الليبرالية… حياة ولا شيء آخر
طريقة رائعة لإقامة مجتمع عادل يساعد الناس في العيش معاً في سلام لكن لا يمكنها أن تكون الغرض النهائي للوجود
أحمد شافعي
الليبرالية، وفقاً للموسوعة البريطانية، مذهب سياسي يرى في حماية حرية الفرد وتعزيزها مشكلة السياسة الأساسية. ويؤمن الليبراليون بأن الحكم وإن لزم لحماية الأفراد من أذى الآخرين، فهو نفسه تهديد محتمل لليبرالية”. وتمضي الموسوعة لتفصل موقف الليبرالية من الحكم في المقام الأول، من دون أن تتجاوز ذلك تقريباً.
لكن موسوعة أكثر تخصصاً هي “ستانفورد” للفلسفة تتجاوز في تناولها الليبرالية السياسية إلى الأخلاق والقيم، بل إنها تورد عنواناً فرعياً هو “ميتافيزيقا الليبرالية”. والشائع في تقديري حين نسمع مصطلح “الليبرالية” أن أذهاننا تنصرف أكثر ما تنصرف إلى جانبها السياسي وتجليه الاقتصادي. غير أن الليبرالية أوسع من هذا كثيراً، وهذا ما يؤكده كتاب حديث الصدور للكاتب الكندي ألكسندر لوفيفر أستاذ مشارك في قسم العلاقات الحكومية والدولية وقسم الفلسفة في جامعة سيدني.
صدر الكتاب بعنوان كاشف هو “الليبرالية بوصفها أسلوب حياة” عن مطبعة جامعة “برينستن” في أكثر قليلاً من 300 صفحة. فيه يكتب لوفيفر أن “في القلب من هذا الكتاب سؤالاً عن المصدر الذي نستقي منه قيمنا، واللافت أن كثيراً منا غير مستعدين لإجابته، ففي حين أنه قبل 100 سنة بل حتى قبل 50 سنة فقط ما كان لأحد أن يستعصي عليه الجواب، إذ كان يمكنك أن تسأل أي أحد تقريباً في العالم، من الأثرياء أو الفقراء، الغربيين وغير الغربيين، من أين يستقي قيمه الجوهرية، ليجيبك جواباً صريحاً مباشراً، مشيراً في الغالب إلى دين أو تراث روحي أو إلى أيديولوجيا من قبيل الشيوعية، وقد تحدد حفنة من غريبي الأطوار فلسفة ما أو فيلسوفاً. أما اليوم فيختلف الوضع، وذلك في المقام الرئيس بسبب تراجع الدين إيماناً وعملاً. ولئن نظرنا فقط إلى البلاد الديمقراطية الأنغلوفونية الأكثر سكاناً لرأينا الدراسات المسحية الحديثة للولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا تبين أن 30 و53 و32 و40 و49 في المئة على الترتيب من مواطني هذه البلاد لا يتبعون ديناً”.
ويضيف أن “هذا الكتاب موجه أساساً، وإن لم يكن حصراً، لمن لا يتبعون ديناً. فإذا كنت من هؤلاء فإنني أطرح عليك سؤالاً تفكر فيه. ضع الكتاب جانباً للحظة يا قارئي العزيز واسأل نفسك: من أين أستقي قيمي؟ ولا أتكلم هنا عن المبادئ الرفيعة عن الصواب والخطأ، بل عن إحساسك بما هو خير وطبيعي وذو قيمة في الحياة”.
احتفاء بالفضائل العادية
يراهن لوفيفر على أن أحداً من قرائه لن يجد إجابة جيدة أو جاهزة في متناوله. “وأقول هذا بثقة لأنني كلما أزعجت بهذا السؤال طلبتي وأصدقائي وزملائي، كانوا دائماً يحارون ثم لا يجدون إلا إجابة من ثلاث: (من تجربتي)، و(من أصدقائي وأهلي)، و(من الطبيعة البشرية)”. وكان يعقب على ذلك بقوله “إن هذه الإجابات غير مناسبة. لأن التجربة الشخصية، والأصدقاء والأهل، والطبيعة البشرية، تقع جميعاً وتتشكل ضمن سياقات اجتماعية وسياسية وثقافية أكبر. فأسأل من جديد: ما الشيء الذي له ضخامة المجتمع أو الحضارة وتشير إليه بوصفه مصدراً لقيمك؟ وإنني أتكلم عن شيء من قبيل ما كنتم أيها المسيحيون لتشيروا إليه قائلين (آه، الإنجيل) أو (آه، كنيستي)”.
