‫الرئيسية‬ ثقافة أحمد الحاج على شاعر جسده تحت الثرى، واسمه فوق الثريا
ثقافة - 18 نوفمبر 2023, 23:58

أحمد الحاج على شاعر جسده تحت الثرى، واسمه فوق الثريا

صلاح التوم

رحل عن دنيانا الفانية وترك وراءه جرحا عميقا في قلوب محبيه داخل وخارج مدينة كسلا “أرض الحبايب” . الشاعر أحمد الحاج على محمد من مواليد مدينة كسلا “الميرغنية جنوب” ١٩٤٧م ، درس مراحله الأولية في كسلا الأهلية وتخرج في المعهد العلمي بكسلا، له العديد من الدواوين والاصدارات أهمها وأشهرها على الإطلاق ديوان أرض الحبايب وقضارف الخير والبانة ،الشرف والأمانة، وأخرى تحت الطبع، لحن عدد من الأغنيات لكجراي وجرتلي وعبد العزيز إسماعيل ، وهو هلالابي بالميلاد ، دائما ما يقول “بالهلال أصوم وعليه أفطر في كل مدن بلادي” وكان دائم القراءة والمطالعة لأمهات الكتب، قرأت له مرة لقاء عبر صحيفة الصيحة أجراه معه الإعلامي “أشرف” ابن كسلا، يقول فيه:
قراءتي لرواية “ماجدولين” أحدث نقطة تحوُّل في حياتي وأخذتني لعالم الإبداع الرحيب، والغروب هو من أفضل أوقاته، فهو موعد جلوسه على ضفاف القاش للتأمُّل والخلو بالنفس لرسم ملامح الغد الواعد…
آخر ما جادت به قريحته الشعرية قصيدة “آن الأوان” التي سلمها الفنان الدكتور عبد القادر سالم .
#رواية ماجدولين رواية من قبل مصطفى لطفى المنفلوطي.

* كان شاعرنا -رحمه الله- عضوا فاعلا في اتحاد الأدباء والكتاب بولاية كسلا، وقد كان رئيسا للجنة تنقيح ديوان “جنة الإشراق” الذي أعده اتحاد الأدباء والكتاب كسلا ، وكان أعضاء اللجنة:
الدكتور ميرغني حمد ميرغني، والدكتور كمال شرف، وأستاذ الأجيال حمد النيل . وقدم حلقات عديدة بإذاعة وتلفزيون كسلا، أشهرها اللقاء الذي اجراه معه الدكتور ميرغني حمد العام ٢٠٠٩م ففيه نثر مكنونات من الدرر .

*رحمه الله رحمة واسعة
فارق أرض القاش وروح خلى أرض القاش حزينة….
فقد كان شاعر مرهف عشق كسلا وجمالها، وتغني لها بالعديد من القصائد الموشحة بأحلى العبارات وأعطرها، وأشهرها أغنيته ذائعُة الصِّيت واسعة الانتشار “أرض الحبايب” فالعلاقة بينه وبين كسلا علاقة الروح من الجسد، علاقة حب كبيرة امتدت من المهد إلى اللحد:

أرض الحبايب يا أرض المحنه
في واديك ولدنا و ضقنا حنان أهلنا
سكانك أطايب عامرين بالأماني
فرحانين تملي في نشوة و أغاني
عايشين في حبور و انا ريدم حواني
كان ما فيك ولدت كان الهم غواني

*الشاعر أحمد الحاج على أفرد لمدينة كسلا “مسقط رأسه” مساحات شاسعة في أغنياته الرائعة، وله العديد من روائع الشعر عن كسلا وناسها وجمالها وقاشها وكل ما هو جميل فيها ، فكسلا منذ القدم ملهمة الشعراء والفنانين لطبيعتها الخلابة وناسها الطيبين، فمنحها شاعرنا الراحل كل ما تستحقه، فصاغ في حضرتها أجمل الدرر ، بمفردات تجسد روعة المشهد:

كسلا جميلة ما في شبيها
جبال التاكا منارة عليها
أفارقها كيف أقول ما بيها
أنا فيها ومشتاق ليها
فيها القاش والخضرة الزاهية
جناين فيها ظلال مترامية

*ومن الدرر التى على فرادة في جمال الأسلوب قصيدته “كسلا الطبيعة” التي تجلت فيها قدرته الإبداعية :

البي أريجا معطنة
رافلة في ثوب الهنا
أرض الحبايب أمنا
الشمس تشرق من هنا
لو جيت تزور أرض الهنا
كسلا الطبيعة الآمنة
تنسى الهموم تنسى العنا ترتاح كأنك مننا
كسلا الرجال المؤمنة حارسين حماها بدون ونى
جبالا شاهقة وفاتنة
عبر القرون والأزمنة

وقد اتخذت هيأة إذاعة وتلفزيون كسلا شعارها ،”الشمس تشرق من هنا” من هذه الرائعة المدمخة بأريج الحسن والجمال .. كما أصبح نشيده “أنا المكفوف وقلبي بشوف” الذي ترجم لست لغات، الشعار العالمي المعروف للمكفوفين؛ فهو موهوب ، يستطيع أن يطوع المفردة لتستوعب القالب الذي يناسبها.

