السودان.. من يدفع فاتورة صراع الجنرالات؟
*د. سعيد الشهابي
في مثل هذه الأيام من العام الماضي اندلعت الأزمة الحالية التي تعصف بالسودان، ذلك البلد العربي المسلم الذي مزقته الخلافات الداخلية بدعم خارجي ماضيا وحاضرا.
تتمثل الأزمة الحالية بصراع مسلّح في شوارع الخرطوم بين طرفين: الجيش الذي يمثل السلطة وعلى رأسها عبد الفتاح البٍرهان الذي كان قد انقلب في أكتوبر 2021 على الحكومة المدنية الانتقالية، ومجموعة الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دجالو (حميدتي). واندلعت الحرب بعد خلاف بين الجيش وقوات الدعم السريع بشأن خطة للانتقال السياسي. أحدث ذلك النزاع كوارث إنسانية كبيرة للمواطنين، فقد نزح أكثر من ثمانية ملايين ويواجه 18 مليونا مجاعة غير مسبوقة. لذلك تغيّر طعم رمضان لدى السودانيين هذا العام، فغابت الموائد الرمضانية الواسعة واقتصرت على القليل منها في أغلب المناطق. وقد كان لهذه الموائد موقع عميق في نفوس أهل السودان، ولكن ضغوط الوضع السياسي وما أحدثه من أزمات حياتية قلّل من وهج الشهر الكريم بعد عام من الأزمة الحادة التي تفرض نفسها بين طرفين بدون أن يلوح في الأفق ما يشير لاحتمال انتهائها قريبا. وبرغم ما يقال عن احتمال عودة التفاوض بين الطرفين بعد شهر رمضان، إلا أن تشبثهما بمواقفهما لا يسمح بالتفاؤل بالتوصل إلى حل قريب، خصوصا مع انتشار السلاح على نطاق واسع. وقد عقدت جولات سابقة من المفاوضات بدون جدوى، لعدم توفر نوايا الحل، وهذا ما يحدث عادة عندما يكون الأمر بأيدي «أمراء الحرب».
وهكذا يظهر أن السودان يدفع فاتورة أهميته السياسية والاقتصادية. وبرغم أن الصراع هذه المرة يبدو داخليا، إلا أن هناك من المؤشرات ما يفيد بوجود أيد خارجية تسعى لمنع البلد من الاستقرار. ولا يستبعد أن تكون هناك أهداف أخرى من وراء الصراع في البلد الذي خضع للتقسيم وخسر ثلث أراضيه قبل أقل من ثلاثة عشر عاما، عندما انفصل جنوب السودان عن شماله وأقام دولة مستقلة. وبرغم شعور قادة تلك الدولة بعدم جدوى الانفصال، وتفكير بعضهم لإنهاء تلك التجربة، إلا أن شبح انفصال أطراف أخرى ما يزال ماثلا، يهدد ما بقي من دولة السودان كما عرفت منذ الاستقلال في العام 1956. وغريب جدا استمرار نزعة التقسيم برغم ما رشح عن سلبياتها. ففي الأسبوع الماضي أعلنت «قوات الدعم السريع» تشكيل إدارة مدنية لولاية الجزيرة في وسط السودان، وإنشاء «مجلس التأسيس المدني» الذي يضم 31 عضواً. وأعلن رئيس المجلس صدّيق أحمد في مؤتمر صحافي عن تعهّد المجلس بـ «وضع الأسس المتينة للحكم الفيدرالي». وفي ذلك إشارة الى خطوة التقسيم التي كثر الحديث عنها. وكان السودان قد تفادى تقسيما آخر قبل بضعة أعوام في إثر اندلاع أزمة دارفور، وساهمت وساطات عربية وإسلامية في منع انفصل الإقليم. ولكن التدخلات الخارجية ما تزال تعمل من أجل ذلك الهدف. وبموازاة ذلك خاطب عبد الفتاح البرهان الجنود في قاعدة سلاح المهندسين بأم درمان مساء الثلاثاء الماضي قائلا: «رسالتنا لمتمردي الدعم السريع أن القوات المسلحة والأجهزة النظامية العسكرية ستلاحقكم في كل مكان، وكذلك المواطنين حتى يتحقق النصر الكامل».
أحدث ذلك النزاع كوارث إنسانية كبيرة للمواطنين، فقد نزح أكثر من ثمانية ملايين ويواجه 18 مليونا مجاعة غير مسبوقة
كان للبعد الإسرائيلي دوره في التقسيم الأول في يوليو 2011، فقد دعمت تل أبيب ما كان يسمى جيش التحرير الشعبي بقيادة جون قرنق، الذي تأسس في العام 1983 واستمر في الحرب حتى الانفصال. يومها كان الدور الإسرائيلي واضحا. وقد زار مسؤولون إسرائيليون إقليم الجنوب مرات عديدة، وعقدوا لقاءات مع قادة الانفصال، ووفروا لهم دعما عسكريا غير قليل. هذه المرة تراهن تل أبيب على استمرار الحكم العسكري في ذلك البلد. وتعلم «إسرائيل» أن الحكم الديمقراطي في أي بلد عربي سيحول دون تطبيع العلاقات مع محتلي فلسطين. كما يعلم أن غالبية الشعب السوداني ترفض التطبيع مع الاحتلال، وأن الحكم العسكري هو الذي اتخذ قرار إقامة العلاقات مع «إسرائيل». جاء قرار التواصل مع الاحتلال بعد اللقاء الذي ضم رئيس الدولة الجنرال عبد الفتاح البرهان مع بنيامين نتنياهو في العاصمة الأوغندية، وذلك في فبراير (شباط) 2020. وكان لدولة الإمارات العربية دور في عقد ذلك اللقاء. وكانت تلك الخطوة مقدّمة لكل من الإمارات والبحرين للتطبيع مع «إسرائيل» بعد بضعة شهور من العام نفسه. ولا يعني تل أبيب مَن الذي سيفوز في الصراع المسلح الذي يدفع الشعب السوداني ثمنا باهظا لاستمراره، فكلا الزعيمين سيستمران في تلك العلاقة، ولكنه سيكون قلقا جدا فيما لو قام نظام مدني ديمقراطي يكون للشعب دوره في انتخاب حكومته وتنتهي بذلك سيطرة العسكر على الحكم. فأي نظام ديمقراطي سيكون خاضعا للمزاج الشعبي في بلد «اللاءات الثلاث» الذي ما برح شعبه ملتزما بالقضايا العربية والإسلامية.
