إيقاف وإنهاء الحرب – ولكن كيف؟ (5-7)
د. شمس الدين خيال
في الجزء الأول من هذه الورقة تم تسليط الضوء علي ما استخلصته الابحاث العلمية عن السلام والصراع Peace and) Conflict Research ) من سيناريوهات أساسية لإيقاف وانهاء الصراعات المسلحة والاشكاليات العسكرية والسياسية المرتبطة بهدن للقتال وبتجميد للحروب كأليات لإيقافها وكتمهيد لأنهائها. وتم في ذلك تقديم بعض الامثلة لمجري بعض الصراعات المسلحة، التي جرت في الماضي والجارية في الحاضر، بما فيهم الصراع المسلح الجاري الآن في السودان بين “الجيشين الرسميين”. ومثلت الثلاثة السناريوهات الاساسية لإيقاف وانهاء الصراعات المسلحة، التي استخلصتها الابحاث العلمية:
- الدبلوماسية السياسية
- ضغوطات الانهيار الاقتصادي، أو، والانفجارات الشعبية السياسية العريضة والقوية
الانتصار العسكري لإحدى الفريقين المتحاربين على الآخر
والتي تبلورت عبر مجري تاريخ البشرية، محور الجزء الأول. وفي الجزء الثاني تم تسليط الضوء علي طبيعة الجيشين الرسميين المتحاربين – المنظومة الدفاعية والامنية، متمثلة في الجيش القومي، وقوات الدعم السريع، وعلي جزور وتطور القناعات السياسية والاقتصادية لقياداتها العليا. وجري هذا التسليط تحت مفهوم ضرورة الفهم لطبيعة الجيشين الرسميين المتحاربين وللداعمين لهم في الداخل، ولأسباب حدوث واستمرار الحرب، كشروط أساسية لنجاح أي عملية دبلوماسية لإيقاف ولأنهاء الحرب الجارية.
في الجزء الثالث تم تسليط الضوء علي الوضع الميداني، وعلي القوة العسكرية العتادية والبشرية والمادية لطرفي الحرب، بعد عام من اندلاعها. في ذلك تم التعرض للعوامل المؤثرة في “نضوج الصراعات” لأنهائها، والمتمثلة: في السيطرة العسكرية في ميدان الحرب، والاستقطاب والاستنفار للمواطنين ودوافعهم وتداعياتهم العسكرية والإنسانية، والوضع العسكري العتادي والبشري للفريقين، والتدمير، الذي طال المنشئات الصناعية العسكرية اثناء القتال وبسبب النهب والتخريب، والعزلة السياسية الخارجية للفريقين، والحظر الاقتصادي الخارجي علي كيانات وأفراد ذات صلة بالحرب. كل هذه الاجزاء من الورقة تم نشرها علي هذا الموقع تحت عنوان: إيقاف وإنهاء الحرب – ولكن كيف؟
في هذا الجزء الخامس يتم تقديم توضيح مختصر عن موقف – بالأصح مواقف – قيادات الجيشين الرسميين المتحاربين تجاه الحل الدبلوماسي لإيقاف وأنهاء الحرب منذ بدايتها، وفي ظل التطورات الأخيرة والمتوقعة في الجبهات المختلفة. ويتم النظر الي المواقف المختلفة تجاه الحل الدبلوماسي تحت تأثير الفقد العسكري العتادي والبشري والمادي للفرقين خلال عام من الحرب، وتحت محدودية تأثير استقطاب واستنفار المواطنين علي المقدرات العسكرية للفريقين.
ويعتمد هذا الجزء علي تصريحات لقادة الجيشين الرسميين المتحاربين وبيانات وتقارير واردة في وسائل الاعلام المحلية والعالمية عن المواقف تجاه الحل الدبلوماسي، وعن التطورات الأخيرة والمتوقعة في ساحات الحرب المختلفة، وذلك بعد التدقيق -بقدر الامكان- في مصداقيتها!
مواقف قادة الجيشين الرسميين المتحاربين تجاه الحل الدبلوماسي
تحت اعتبار ما تم استخلاصه في الجزء الثالث من هذه الورقة عن فقد الفريقين للقدر الأكبر من قواهم العسكرية العتادية والبشرية والمادية، وعن محدودية دور استقطاب واستنفار المواطنين لتحقيق تغيير نوعي في جبهات القتال المختلفة، وارتباطاً بما تم استخلاصه في الجزء الرابع من مؤشرات بخصوص السيطرة العسكرية على ألأرض في جبهات القتال المختلفة، والتي توحي بعدم مقدرة الجيش علي تحقيق تقدم ميداني ذو معني عسكري منذ سيطرته علي مباني الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، وعلي اجزاء كبيرة في أمدرمان، وباستطاعة قوات الدعم السريع علي الحفاظ علي مناطق سيطرتها مع تمدد ملحوظ ومحوري في ولاية شمال كردفان وفي اقليم دارفور، وباستطاعتها مهاجمة مواقع للجيش في “أرض الظهر (Backland)” في “الولايات الآمنة” باستخدام تكنلوجية الطيران المسير، يأتي السؤال عن مدي وصول الحرب الي “حالة نضوج”، تجبر الفريقين علي العودة الي طاولة المفاوضات في منبر جدة من اجل الوصول الي حل سياسي دبلوماسي لإيقاف وأنهاء الحرب. للإسهام في البحث عن إجابة علي هذا السؤال، يتم في هذا الجزء توضيح لمواقف قادة الجيشين الرسميين المتحاربين تجاه الحل الدبلوماسي لإيقاف وإنهاء الحرب تحت المؤشرات الميدانية والعسكرية العتادية والبشرية، والتداعيات لإنسانية والسياسية والاقتصادية، بعد مرور أكثر من عام علي اندلاعها. في ذلك يتم التعرض، وباقتضاب شديد، لحصيلة وافاق استئناف المفاوضات الدبلوماسية التي جرت منذ الحرب في ما يسمي “منبر جدة”.
