاعف والرضى يستكين، لكن الطفلة لا تزال واقفة على الباب زعلانة، في الذاكرة طبعاً،..
حكيتُ هذه القصة لجوليا الست التي تبيع الشاي بالنعناع في شارع القصر، تأتي جوليا في العصرية حتى المغارب تحت عمود الإنارة البرتكانية، وأطل عليها لفترات متقطعة، وأحياناً أغيب، وكان لجوليا البشاشة والسؤال الغافر : يعني انا ما صحبتك وللا شنو ؟ أحياناً تأتي معي وفاء، وفي أحيان أعبر جوليا وعند عتابها أرضيها بونسة خفيفة، حكيت لها الأقصوصة حينما طلبت مني أن أعزف لها، فأخبرتها أنني لا أعرف حتى الآن كيف أعزف ولكنني سأعزف لأجل تلك الطفلة الغاضبة، كان ذلك قبل سنوات طويلة، حكيت لجوليا أن رائحة النعناع تذكرني بالنعناع الذي كانت تزرعه أمي على طول الحوش لأمتار عديدة، وفي العصاري تصنع لنا كفتيرة النعناع جواً رشيقاً وطيب الطعم حتى في الذاكرة، وخالي حنفي يونسنا بالشعر والألغاز، قلت لها أن النعناع يعبر لي عن الأنس واللمة، ما طلبته جوليا كان لا يشبه ردات الفعل الطبيعية، بعد أيام من ذلك طلبت مني أن أدندن لها اتلاقينا مرة ما دام ما حعزفها، ما فعلته جوليا كان تجسيداً لكلام عاطف خيري في الحنان : ” ومن أراد رؤية الحنان لبرهة فلينتظر حتى يقع عصفور في شرك وينظر إلى عينيه ” ، كانت جوليا ذلك العصفور، في قفص الحنين الذي لا انفكاك عنه، ابتسمت جوليا في رقرقة عينيها، وبكت في ابتسامتها البديعة، وسألتها : بتحبي الغنا السوداني يا جوليا؟ فأخبرتني أنه زي النعناع، يعني يا جوليا أنس ولمة وللا عنده ريحة ؟ ..
بعد تطاول أزمنة اختفت جوليا فجأة، ولم أحس باختفائها لأنني أيضاً كنت غائبة عنها، سألنا عنها وسألنا، وآخر ما عرفناه أن جوليا مريضة بورم ما ولا أحد يعرف عنوانها، فغنيتُ لأطلال جوليا في شارع القصر : جوليا تشاو جوليا تشاو تشاو تشاو تشاو، يا شجر القلب المنعنع بالطبع ولم يبق من جوليا إلا نفح النعناع ..
لا امتلك الفضول تجاه أشياء كثيرة مهما اتفق العالم على دهشتها، لكن الفضول دفعني كي أشاهد فيلم وداعاً جوليا، قلت ربما أجد فيه شيئاً من جوليا، ربما أجد ارتباطاً ما، فاسم الفيلم موجود في حياتي كجملة رددتها في شارع القصر أول ما عرفت سبب اختفاء جوليا قبل سنوات، سنوات !
وأول مشهد لجوليا في الفيلم كانت تقطف النعناع ..
يا الله كم أحب الجمال، وكم تفتتني الأصوات،
في أيام الحرب، شيئاً فشيئاً، صار للجمال معنى أسمى، أن تغني وسط القبح، يا الله كان شيئاً مختلفاً عن الغناء في الحياة العادية، حتى العصافير صار غناؤها أشد شجناً ورحمة، وعيونها أطالت التحديق أكثر من زمان، في الحرب كان للجمال وقعاً بديعاً على الروح، يا الله، حتى الله صار القرب منه أشد سلاماً في الحرب، حينما شاهدت وداعاً جوليا، شاهدته بالعين التي ترى كل شيء بصورة غريبة، العين التي تحلل وتفتت الصورة حتى تحيلها إلى انقسامات لونية متعددة، والصوت إلى معنى آخر أشد أسراً، ذكرتني منى حينما تغني فكرتي عن الغناء وسط الحرب، وحياتها في الخلفية حرب، فكان لغنائها وقعاً أشد خصوصية، أحببتُ وداعاً جوليا، أحببته قبل كل شيء كجمال يعزي الروح في الأيام الخائفة، وكجمال تدارك نفسه قبل الخراب فلما جاء الخراب لم يسعنا إلا أن نقول يا للهول، شكراً للوقت، يكتر خير الله ..
دوماً ما اتصيد لحظات المغفرة في الأفلام والمسلسلات، لا توجد عاطفة تأسرني أكثر من المغفرة، ولا المحبة نفسها، أحببت المغفرة في وداعاً جوليا، ثمة أشياء الوصف يفسدها، كان فيلماً لا يوصف، بل يُحس ويُشاهد وبعده يصير الجليل من السكوت ..
لكن : وداعاً جوليا يشبه دندنة وسط الرصاص، وزهرة في حائط متصدع، عصافير تغفر للوحشة، إلفة تغفر للتشتت، ريحة الحبايب، لون ينتمي للوجدان، وجدان ينتمي للروح، وغناء يصر على أن لا ينتهي !

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 4.5 / 5. Total : 4

كن أول من يقيم هذا المقال

تعليق واحد

‫التعليقات مغلقة.‬