يقول لوفيفر إن الحوار في هذه المرحلة كان يتوقف، إذ يخشى أن يظن من يحدثهم أن فيهم خطباً ما، أو أن الكاتب يعتبرهم مفتقرين إلى بوصلة أخلاقية أو روحية، والأمر في رأي الكاتب أبعد ما يكون عن ذلك، “فلا ينبغي أن يكون المرء سقراط ليدرك أن هذا سؤال مشكل، وأنه ليس جميع الناس على دراية بمصادر قيمهم وهوياتهم”. ثم يقول، “أعتقد أن أغلب قرائي ينبغي أن يعدوا الليبرالية مصدر قيمهم، لا آراءهم السياسية فقط، وإنما مصدر هوياتهم. فالليبرالية، ولأستعد عبارتي السابقة، هي ذلك الشيء الضخم ضخامة المجتمع أو الحضارة الكامن وراء هويتك (وهويتي، وهويتنا) في شتى مناحي الحياة، من الأسرة إلى مكان العمل إلى الصداقة والعداوة إلى المزاح والغضب”.
يكتب جي جون إيكنبيري مستعرضاً الكتاب [“فورين أفيرز”، مايو (أيار) – يونيو (حزيران) 2024] أن “الليبرالية بوصفها أسلوب حياة” كتاب دفاع حماسي عن الليبرالية، واحتفاء بالفضائل العادية في الحياة اليومية داخل مجتمع حر مفتوح. “إن أغلب الناس يعرفون الليبرالية بمؤسساتها الجوهرية، من قبيل حقوق الإنسان، وسيادة القانون، والفصل بين السلطات، والانتخابات الحرة، والأسواق المفتوحة. أما لوفيفر فيذهب إلى أن ملمحاً أهم (ولكنه كثيراً ما يغفل) من ملامح الليبرالية هو رؤيتها للعالم ونظامها القيمي: أي الأسس المجتمعية التي تقدس التنوع والتسامح والتعددية الثقافية. فأفكار العدل والمساواة والاحترام والانفتاح على طرق التفكير الجديدة راسخة في الثقافة السياسية لليبرالية. والكاتب يطرح حجته عبر نوادر وقصص تبين نطاقاً عريضاً من السبل تتجلى عبرها الليبرالية في الحياة اليومية. مشيراً إلى أمور من قبيل سخرية الممثلين الكوميديين من سياسات الهوية، والروايات التي تريح ديناميات سلطة الجندر أو الطبقة، والقواعد السلوكية لعلاقات مكان العمل. ويجسد الكتاب على نحو مثير فكرة الفيلسوف جوز رولز عن المجتمع بوصفه نظاماً عادلاً للتعاون، وهي حساسية ينبغي الاحتفاء بها وتنميتها وتبنيها بوصفها رؤية أخلاقية للحياة اليومية”.
وضع ديفيد بروكس الكتاب في سياق آخر، إذ استهل مقالته عنه [“نيويورك تايمز”، الـ16 من مايو 2024] بقوله إن “الصراع الأساسي الذي يشهده العالم الآن هو الصراع بين الليبرالية والاستبدادية، بين من يؤمنون منا بالقيم الديمقراطية ومن لا يؤمنون بها، سواء كانوا شعبويين أشباه طغاة مثل دونالد ترمب وفكتور أوربان وناريندرا مودي ورجب طيب إردوغان، أو هم طغاة صرحاء من أمثال فلاديمير بوتين وشي جيبينغ، أو فاشيين دينيين مثل الرجال الذين يديرون إيران وحماس. ويجدر بنا نحن الليبراليين أن نسحق أولئك الرجال سحقاً، لكننا لا نفعل. فترمب يتقدم في الولايات المتأرجحة. ومودي يبدو قريباً من إعادة الانتخاب. وفي روسيا وإيران تتبدى علامات القوة”.
حرب ضد الطغيان
هكذا ينتقل كتاب ألكسندر لوفيفر على يد بروكس، كاتب الرأي المخضرم في الـ”تايمز”، من كونه أغنية في حب الليبرالية، ليصبح بوقاً ونفيراً في حرب الليبرالية ضد الطغيان، إن قبلنا تصوير ديفيد بروكس لواقع العالم اليوم.