حصيلة المفاوضات الدبلوماسية في منبر جدة لإيقاف القتال
في وقت مبكر -نسبيا- أي بعد شهر من اندلاع الحرب، في مايو 2023، تبنت المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية مبادرة دبلوماسية، في ما سمي لاحقا منبر جدة لرعاية مفاوضات بين الفريقين المتحاربين بهدف وقف إطلاق النار والتوافق علي ترتيبات انسانية وبناء ثقة تفضي الي انهاء الحرب. وتم هناك في العام الأول للحرب التوافق علي نحو 14 هدنة للقتال، بائت كلها بالفشل. وبعد كل خرق لاتفاق وقف اطلاق النار، كان يأتي الانفجار للقتال أكثر توسعا وضراوة، مصحوبا بتفاقم لأعداد القتلة من الجانبين، وللضحايا المدنيين، وبتهجير متزايد للمواطنين، وبتدمير أكثر للبنية التحتية، وبتعميق أكثر للانشقاق في المجتمع. وبائت ايضاً، آخر محاولة للوصول الي هدنة للقتال بالفشل، قام بها الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش – عند احاطته لمجلس الامن – في 07.03.2024 – عن الاوضاع في السودان – دعا فيها اطراف الصراع الي “وقف اطلاق للنار في شهر رمضان”. وفي اليوم الثاني من هذا النداء، دعا ايضاً مجلس الأمن إلى وقف فوري للقتال احتراما لشهر رمضان. (مقارنة بهذه المجهودات في البحث عن امكانية لوقف الحرب في شهر رمضان ذو المعني الديني الكبير عند المسلمين، والتي بائت بالفشل، تم نجاح تجربة هدنة القتال المشهورة في الحرب العالمية الاولي (Christmas Truce)، في عيد ميلاد المسيح في 24 ديسمبر 1914 وفي ايام العيد الأخرى، بشكل عفوي ومن غير توافق مسبق بين قيادات الجيوش المشاركة في الحرب).
وقبل اخفاق هذه المحولات الاممية لإيقاف القتال في شهر رمضان، قررت الوساطة السعودية/الأميركية في منبر جدة، – بعد اخفاق الأطراف المتحاربة في تنفيذ ما تم التوافق عليه من هدنات للقتال وإجراءات لبناء الثقة – تعليق المحادثات في 2 ديسمبر 2023، الي أجل غير مسمى. وكان – قبل تعليق المفوضات – قد تم التوصل بين الطرفين، في السابع من نوفمبر 2023، علي التوافق والتوقيع على ما سمي “إعلان جدة”، الذي يحتوي علي بنود خاصة بإيصال المساعدات الإنسانية، وإجراءات لبناء الثقة. في هذا الاعلام مثل “القبض على الاسلاميين الفارين من السجون ومشعلي الحرب” أهم اجراء لبناء الثقة، طالب به مفاوضي قوات الدعم السريع. ورغم تسليم وفد الدعم السريع – بموجب الاتفاق – قائمة بأسماء المطلوب توقيفهم، والتزام وفد الجيش امام المسهلين بالتنفيذ لهذا الاجراء، انقضت مدة التنفيذ والمهلة الإضافية للقبض على المطلوبين دون أن يتم إعلان أوامر بالقبض، او تنفيذه.
وبخصوص الترتيبات الإنسانية كان مفاوضي الجيش قد رفضوا دخول المساعدات الانسانية الى دارفور والخرطوم وكردفان والنيل الأبيض عبر مطارات نيالا والجنينة والفاشر وعبر ممرات إنسانية من تشاد، وتمسكوا بإيصال المساعدات عبر مطار بورتسودان فقط. كذلك أعلنت قوات الدعم السريع في وقت سابق، عدم سماحها لمرور المساعدات الإنسانية عبر مسار الدبة – مليط -الفاشر، وحشدت آلاف المقاتلين في تمركزات علي هذا الخط في مناطق شمال وشرق الفاشر. اضافة لتلك المواقف المتعنتة تجاه طريقة توصيل المساعدات الإنسانية، وحسب التقارير الواردة، قاد رفض قادة الدعم السريع لمطلب الجيش بخروجه من الأعيان المدنية، وانهاء المظاهر العسكرية في الطرقات والمدن، واصرارهم علي الحفاظ علي المناطق التي تسيطر عليها، وعلي الإبقاء على ارتكازات ونقاط التفتيش في المناطق الخاضعة لسيطرتهم بالعاصمة، الي فشل المفاوضات وتنفيذ اجراءات بناء الثقة المتفق عليها في منبر جدة.
ورغم تبادل الاتهامات بين الطرفين عن مسؤولية فشل تحقيق ما تم التوافق والتوقيع عليه في إعلان جدة، واضطرار الوسيطين إلى تعليق المفاوضات، يؤكد الطرفان في تصريحاتهم المتكررة التزامهم بمخرجات إعلان جدة، وعدم الممانعة في متابعة البحث عن حل سياسي دبلوماسي. في هذا الصدد، رحب المبعوث الأميركي الخاص للسودان، توم بيرييلو، في منتصف أبريل الماضي، بقرار المملكة العربية السعودية لاستئناف محادثات جدة خلال الاسبوع الثاني من شهر مايو. كذلك اكدت تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية ،(تقدم) بان طرفي الحرب التزما بالعودة إلى مسار المفاوضات في منبر جدة “بدون شروط مسبقة”. لكن، ورغم كل تأكيدات الطرفين المتحاربين لرغبتهم في استئناف المحدثات، ورغم المجهودات المبذولة من الوسطاء في منبر جدة لتحقيق ذلك، لازالت الرؤية غير واضحة حول موعد استئنافها وافاق نجاحها. في هذا المضمار صرح المبعوث الأمريكي الخاص للسودان السفير توم بيريليو، في منتصف شهر مايو، إن دعوة استئناف محادثات منبر جدة التي كان مقرراً لها الأسبوع الأول من مايو، لم تحظَ بموافقة كاملة من الأطراف المتقاتلة، دون أن يحدد مواقف الطرفين. وفي محادثات علي الهاتف، في 28 مايو الجاري، مع وزير الخارجية الأمريكي، رفض قائد الجيش الدعوة باستئناف التفاوض في جدة مطلع يونيو القادم، معللا رفضه بانتظار “.. الدعوات المكتوبة التي تتضمن أجندة التفاوض وآليات تنفيذ أي اتفاق مرتقب”، حسب خبر اوردته “قناة الشرق” السعودية في 29 مايو الجاري.