مع استمرار المواجهات العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع، يستمر الشعب في معاناته. وستكمل تلك المواجهات عاما كاملا في منتصف أبريل، عندما اندلعت نتيجة لتوترات طويلة الأمد على مدار أربع سنوات من تقاسم السلطة. ووضعت الحرب سمعة السودانيين المعروفين بالكرم وكرم الضيافة أمام اختبار صعب، إذ غابت الأجواء الرمضانية المعتادة عن شوارع العاصمة. ولا تنحصر المعاناة على سكان الخرطوم، بل تصاعدت في أوساط النازحين إلى مناطق أخرى. وفي الأيام الأخيرة نظم مئات النازحين بمنطقة ود السنوسي التابعة لولاية القضارف شرقي السودان احتجاجات على انعدام الطعام ومياه الشرب لأكثر من 10 أيام. ويعيش معظمهم في ظل أوضاع قاسية بعد أن فقدوا أعمالهم ووظائفهم بينما تتضاءل الاستجابة الإنسانية لاحتياجاتهم الملحّة. ونقلت صحيفة «سودان تربيون» عن نازحين القول: «إنهم يفترشون الأرض في مراكز إيواء منطقة ود السنوسي ولم يحصلوا على الغذاء، مما أدى إلى ظهور حالات سوء التغذية وسط النازحين خاصة الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات».
ربما يمكن استيعاب دوافع الجنوبيين المسيحيين للتحرك قبل أربعين عاما مطالبين بالانفصال، لأسباب دينية أو عرقية. ولكن ما الذي يدفع الجنرالات المتحاربين للتضحية بالسودان بهذه الحرب الدموية التي لن يكسب فيها أي منهما إلا بقدر ما يخسر السودان؟ لماذا تُقدّم الأطماع الشخصية على المصالح العامة؟ ولماذا تُنتهك قداسة الشهر الكريم بإراقة الدماء وإيذاء الصائمين وتدمير البلاد؟ فالمتحاربون اليوم كانوا حلفاء الأمس، فلماذا يُسمح لجهات من خارج البلاد بتهديد أمنه وإلحاق الضرر بأهله وإضعاف موقعه التاريخي الذي جعله مصدرا لفخر أهله وحلفائه من العرب والمسلمين؟ السودان كان رمزا للحرّيّة منذ أن نال استقلاله، وناضل أهله للحفاظ على ذلك الاستقلال وإعادة بنائه بما يجعله قادرا على الوقوف شامخا. هذه الأمة في حاجة لقادة كبار يتحمّلون هذه المهمة ويجعلونها أولوية لديهم، كشرط ضروري لتحقيق وحدة الأمة ومنع انزلاقها نحو التفكك والتمزق والضعف.
لقد عانى السودان خلال الثمانينيات وتحديداً في عامي 1984 و1985 واحدة من أسوأ المجاعات في العالم. تلك المجاعة نجمت عن مزيج من الحرب الأهلية والجفاف، ونتجت عنها خسائر بشرية كبيرة. ويُقدر حجم الخسائر بوفاة نحو ثمانية ملايين وأربع مائة ألف شخص، كما تأثرت الثروة الحيوانية في ولايات دارفور وكردفان وشرق السودان. وبعد معاناته مع المجاعة والجفاف ونضوب الموارد، فتح الله عليه باب النفط وتوسعت إنتاجاته الزراعية وأصبح مكتفيا في بعضها. هذا البلد الذي يُفترض أن يكون بوابة العرب والمسلمين للقارة الأفريقية المترامية الأطراف والغنية بالثروات، كيف تتضافر جهود بعض أهله لإبعاده عن ذلك الموقع؟ هذا البلد الذي أنتج المفكرين والسياسيين مثل الدكتور حسن الترابي والصادق المهدي اللذين مارسا دورا إيجابيا لتوعية أجيال الأمة المعاصرين، وساهما في بلورة هويتها الثقافية والسياسية، والأدباء مثل الطّيّب صالح وعبد الله الطيب المجذوب ومحمد الفيتوري والتيجاني يوسف بشير ومحمد أحمد محجوب والكثيرين غيرهم، كيف يسمح المتحاربون لأنفسهم بدفعه نحو الجفاف الفكري والأخلاقي بالانخراط في حروب عبثية أساسها الصراع الشخصي على المصالح والمواقع السياسية؟
كاتب بحريني