ويمضي بروكس فيقول إن الليبرالية تطورت على مدى القرنين الماضيين بوصفها نظاماً يحترم الكرامة الإنسانية ويحتفي بحرية الاختيار الفردية. “فبموجب الليبرالية الديمقراطية، لا نصدر أحكاماً على الطريقة التي تحددون بها الغرض من حياتكم، ولكن كل ما نرجوه هو أن نقيم أنظمة تعاون عادلة تستطيعون في ظلها أن تسعوا أحراراً إلى الأغراض التي تختارونها بحرية، مهما تكن هذه الأغراض. فالليبرالية تنزع إلى اللامبالاة بأغراض الحياة، مستعيضة عن ذلك بالتركيز على العمليات والسبل، من قبيل سيادة القانون، والفصل بين السلطات، وحرية التعبير، والمراجعة القضائية، والانتخابات الحرة، والنظام الدولي القائم على القواعد”.
يكتب بروكس أن “لوفيفر يذهب في كتابه الجديد الكاشف المؤثر إلى أن الليبرالية ليست محض قواعد محايدة تتيح لأشتات البشر أن يعيشوا معاً، ولكنها أصبحت روحاً أخلاقية وفلسفة هادية في الحياة. وفي حين أن أنظمة أخلاقية أخرى، من قبيل الدين، وهنت في حياة كثير من الناس، إذ توسعت الليبرالية لتملأ هذا الفراغ الروحي”.
“يحترم الليبراليون حق الأفراد في رؤية أنفسهم باحترام ذاتي، فباتت الافتراءات العنصرية هي التجديف عندنا لأنها عدوان على هذا الإحساس باحترام الذات. وتنزع الأخلاق الليبرالية إلى أن تكون أفقية، فالليبراليون الخلص لا يرفعون أعينهم اتقاء لإله حي وإنما يتلفتون حولهم محاولين أن يكونوا طيبين مهذبين تجاه إخوانهم البشر”.
قد يغضب الطغاة والاستبداديون من مصادرة الليبراليين للحرية، وقد لا يبالون أصلاً منشغلين عن هذا بضم مزيد من الأراضي وبسط نفوذهم الاقتصادي والسياسي على مساحات أخرى شاسعة من الكوكب، أما المتدينون فحتماً سيغضبون للدين، ويرون في مصادرة الطيبة والتهذيب وحسن معاملة الآخرين بضاعتهم وقد سلبت منهم، فهذه دعوة كل دين، لأنه ما من دين تقريباً رضي بأن ينشغل أتباعه عن النظر إلى السماء بالتلفت في الأرض. غير أن نسب تراجع المتدينين التي أوردها الكاتب في صدر كتابه تؤكد أن ما يذهب إليه بروكس حقيقة، أو لنقل – تنزيهاً للحقيقة – إنه أمر واقع، في بعض بلاد العالم في الأقل.
قيمة الرضا الفردي
يكتب بروكس أن “الليبراليين الخلص يعلون من قيمة الرضا الفردي، فأي نوع من الترتيبات الجنسية أو العائلية مقبول ما دام الجميع متفقين عليه. وفي مرحلة ما يعرض لوفيفر عرضاً لطيفاً وعابراً جميع السمات التي تجعلنا نحن الليبراليين قوماً لطفاء المعشر. فنحن نحترم الاستقلالية والفضاء الشخصي، ونمقت النفاق والغطرسة، ونكدح من أجل تحقيق التسامح عملاً بمبدأ (عش ودع غيرك يعيش)”.
غير أن بروكس، شأن لوفيفر، لا يغفل عن قصور الليبرالية فيقول، “أعترف أنني أنهيت الكتاب ولم أزدد فقط تقديراً لنقاط قوة الليبرالية، ولكن أنهيته وبت أيضاً أكثر وعياً بالسبب الذي يجعل كثيراً من الناس حولي يرفضون الليبرالية، وبالسبب الذي يجعل الاستبدادية تتقدم”.
“قد يبدو أن في المجتمعات الليبرالية بعض الفتور والافتقار إلى الإلهام. فالليبرالية تميل إلى اجتناب الميتافيزيقا، وتتحاشى الأسئلة من قبيل: لماذا نحن هنا؟ ومن الذي صنع الكون؟ وتغذي فضائل البرجوازية الرقيقة من قبيل الطيبة واللياقة، ولكنها لا تغذي – بعد إذن ألكسندر لوفيفر – الشجاعة والولاء والتقوى والحب القائم على التضحية بالذات. ولا يخلو المجتمع الليبرالي من وحشة. فبالتركيز الشديد على الخيار الفردي توهن الليبرالية الروابط الاجتماعية. وفي الأخلاقيات الليبرالية الخالصة يكمن سؤال وراء كل علاقة: هل في هذا الشخص نفع لي؟ فتصبح كل رابطة اجتماعية رابطة موقتة وعارضة. بل إن علاقتك بنفسك ذاتها قد لا تنجو من ذلك: فما أنا غير مورد أستثمره وصولاً إلى نتائج مرغوبة”.