مواقف قيادات الجيش وداعميهم تجاه الحل الدبلوماسي
بينما اوضحت قيادة قوات الدعم السريع في وقت مبكر -نسبيا- بعد انفجار الحرب، تجاوبها مع المبادرة الجارية منذ مايو 2023، أي بعد شهر من اندلاع الحرب، برعاية سعودية/أمريكيا، في منبر جدة، والمعنية برعاية المفاوضات بهدف وقف إطلاق النار والتوافق علي ترتيبات انسانية وبناء ثقة بين الفرقين تفضي الي انهاء الحرب، جاءت مواقف قادة الجيش معها مرتبكه ومتخبطة ومتذبذبة ومناقضة لبعضها. حديثا تكررت هذه المواقف لقادة الجيش تجاه الحل الدبلوماسي لإيقاف وانهاء الحرب، عندما ناشد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش الفريقين، ودعا وقرر مجلس الأمن إلى “الوقف الفوري للقتال احتراما لشهر رمضان”. تجاه هذه المحاولة الاممية اعلن مندوب “حكومة الأمر الواقع” لدي الامم المتحدة ترحيب وموافقة قائد الجيش علي هدنة للقتال اثناء شهر رمضان، وضعت وزارة الخارجية للموافقة علي الهدنة 4 شروط مسبقة، بينما اعلن الفريق ياسر العطا في حفل تخريج ميليشيا تتبع لحركة العدل والمساواة، عدم الالتزام بالهدنة، التي دعا اليها وقررها مجلس الامن. وذهب ياسر العطاء خلال شهر رمضان الي أبعد من إعلان الرفض لإيقاف وأنهاء الحرب عبر الحل الدبلوماسي، حين لمح عن استعدادهم لخلق دولتين واحدة تضم وسط وشمال وشرق السودان، وأخره تضم دارفور وكردفان والنيل الأزرق. ويدل تصريح العطاء بصفته النائب الأول لقائد “القوات المسلحة القومية” علي “تواجد ميول واستعداد” داخل المنظومة الأمنية والدفاعية للقبول بتقسيم البلاد، والتخلي عن المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع في كردفان ودارفور، وحركة عبدالعزيز الحلو في جنوب دارفور وجبال النوبة وحركة محمد نور في جبل مرة، علي قرار فصل الجنوب – كثمن دفعته “الحركة الاسلامية” لاستمرار حكمها للبلاد.
ومن مظاهر حالة الارتباك والتخبط والتناقض لقيادات الجيش حيال الحل الدبلوماسي، استمرار قائد الجيش ورئيس “المجلس السيادي” – الذي تم حله بموجب انقلاب 25 اكتوبر 2021- الفريق أول البرهان والقادة الاخرين في قرع طبول الحرب وتكرار رفضهم لأي سلام أو تسوية قبل انتهاء ما يسمونه “تمردا” من قبل قوات الدعم السريع. حيث تنصل البرهان عدة مرات من التزامات تعهد بها وفده في مفاوضات منبر جدة، ويتمسك في خطابه اليومي الموجه الي الجنود والمستنفرين بتغليب الحلول العسكرية. كذلك اكد قائد الجيش الفريق البرهان في منتصف شهر مايو، بعد يومين من معارك عنيفة في كردفان، اعتراف فيها الجيش بخسائر في الارواح والعتاد، رفضه للتفاوض، وقال “الناس ديل اما ينتهوا أو يخلوا البلد دي يطلعوا منها، ما في سلام ولا مفاوضات معاهم..”. وحديثا صرح البرهان خلال أدائه العزاء بالمتمة في الضابط المتقاعد محمد صديق، الذي تم اسره في معارك حول مصفاة بترول الجيلي شمال الخرطوم ثم تعذيبه وقتله علي إيدي محتسبي من قوات الدعم السريع، عن جري العمل في تجهيز لواء خاص من المستنفرين، و”إن المقاومة الشعبية هي أساس عمود الجيش ومن يقاتل الآن ثلاثة أرباعهم من المستنفرين”.
وجاء السلوك المتذبذب والمرتبك والمتناقض لقائد الجيش الفريق البرهان، واضحا، عندما رفض لقاء مباشر مع قائد الدعم السريع، حميدتي، في جيبوتي تحت مظلة “منظمة الايقاد”، وذلك رغم موافقته مسبقا علي اللقاء. وجاء التعليل الرسمي لهذا الرفض مرتبطا بعدم قيام اللقاء في الموعد المحدد – كما جري – بسبب عدم حضور حميدتي في الموعد المحدد، على الرغم من قيامه في نفس الوقت بزيارة دول أخرى في الإقليم. كذلك يرفض البرهان عقد لقاء مباشر مع رئيس “تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية، (تقدم)”، رئيس الوزراء للفترة الانتقالية بعد سقوط نظام الإنقاذ، د. عبدالله حمدوك، وذلك رغم الدعاوي المتكررة له من قبل تقدم. وكان قبلها قد تم لقاء بين تقدم وقائد قوات الدعم السريع في اديس أبابا، توصل فيه الطرفان الي توقيع “وثيقة تفاهم”، والتي تضمنت استعداد قوات الدعم السريع علي “وقف فوري وغير مشروط لإطلاق “. وقبلها رفض نائب الفريق البرهان في مجلس السيادة مالك عقار الاعتراف بتنسيقية “تقدم”، واصفا إياها بـ “الجناح السياسي” لقوات الدعم السريع. وفي جولة أفريقية روج عقار لخطة سلام، ثم تراجع عنها في الفترة الأخيرة، وصار يتحدث عن مقدرة الجيش علي حسم التمرد في ميدان القتال، مقللا من إمكانية وقف وانهاء الحرب دبلوماسيا. وحديثا، استنكر مالك عقار دعوة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للبرهان للاستئناف المحدثات في منبر جدة، وقال لدى مخاطبته الجلسة الافتتاحية ل”مؤتمر الصلح المجتمعي والسلام الدائم” بمقر أمانة ولاية البحر الأحمر: “لن نذهب للتفاوض …”.
