
الرئيسية ثقافة سرد أفكار تحت تأثير الحُمى بعيداً عن المنزل “ما يجعلُ الأيام ثقيلة والأفكار ضبابية وباردة أو عندما يختلطُ الهذيان والملل داخل عقلي”
أفكار تحت تأثير الحُمى بعيداً عن المنزل “ما يجعلُ الأيام ثقيلة والأفكار ضبابية وباردة أو عندما يختلطُ الهذيان والملل داخل عقلي”
يسرا حمزة
للمرة الثانية أُصابُ بالحُمى في هذه المدينة، والهذيانُ هنا ليس كهذيان الخرطوم، أغمضُ عيناي وأرى نهراً أسوداً يتحركُ ببطءٍ نحوي، ويصيبني دوار رأس قبل أن يلمسني الماء، وأرى ما يشبهُ السماء ولكنها ليست السماء كما أعرفها، تبدو كنسيجٍ رمادي وسائل، وأرى كائنات كالظلال ولا تُصدرُ أي صوت، هذياني هادئٌ وغريب، اليوم شهدتُ جانباً مظلماً من “قمر”، كانت تتوعد بالشر وتقسمُ بأنها لن تترك أحدهم يتلاعبُ بها، وقالت لأمها المُقعدة “رأسي يدورُ بشدة، وسأموت”، كذَبت عندما قالت أنها لم تتناول الطعام منذُ أربعةِ أيام، قبل ساعات رأيتها تحملُ أكياس قُمامة بها عُلب تونة ومياهٍ غازية فارغة تكفي لأكثر من شخصين، ولكن لا أحد يأخذُ ما تقولُ على محملِ الجد، الأن تتحدثُ “قمر” مع أمها بصوتٍ مرتفع عن أخبارِ الحرب في الخرطوم وكيف أن حياتهم أصبحت تعيسة، وكيف أن الحياةَ بلا وجودِ الأب لا قيمةَ ولا معنى لها، رغم أن والدها تُوفىَ قبل 33 عاماً، لكنَ عقلها ليس بخير، ولا يهمني من أمرها شئ، الان انا مرهقة واحتاجُ للنوم، الألتهاب يجعلني مُتعبة ولا أفكرُ بشكلٍ طبيعي.
يد واحدة لا تكفي لحملِ وعاء الحليب، ويدٌ واحدة لا تكفي لنجومِ السماء، أتذكرُ وعداً/أُمنية وعدتكَ بها قبل سنوات، قلتُ لكَ لو سقطت بيدي نجمة من السماء سأُعطيكَ نصفها ثُمَ تراجعتُ عن وعدي قبل وقتٍ طويل، الان أعيدُ خياطةَ هذا الوعد من جديد، ولماذا؟ لأنني ممتلئةٌ بالفضول، ولأنكَ تستحقُ شيئاً مستحيلاً وجميلاً كنجمة.
أفكرُ بالنهر، وبقطة البيت “شبشة” التي خدشتني في قدمي ليلةَ أمس لأنني طاردتُ قطتها الصغيرة ووبختها، وأفكرُ ببيتنا وهل ما زال صامداً بعد أن نهبهُ الجنود قبل شهور؟ وأي أقدامٍ وأيادٍ ووجوه أختلستْ النظر دون دعوةٍ من أحد؟ هل ما زالت غرفتي كما تركتها يوم خرجنا مرتعبين من القذائف التي سقطت على بُعدِ شارعين من بيتنا؟ هل كتبي واوراقي ولوحاتي وألواني وملابسي في أماكنها كما وضعتها؟ هل سنعودُ يوماً؟ وإن عُدنا هل سنستعيدُ طمأنينة ما قبل الحرب؟.
كمنْ يستلقيِ على عُشبٍ جاف وينغرزُ عميقاً داخل جسده، ولا يستطيعُ الحركة، ويفكرُ متى سيهطلُ المطر؟ أتذكرُ فيلم “منخوليا” ونهايةَ العالم وكوكب الأرض والبشر، وكيف أن المرأة بدت سعيدة في بداية الفيلم ولمَا رأت نجمةً غريبة في السماء تحولتْ كل مشاعرها الى الكآبة، وعندما تناولت الطعام قالت لأُختها “أن طعمه يشبهُ الرماد” وبكتْ كثيراً، وفي النهاية تقبلت فكرة النهاية والموت وابتسمت، ولم تنتحر كما فعلت أختها وزوجها، فضلت المواجهة بكل ألمها.
قراءة مُقدمة “عالم الأمس” لستيفان زيفايغ جعلتني أشعرُ بالخجلِ من حالة القلق والحُزن التي أمرُ بها، فقد شهِد أكثر من حرب ودُمرَ منزله ثلاث مرات على الاقل، وقال أنه كتبَ سيرتهُ هذهِ في غرفةِ فندق في بلدٍ اجنبي وليس معه اي شئ من كتبه او مدوناته او رسائل اصدقائه وانه يعتمدُ على ذاكرته وحسب، وأنه ليس حزيناً على ما فقد، وأن ذاكرة الإنسان مُصممة بحيثُ تتذكر ما يجب تذكره ونسيان ما يجب نسيانه، فليس هنالك من داعٍ للتحسر.