“والمجتمعات حينما تصبح ليبرالية تماماً، تهمل حقيقة جوهرية هي أنه من أجل أن تزدهر فإنها بحاجة إلى الاعتماد على مؤسسات تسبق الاختيار الفردي من قبيل الأسرة والدين والتعلق بمكان مقدس، فالناس لا يتشكلون بقوة المؤسسات التي يرتبطون بها ارتباطاً واهياً. إنما تتشكل أرواحهم وشخصياتهم داخل الروابط الأولية بأسرة معينة، وثقافة أخلاقية محددة، وقطعة من الأرض لها تاريخ طويل لدى (قومي)، وطاعة معينة لـ(إله أسلافي)”.
ولا يجري اختيار هذه الارتباطات الجوهرية في العادة اختياراً فردياً، ولكنها تنضفر منذ الميلاد في نسيج كيان البشر، في تقاليدهم وثقافتهم وإحساسهم بشخصياتهم.
الإيمان والأرض والعَلَم
يكتب ديفيد بروكس أن “نقطة القوة لدى المستبدين من معارضي المبادئ الليبرالية، من ترمب إلى جيبينغ إلى ’حماس‘، هي أنهم يلعبون مباشرة في المصادر البدائية للمعنى، وهي مصادر أعمق من التفضيل الفردي، وتتمثل في الإيمان والأسرة والأرض والعلم. يقول المستبدون لجماهيرهم إن الليبراليين يريدون أن يسلبوهم كل ما هو متماسك من أخلاق ونوع جنسي، ويختزلونه في النزوة الشخصية المضطربة. وهم يقولون لحشودهم إن الليبراليين يهددون ولاءاتهم العتيقة. ويقولون إن علينا أن ننتهك القواعد لكي ندافع عن هذه الروابط المقدسة، ونحتاج إلى رجل قوي يدافع عنا ويدفع هذه الفوضى الاجتماعية والأخلاقية”.
“وثبت أن هذه حجج قوية. فقد تبين لاستطلاع رأي أجرته أخيراً (رويترز) و(إيبسوس) أن 52 في المئة من الجمهوريين يعتقدون أن أميركا بحاجة إلى رئيس قوي يتاح له أن يحكم دونما تدخل كبير للغاية من المحاكم والكونغرس. ولعلنا نعيش سنة يحصل فيها المستبدون على السلطة في بلاد بأوروبا وأميركا اللاتينية والولايات المتحدة، في حين يواصل بوتين التقدم في أوكرانيا وتنجو حماس من حرب غزة. وباختصار، لا يزال الزخم في جانب المستبدين”.
والأدهى في ما يرى بروكس هو أن الليبرالية تؤدي إلى رد فعل مضاد لها في مجتمعاتنا. إذ يجد كثير من الناس أنهم جياع روحياً، يشعرون أنهم عرايا محصورون مستوحشون. فيتعلقون بسياسات راجين منها أن تملأ ذلك الفراغ الأخلاقي والروحي، ويتعلقون بها لتمنحهم إحساساً بالانتماء والمعنى الأخلاقي والهدف، وكل ما كان يمنحه الإيمان والأسرة والأرض والعلم لأسلافهم. وهم بهذا يغيرون طبيعة السياسة ويريدون منها ما ليست إياه، فهي محض نهج عادي للتعامل مع الاختلافات، وليست الحرب المقدسة التي يريدون منها أن تحمي موقفهم الأخلاقي وتدمر الموقف غير الأخلاقي في نظرهم. “وهكذا تبدأ السياسة في القيام بدور شمولي في حياتهم الشخصية وفي حياتنا الوطنية”.
يخلص بروكس إلى أن نجاة الليبرالية يكمن في اعترافها بما يستشعره الناس من نقص وفقر في حياتهم، وبعجزها عن تعويض ذلك، ويقول إن “الليبرالية طريقة رائعة لإقامة مجتمع عادل يساعد أشتات الناس في الحياة معاً في سلام. لكن لا يمكنها أن تكون الغرض النهائي في الحياة. فعلينا أن نكون ليبراليين في الفضاء العام، وأن نتبنى في عمق وجودنا ولاءات، فنكون كاثوليكيين أو يهوداً أو أو رواقيين أو مناصرين للبيئة أو ماركسيين أو منتمين إلى أية عقيدة مقدسة ووجودية أخرى. فالناس بحاجة إلى الشعور بأنهم مرتبطون بنظام أسمى، والقواعد اللطيفة لا تشبع هذا التوق”.
العنوان: Liberalism as a Way of Life
تأليف: Alexandre Lefebvre
النار: Princeton University Press