وفي ظاهرة شبيهه لما كان يقوم بها رئيس نظام الإنقاذ الساقط، عمر البشير، شهد نائب القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن شمس الدين كباشي، بإستاد القضارف تخريج دفعة جديدة من قوات “حركة جيش تحرير السودان”، بحضور رئيسها وحاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي. وفي نفس الفعالية حذر كباشي من الخطورة المستقبلية النابعة من “تسيس المعسكرات المخصصة لتدريب الشباب الذين تطوعوا للقتال إلى جانب الجيش”، وشدد على ضرورة “ضبط عمليات توزيع السلاح على المتطوعين”، ووضع قانون ينظم عمل “المقاومة الشعبية”، وقال إن ،”المقاومة الشعبية يمكن أن تتحول إلى خطر يهدد أمن السودان، إذا لم يتم التعامل بالقانون في توزيع السلاح”. وبعد عدة أيام من تصريح الكباشي عن المخاطر المرتبطة بالاستنفار وتسليح المواطنين، قلل النائب الأول لقائد الجيش، ياسر العطاء في تصريحا له من هذه المخاطر التي أشار اليها كباشي. وفي هذا المضمار صرح قائد الجيش البرهان، بإن ظهور كتيبة البراء بن مالك “.. في فيديوهات بصورة راتبة أدى إلى أن تدير الكثير من دول العالم ظهرها للسودان”.
وجاءت حالة سيادة الارتباك والتذبذب والتناقض لسلوك قيادات الجيش تجاه الحل الدبلوماسي لإيقاف وانهاء الحرب، أكثر وضوحا، عندما كشفت “جريدة السوداني” عن لقاءات غير معلنة، تمت بين نائب القائد العام للجيش كباشي، والقائد الثاني لـقوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو، بحضور ممثلين من السعودية والإمارات ومصر والولايات المتحدة، في البحرين في منتصف يناير من هذا العام. وحسب التقارير والأخبار المتداولة في وسائل الاعلام الداخلية، اسفرت لقاءات البحرين عن توقيع اتفاق سمي “وثيقة مبادئ وأسس الحل الشامل للأزمة السودانية”. وعلى أثر ذيوع خبر مفاوضات البحرين بين كباشي و دقلو، ووضوح احتواء الوثيقة الموقعة – علي نسق إعلان جدة – علي بنود تخص “تفكيك نظام الثلاثين من يونيو، وإعادة القبض على المتهمين الفارين من السجون، وضمان وصول المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية”، شن فلول النظام الساقط حملة نقد وتخوين عنيفة ضد كباشي. ورغم التداول الاعلامي المحلي والعالمي للقاء البحرين ولنصوص الاتفاق لم يعلق أو ينفي كباشي ولا القائد العام للجيش البرهان، حقيقة حدوث اللقاء وتوقيع الوثيقة مع القائد الثاني لقوات الدعم السريع. وفي اعقاب توقيعه للاتفاق في البحرين والحملة التي شنها عليه فلول النظام الساقط، أتهم الكباشي، أثناء مخاطبته جنود الفرقة 18- مشاة في ولاية النيل الأبيض، القوى المدنية – خصوصا قوى الحرية والتغيير\المجلس المركزي – بانها حاضنة سياسية لقوات الدعم السريع، و”مرتزقة، وعملاء سفارات”.
وتزامن تكثيف وتصعيد الخطاب الرافض للحلول الدبلوماسية لإيقاف وأنهاء الحرب من قبل قادة الجيش، مع إعلان حركة “العدل والمساواة” جناح د. جبريل إبراهيم، وزير المالية في حكومة الأمر الواقع، و”حركة تحرير السودان” التي يترأسها مني اركو مناوي حاكم اقليم دارفور، بجانب منشقين من حركة “تجمع قوي تحرير السودان” التي يرأسها الطاهر حجار الانحياز للجيش في الحرب، ووصل قوات تابعة لهم إلى ولاية سنار والقضارف والنيل والجزيرة والي ولاية الخرطوم. وعندها صرح مناوي في مخاطبته لقوات مشتركة من الحركات السياسية العسكرية المنحازة للجيش، في “معسكر المعاقيل” في مدينة شندي، على ضرورة إنهاء ما وصفه بالتمرد في أسرع وقت ممكن قبل نهاية رمضان، ثم تحرير الخرطوم والجزيرة ودارفور وكردفان. وجاء تصريح مناوي في نفس الوقت ومطابقا لتصريح ياسر العطا، في أن الجيش لن يدخل في مفاوضات مع الدعم السريع لإيقاف الحرب، وأكد استمرار القتال حتى الانتصار وأنه “لا هدنة ولا تفاوض”.
ويشير خطاب التصعيد من قبل القائد العام للجيش والنائب الأول وفلول المؤتمر الوطني ومن قبل قادة الحركات السياسية المسلحة، مناوي وعقار، وتكثيف القصف الجوي في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، الي مساعي الجيش إلى تحسين وضعه العسكري الضعيف في جبهات القتال المختلفة. وفي نهاية الاسبوع الأول من شهر مايو، صرح البرهان امام ضباط وضباط صف وجنود ومستنفرين بولاية نهر النيل، بانه “لن تكون هناك مفاوضات أو سلام أو وقف إطلاق نار مع هؤلاء المتمردين”, وانه “على ثقة تامة بأن الانتصار سيكون حليف القوات المسلحة في معركة الكرامة ضد مليشيا الدعم السريع المتمردة،”. ومؤخرا قال ياسر العطا في لقاء علي “قناة الحدث”: ” نعتذر للشعب السوداني عن أي تقصير ونتحمل ما يحدث بكل مسؤولية، ما عاوزين نقول الحرب لعبة بليستيشن، بس الشعب يصبر علينا والمشاعر الوطنية للشعب عالية… تأخرنا في استرداد بحري والخرطوم لمزيد من الإعداد لكننا جاهزون حاليا”.
مجملا يمكن القول أن مواقف قيادات الجيش تجاه الحل الدبلوماسي صار أكثر ترددا وتذبذبا وتناقضا منذ تحقيق تفوق عسكري في أمدرمان، واستطاعة السيطرة علي مقر الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، ذو الرمزية السياسية الوطنية والاثر المعنوي العسكري، وعلي أجزاء كبيرة من أمدرمان، بمشاركة قوات تابعة لحركة العدل والمساوة ولمناوى ولعناصر محسوبة على الحركة الإسلامية في كتيبة البراء ونسور الاحتياط في الصفوف الأمامية للقتال. حيث رفع هذا التفوق، رغم وضوح محدوديته الميدانية، من معدل الاعتقاد عند قادة الجيش والداعمين لهم، بأن إطالة أمد الحرب سوف يكون يجعل التغيير في ميزان القوة في ساحة الحرب، لصالح الجيش.
موقف قيادة قوات الدعم السريع تجاه الحل الدبلوماسي
كما تم ذكره في بداية هذا الجزء، ابدت قيادة الدعم السريع في وقت مبكر، بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023 اشارات استعدادها للدخول في محدثات مع الفريق الآخر لإيقاف وانهاء الحرب عبر حل سياسي. وجاء موقفها واضح وثابت – مقارنة بمواقف قادة الجيش – تجاه الانخراط في المبادرة الجارية منذ مايو 2023، في منبر جدة، والمعنية برعاية المفاوضات بين الفريقين بهدف وقف إطلاق النار والتوافق علي ترتيبات انسانية وبناء ثقة بين الفرقين تفضي الي انهاء الحرب. وفي الثاني من يناير هذا العام، وقع قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، على وثيقة تفاهم مع “تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية” (تقدم)، عرفت بإعلان أديس أبابا، تستهدف ايقاف وإنهاء الحرب. وتضمنت الوثيقة “استعداد قوات الدعم السريع علي “وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار..”.
ومن الواضح – والمنطقي – أن السيطرة الميدانية العالية لقوات الدعم السريع في جبهات القتال المختلفة منذ بداية الحرب، خصوصا في جبهة ولاية الخرطوم، عاصمة البلاد ذات الرمز القومي والسيادي والموقع الاستراتيجي العسكري، تلعب دورا اساسيا في خلق ثقة عسكرية عالية لدي قيادتها، وبذلك في موقفها “الايجابي” والثابت تجاه الحل السياسي الدبلوماسي لإيقاف وأنهاء الحرب.
خلاصة
تكثيف خطابات التصعيد والاستنفار الأخيرة – والمستمرة منذ اندلاع الحرب- بعثت إشارات واضحة عن استمرار حالة التذبذب والارتباك والتناقض والتضارب لمواقف قادة الجيش تجاه البحث عن طريق سياسي دبلوماسي لإيقاف وانهاء الحرب الجارية. حيث جاء التجاوب متذبذب ومتردد مع المجهودات لاستئناف مفاوضات منبر جدة خلال شهر مايو الجاري – كما اعلنه المبعوث الأمريكي الخاص للسودان السفير توم بيريليو، في منتصف شهر ابريل المنصرم، ومع دعوة وزير الخارجية الأمريكي الأخيرة للبرهان. وتجئ هذه المواقف لقادة الجيش، رغم التطورات الأخيرة علي ساحات القتال المختلفة، والمتمثلة في:
عدم مقدرة الجيش، منذ سيطرته علي مباني الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، واجزاء كبيرة في أمدرمان، علي تحقيق تقدم ميداني ذو معني عسكري – وذلك رغم الحشد العسكري العالي بمشاركة قوات الحركات السياسية المسلحة والمليشيات الجهادية الإسلاموية والمستنفرين.
استطاعة قوات الدعم السريع علي الحفاظ علي “معظم” مناطق سيطرتها مع تمدد ملحوظ ومحوري في ولاية شمال كردفان وفي اقليم دارفور، وباستطاعتها مهاجمة مواقع للجيش في “أرض الظهر، (Backland)”، في “الولايات الآمنة” باستخدام تكنلوجية الطيران المسيرة.
الطرفان يقاتلان بمقدرات عسكرية وبشرية مهنية ومادية تقل كثيرا عما كانت عليه عشية اندلاع الحرب، مما يجعل تحقيق الانتصار، أو”سحق” عسكري، حسب ما توعد الفريقين كلا منهما منذ بداية الحرب، امرا يصعب تحقيقه لطرفي الحرب، بعد مرور أكثر من عام علي اندلاعها.
ومن الواضح أن العوامل الاتية:
- الوضع الميداني الضعيف
- ضعف الهيكل الاداري والعقيدة المهنية (professional ethics)
- واستمرار مسك فلول النظام الساقط “بخيوط مهمة” في المنظومة الامنية والعسكرية،
تفاقم من حدة الارتباك والتذبذب والتباين والتضارب في مواقف قادة الجيش، وتقف عثرة حجر في أدارة عسكرية وسياسية داخلية ودبلوماسية خارجية ترقي الي مستوي متطلبات التعامل مع هذه “الحرب الاهلية” ومع حجم تداعياتها الانسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، منقطعة النظير. حيث تتسبب هذه العوامل في فقد المنظومة الأمنية والدفاعية لمركز موحد لإدارة الحرب ولوضع استراتيجية عسكرية وسياسية للتعامل مع الطرف الآخر ومع المجتمع الاقليمي والدولي، بهدف وقف القتال وانهاء الحرب. بجانب العوامل المذكورة، يأتي للتوجهات العقائدية السياسية الإسلاموية للرتب العليا، واختلاف التوجهات والمواقف والطموحات السياسية الشخصية للقيادات العليا في المنظومة الأمنية والدفاعية، والمرتبط ايضاً باستمرار تحكم فلول النظام الساقط عليها وعلي مؤسسات الدولة المالية والادارية، دورا مهما في ضعف المقدرات والانجازات العسكرية للجيش في الحرب الجارية.
في ذلك اوضحت أسباب فشل مخرجات المفاوضات، سواء التي تمت في منبر جدة، أو في البحرين، مدي تأثير تلك العوامل علي الموقف التفاوضي للجيش. وحتي المفاوضات مع “الحركة الشعبية – شمال” برئاسة عبد العزيز الحلو حول وقف العدائيات لإيصال المساعدات الإنسانية لمناطق سيطرة الطرفين في ثلاثة ولايات، وصلت تحت تأثير عوامل الضعف المذكورة الي طريق مسدود، رغم أن الجيش في الوقت الراهن في أمس الي فتح فرص وقنوات تحسن من وضعه الميداني والسياسي الداخلي ومن “سجله الإنساني”. بخصوص فشل المفاوضات، نفت الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال، اتهامات الجيش لها بعرقلة جولة التفاوض بشأن وصول المساعدات الانسانية، متهمة الجيش باستهداف عمل “جسر جوي لإيصال المساعدات الى قواته في “رئاسة الفرقة 14″ في كادوقلي، و”رئاسة الفرقة 22″ في بابنوسة و”رئاسة الفرقة 10″ في أبو جبيهة”. بجانب ذلك الحدث، يشير حدث تصريحات النائب الأول لقائد الجيش ياسر العطا، في 25 مايو الجاري، في “قناة الحدث”، عن إن “الجيش السوداني لا أمانع لديه في منح روسيا قاعدة عسكرية، وكذلك امريكا إذا أرادت، ومثلهما السعودية ومصر إذا أرادتا”، وإن هذا الأمر”… تبادل للمنافع بين الشعوب” الي ذلك الخلل المزمن في الادارة السياسية والدبلوماسية للحرب.
ارتباطا بالعوامل المتسببة في ضعف المقدرات والانجازات العسكرية للجيش في الحرب الجارية، تشير كل ما تم التوصل والتوافق عليه من بنود سياسية وعسكرية وأمنية بين الجيشين الرسميين، سواء أن كانت في منبر جدة أو في اتفاق البحرين، الي عدم مقدرة الجيش علي كسب اعتراف من الجانب الآخر أو من الوسطاء، لكونه يمثل “الشرعية السياسية والسيادية” للبلاد. وذلك، رغم أن هدف الحصول علي “الاعتراف بالشرعية السياسية والسيادية” مثل محور السياسة الخارجية لحكومة الأمر الواقع – ليس فقط منذ اندلاع الحرب، بل منذ انقلابها علي السلطة المدنية في 25 اكتوبر 2021. حيث تصبو سلطة الأمر الواقع الي الوصول الي تعريف الحرب، بأنها حرب بسبب تمرد قوات الدعم السريع وخروجها علي الشرعية السياسية والسيادية لسلطتها، وليس إنها حرب بين الجيشين الرسميين. بذلك تهدف سلطة الأمر الواقع الي اسقط الحظر الاقتصادي والعسكري، والتعامل الأممي المتساوي بين الجيش وبين قوات الدعم السريع، عن كونهم “طرفي الصراع”، كما يصفهم المجتمع الدولي. وما يرتبط بذلك من حظر اقتصادي وعسكري علي الجيش
ارتباطاً بالوضع الميداني الضعيف للجيش وبفشل المجهودات الدبلوماسية للحصول علي اعتراف بشرعية سياسية وسيادية علي الدولة لسلطة الأمر الواقع، جاءت مضامين مخرجات المحادثات التي جرت في جدة والبحرين متطابقة مع مضمون “الاتفاق الإطاري” والذي تم توقيعه قبل الحرب، بين الجيش وقوات الدعم السريع وقوي الحرية والتغير \المجلس المركزي. حيث ترتكز مضمون مخرجات المحادثات التي جرت علي المحاور السياسية الثلاث الاتية:
- استأنف عملية الانتقال السياسية الديموقراطي المدني
- اصلاح المنظومة الأمنية والدفاعية بتكون جيش مهني وطني واحد،
- تفكيك مؤسسات التمكين السياسي والاقتصادي للنظام الساقط…الخ.
وبما أن هذه المحاور السياسية الثلاثة تمثل نواة مخرجات منبر جدة واتفاق البحرين، وطبقا لما هو معلوم بأن القوى المعادية للانتقال السياسي المدني الديموقراطي داخل وخارج المنظومة الأمنية والدفاعية – والمنتمية والمرتبطة بالنظام الساقط وراء اندلاع الحرب – بدليل إعلانها قبل أيام قليلة من اندلاع الحرب، عن جهازيتها بقوة السلاح لمنع تحقيق “الاتفاق الإطاري” – تقف وراء افشال أي عملية سياسية دبلوماسية لأنهاء وايقاف الحرب، بهدف قطع الطريق الي الرجوع الي الوضع السياسي، الذي كانت عليه البلاد قبل اندلاع الحرب.
ارتباطاً بتلك الاهداف السياسية للقوى المعادية للانتقال السياسي المدني الديموقراطي والقابضة علي مفاتيح السلطة السياسية والمتحكمة في اقتصاد البلاد، يشير ما وضح من قبل قادة الجيش، من سلوك الارتباك والتناقض تجاه الحل الدبلوماسي والتذبذب والتراجع والتنصل عما تم التوافق عليه مع الفريق الآخر في المنابر المختلفة الي عدم حماسهم للمشاركة الجادة في أي عملية سياسية دبلوماسية تحت الوضع الميداني الضعيف للجيش. حيث تسيطر القناعة عند القيادات العليا في الجيش وحلفاءهم السياسيين على ضرورة مواصلة الحرب حتي الوصول الي وضع ميداني يحقق شروط عسكرية، تحقق الوصول الي اتفاق سياسي يؤمن لهم التحكم في أي عملية سياسية مستقبلية، من اجل الاستمرار في السلطة السياسية والحفاظ علي المكتسبات المادية التي تراكمت عبر ثلاثة عقود من حكم عسكري دكتاتوري شمولي. وأضح في هذا الصدد مؤخرا، مساعد القائد الأعلى للقوات المسلحة الفريق أول ياسر العطا، حينما دعا إلى قيام الجيش بأمرة الفترة الانتقالية بعد الحرب، واستبعاد المكونات المدنية، وقيام انتخابات يشرف عليها القائد الأعلى للقوات المسلحة.
ويصب في هذا التوجه السياسي وما يرتبط به من موافق تجاه الحل السياسي الدبلوماسي لإيقاف وانهاء الحرب، “الدعاوى الجنائية” التي قيدتها النيابة العامة لسلطة الأمر الواقع ضد رئيس الوزراء السابق ورئيس الهيئة القيادية لتنسيقية تقدم، د. عبد الله حمدوك والمتحدثة باسم التحالف، رشا عوض، والأمين العام لحزب الأمة القومي، الواثق البرير والقياديين في الحزب، زينب ومريم الصادق المهدي. وتتعلق الدعاوى بإثارة الحرب ضد الدولة وتقويض الدستور والجرائم ضد الإنسانية، وهي دعاوى تصل العقوبة فيها إلى الإعدام، وفقا للقانون الجنائي السوداني. وسبق هذا الاجراء حملة تصنيف ووصم لقيادات الكيانات المنضوية تحت تحالف قوي الحرية والتغيير\المجلس المركزية، بالخيانة الوطنية، والخروج عن الدين، وبذلك وجوب إعلان الحرب عليهم. وهدف هذا التصنيف والدعاية تبرير الحرب على قوي الثورة المنظمة في الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية وفي لجان المقاومة، وكل القوي المناهضة للحرب.
1.4. احتمالات استمرار الحرب في مناطق وتجميدها في مناطق اخري
ارتباطا بالخلل الهيكلي الاداري والعقائدي المهني والوضع العسكري الميداني الضعيف للجيش، وبالقناعات السياسية والاقتصادية لقادته وداعميهم، والاستطاعة من الاستيلاء علي مباني الإذاعة والتلفزيون القومي واجزاء كبيرة من أم درمان بمشاركة قوات من الحركات السياسية العسكرية والمليشيات الجهادية الإسلاموية والمستنفرين، بعد أكثر من عام من اندلاع الحرب، تزايدت عند القادة وداعميهم الاعتقادات والتوقعات والآمال والرغبات – في النصف الثاني من العام الأول للحرب – مع بداية كل هجوم، ومع كل إخفاق عسكري جديد – كما يجري الآن في دارفور وكردفان – في الوصول الى انتصار عسكري علي الفريق الآخر. في ذلك، يتزايد التخيل بامتلاك لمقدرات عسكرية وقوة صمود أطول من الطرف الاخر في ميدان الحرب، في أمل أن يكون النصر تبرير لكل الفقد في الأرواح والمال. وذلك مع العلم، ان الامكانيات الدبلوماسية واردة لإيقاف وإنهاء الحرب. لذلك يهدف قادة الفرقين عبر التكتيكات العسكرية والمناورات السياسية الدبلوماسية وسياسية الحرب النفسية، وتوجيه العاطفة وتأطير الوعي الشعبي الي الحفاظ على القوي العسكرية والسلطة السياسية من أجل البقاء في الحياة والإفلات من المحاسبة على الجرائم المرتكبة خلال ثورة ديسمبر وعبر العقود الماضية، والحفاظ علي مؤسساته، التي تسيطر علي الثروات الطبيعية. في ذلك يتم الفعل العسكري والسياسي بموجب الفهم: كلما كانت السيطرة السياسية والعسكرية على الارض عالية، كلما زادت فرصة تحقيق هذه الأهداف.
هذه “الورطة السياسية والنفسية”، التي يتواجد فيها قادة الجيشين الرسميين المتحاربين في ظل إطالة عمر الحرب لأكثر من عام، وصعوبة الحسم العسكري الكامل لمثل هذه الحروب الاهلية – كما حدثتنا تجربة جنوب السودان – التي تجري في مساحة ممتدة وفي مناطق متباعدة، وبمقدرات عسكرية ومادية ضعيفة وهياكل ادارية وقيادية وعقيدة مهنية هشة للفرقين: تجعل بقاء البلاد في حالة حرب لأمد طويل أمرا ممكننا. وقد ينتج عن استمرارية القتال بشكله الجاري – في جبهات متعددة ومتباعدة – “تجميد” للحرب في بعض المناطق، مثل دارفور وكردفان، واستمرار لها في مناطق اخري، مثل الخرطوم والجزيرة وسنار.
في حالة استمرار الحرب في مناطق وتجمدها في مناطق اخري، وفي ظل سيطرة قوات الدعم السريع على مقرات الجيش في أربع ولايات من ولايات إقليم دارفور الخمس، وعلي اجزاء كبيرة من ولايات كردفان، سوف ينضم جزء كبيرا – من ما تبقي من الدولة السودانية بعد انفصال الجنوب – الي وضع “المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة منذ عشرات السنين، والتي تقع تحت سيطرة الحركة الشعبية/شمال بقيادة عبد العزيز الحلو في جنوب كردفان وجبال النوبة ومنطقة جبل مرة التي تقع تحت سيطرة حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور. ويعني هذا السناريو “الواقعي”، عيش الجزء الأكبر من الدولة، تحت وضع تجميد للحرب من غير توفير إدني حد من الحماية للمدنيين، أو اعتبار للنتائج السياسية المتمثلة في خلق وتثبيت تجزئة الدولة الي مناطق تحت نفوذ القوي الحاملة للسلاح، وتعميق “حالة الا دولة” القائمة، وتسارع التفكك الجاري للدولة وتحولها الي “دويلات” متحاربة غير معترف بها.
وفي حالة استمرار الحرب في مناطق وحالة تجميدها في مناطق اخري سوف تتعمق ظواهر التفلة والممارسات البشعة في التعامل مع آسري الحرب ومع المواطنين من قبل جنود الفريقين ومن المجموعات المتحالفة معهم، وتتزايد ملاحقة القوي المدنية المناهضة للحرب، وتتزايد حركة النزوح السكاني داخل وخارج البلاد، كما يحدث الآن في دارفور وكردفان وجبال النوبة والجزيرة، وتتفاقم مخاطر المجاعة والامراض المزمنة والمعدية، ويتعمق الانشقاق السياسي والاجتماعي. في هذا المضمار تتحدث اليوم بعض منظمات المجتمع المدني وتقارير المنظمات العالمية والاممية عن عمليات نهب مسلح واغتصاب واختطاف للنساء للشباب الزكور بغرض الابتزاز وطلب الفدية أو التجنيد الإجباري من قبل قوات الدعم السريع والمليشيات القبلية المتحالفة معها ومن قبل المليشيات السياسية العسكرية الداعمة للجيش. خصوصاً وجود القواعد العسكرية للجيش وللدعم السريع، وسط المدن، يزيد من خطورة تمادي الاعتداء على المنازل، والاعتداء على النساء خاصة.
بجانب تلك التداعيات السياسية والإنسانية في ظل استمرار الحرب يتوقع تكثيف الطرفين لاستخدام المنع المتعمد لإيصال المساعدات الإنسانية من غذاء ودواء…عبر وكالات الإغاثة الي مناطق الخصم، كسلاح في الحرب، كما جرى في حرب نظام الإنقاذ الإسلاموي ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب وجبال النوبة والانقسنا، وحديثا، في فشل المفاوضات بين الجيش وبين “الحركة الشعبية – شمال” برئاسة عبد العزيز الحلو حول وقف العدائيات لإيصال المساعدات الإنسانية لمناطق سيطرة الطرفين. بجانب تلك التداعيات الإنسانية سوف تتعرض البنية التحتية والورثة التاريخية والثقافية للبلاد لتدمير أكثر.
ويأتي امكانية حدوث سناريو استمرار الحرب لأمد أطول في مناطق وتجميدها في مناطق اخري، مرتبطا بالمواقف المتذبذبة والمتناقضة لقادة الجيش، والتي توحي بانعدام الحماس لاستئناف محدثات جادة لإيقاف وانهاء الحرب، في ظل وضعها الميداني الضعيف علي جبهات القتال المختلفة، وبالميولات السياسية داخل المنظومة الأمنية والدفاعية للقبول بتقسيم البلاد، والتخلي عن المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع في كردفان ودارفور، والواقعة تحت سيطرة حركة عبدالعزيز الحلو في جنوب دارفور وجبال النوبة، والواقعة تحت سيطرة حركة محمد نور في جبل مرة، علي قرار فصل الجنوب – كثمن دفعته “الحركة الاسلامية” لاستمرار حكمها للبلاد.
2.4. شروط تجنب استمرار حالة الحرب لأمد طويل وتجنب تجميدها
رغم الزخم الاعلامي من قبل قادة الجيش لحملات الاستنفار الشعبي والحشد العسكري وتبني فلول النظام الساقط وكتائبها المسلحة لفكرة “المقاومة الشعبية” ولحملات إعلامية لتجريم الاحزاب السياسية ولجان المقاومة، ومنظمات المجتمع المدني أو لأي تنظيم، واعتقالات ومحاكمات تعسفية لأي فرد يناهض الحرب ويدعم السلام وإيقاف الحرب، تضيق امكانية الاستقطاب والاستنفار العسكري في المجتمع السوداني مع امتداد فترة الحرب ومع تزايد المآسي والمعاناة الانسانية. حيث يتزايد الرفض الشعبي -الصامت- للحرب ولاستمرارها، رغم، وبسبب تزايد الفظائع المرتكبة من محسوبي قوات الدعم السريع والمليشيا المتحالفة معها ومع الجيش، وتزايد عدد الضحايا المدنيين بسبب القصف الجوي العشوائي من قبل سلاح الطيران الحربي، وبسبب وضوح استحالة انتهاء الحرب بموجب انتصار احدي الفرقين علي الآخر.
في ظل تزايد الرفض الصامت للحرب، وتحت اعتبار كل المؤشرات العسكرية والإنسانية والسياسية، وفي هذه المرحلة “المفصلية” من الحرب، والتي تنذر بنتائج إنسانية وسياسية أكثر سوء، يأتي للتدخلات الخارجية، والاقليمية والاممية لإيقاف وانهاء الحرب دورا اساسيا. في هذا الصدد تمثل المجهودات الدبلوماسية والحظر الاقتصادي علي الافراد والمكونات المرتبطة باستمرار الحرب، والتي تقوم بها بعض الدول المؤثرة، ضغوطات مهمة. ولكن تظل مواقف قيادات الجيش المعلنة والمبطنة والمتذبذبة عقبة حقيقية أمام مجهودات الجهات الساعية لتفعيل المفاوضات وامام الوصول الي حل دبلوماسي لإيقاف وانهاء الحرب، وذلك رغم التصريح الاخير لوزير الخارجية سلطة الأمر الواقع والمكلف، حسين عوض، في مقابلة مع “العربية/ الحدث” علي “إن السودان لا يمانع عودة مباحثات جدة، وأنه ملتزم بها”.
لتجاوز العقبات التي تم ذكرها، والتي تقف في طريق قبول قادة الجيشين الرسميين المتحاربين بالحل السياسي الدبلوماسي وعودتهم الي طاولة المفاوضات، تحتاج أي عملية دبلوماسية وسياسية لإيقاف وانهاء الحرب الي توحيد لكل المبادرات الوطنية والاممية والاقليمية والدولية في رؤية موحدة وفي منبر واحد، تتكثف خلالها الضغوطات السياسية والاقتصادية والقانونية، مدعومة بفعل رفض شعبي قوي ومنظم للحرب. فقط تحت تلك الشروط، وفي ظل حالة مظاهر لحالة النضوج لإيقاف وأنهاء الحرب، متمثلة في فقد الفريقين للقدر الأكبر من مقدراتهم العسكرية العتادية والبشرية والمادية، يمكن تصعيد الضغط علي الطرفين للدخول في محدثات جادة تحقق انهاء الحرب، وقبول عملية سياسية تفضي الي قيام حكم مدني انتقالي من غير مشاركة قادة الجيشين الرسميين المتحاربين، والي بناء جيش وطني واحد يعمل تحت ائتمار سلطة مدنية.
في الجزء السادس سوف يتم التعرض للتداعيات الانسانية والاقتصادية والانهيار الاقتصادي للحرب كسببات لانفجارات شعبية سياسية عريضة وقوية، كسيناريو وارد لإيقاف وإنهاء الحرب. وفي الجزء السابع والاخير سوف يتم تناول المساعي السياسية الدبلوماسية، المتمثلة في التدخلات الخارجية، والتي تهدف الي الوصول الي وقف إطلاق النار وتوافق الفريقين علي ترتيبات انسانية وبناء ثقة تفضي الي انهاء الحرب.