* إنه الشاعر الفذ الولهان بحب معشوقته الأبدية أرض الحبايب:

كسلا جميلة ما في شبيها جبال التاكا منارة عليها
فيها الناس عامرين بالطيبه طيبة أصيلة لدرجة عجيبه

*وتتدفق شلالات الحب والعشق لأرض الحبايب:

من قمت صغير وخطاي تتعثر شداني إليها جمال المنظر
قمم مكرام واللون الأخضر وداد الناس وطيب المعشر
عبق تاجوج والحب الأكبر آسرني هواك مكتوب ومقدر

أي عشق وأي هوى هذا الذي نراه !

وإن قلت: إن الراحل المقيم أحمد الحاج على سبق معظم شعرائنا الأفذاذ أمثال الحلنقي وهلاوي وغيرهما في التغني بكسلا وجمالها ، ربما أكون صادقا حسب معرفتي المتواضعة!!

* سلك شاعرنا -رحمة الله عليه – مهنة الأدب والقلم ، المهنة المقدّسة التى تنير العقول، وتؤجّج الهمم، وتداعب المشاعر والأحاسيس وتهزّ أركان الظلم وتيجان الطغيان ، وتفتح العيون على الحقّ والعدالة والمساواة والجمال ومحبّة الخالق، وتدعو إلى النزعة الإنسانية النبيلة . فدواوينه الشعرية عقد من درر فحري بها أن يعقد لها لواء الكلمة الحلوة العذبة المشحونة بالإنسانية الصادقة النبيلة ، فهي ثمرة طيبة لجهد مخلص أمين، فقد جاءت دواوينه تحمل كل فنون الأدب وأغراضه الشعرية، من مدح ووصف ورثاء وغزل وهجاء …إلخ

*ففي النسيب والغزل العفيف حدث ولا حرج :

خطواتي في دربك مشن
ما قدرت ريدتي أقاوما
لي شعري ألحاني وغناي
مكتوب تكوني الملهمة

ويتدفق شلال الأغنيات عذبا سلسبيلا :
يا غنوة جاية من الشمال أهل الغناوي المتقنة
حتى الحروف هيمانة بيك
أمرتني أكتب فيك غنا

*وفي رائعته “كلمة شرف” باح عن مكنونات العشق و الحزن معا :
صدقنى ما بعرف خداع أنا ليك بقول كلمة شرف
من يوم عرفتك عقلى تاه
وتر الحنين في الحال عزف
ضيعت من عمري السنين
أبحث عليك بين البشر
لامن لقيتك يا ملاك
بين الحسان حسنك ندر
في حسنك الباهي النضير
من روعتك تاه البصر
…..
*وفي ” أصل الحكاية” غرس شتلة الريد في أعماقه، واستمد معانيها بما فيها من عطاء الشعور وأثر الحس والخيال:
جوه في الأعماق غرست
شتلة الريد يا منايا
وبرضو عايز أحكي ليك
قصة الأشواق جوايا
إلا بس كيفن نواصل
ونبدأ من وين البداية
٠٠٠
*والحب عنده …. هو ذلك الشعور الذي يتملك الإنسان في داخله ويطوف به العالم حيث يشاء:

لو عز بيناتنا الوصال وخاطري أصبح منكسر
تكفيني بس لمحة بهاك أيامي تخضر تزدهر
….
بعدين معاك يا ست هواي مشاعري ليك من يوم بدت
غمرتني موجه من الحنين في قلبي جوة اتعمقت
٠٠
إنت المحاسن روعتها خصال حميدة معددة
ست اللطافة ورقتها للشعراء معنى ومفردة
يا واحة خضرا ومورقة
ثمارا يانعة مفرهده
…..
زرعت في الأرض اليباب شتلات هواي ما خضرن
لا بسمة تسقيهم حنان
لا كلمة بيها يفرهدن

يا سلااااام وهبه الله من عظمةِ شعره ، شيئا ما يتفرد به هذا الشاعر الإنسان عن سواه، فقد نثر حبه للناس، للمدينة، للبلاد بأجمعها، وبدافع الألفة نثره لكل مخلوق وإن كان جماد.

*تغني بذكر الأمكنة المحببة إلى نفسه فامتلأت دواوينه حتى اشتعلت قمحا ووعدا وتمني، عن مدرسة الأميرية الأم بعد مرور مئة عام من عمرها، يقول:
أم المدارس كلها
أنفس من الماس معدنها
مرت عليك مية سنة
لا زلت مشرقة فاتنة
دايما على مر القرون
يعلى شأنك ربنا

وفي نفس القصيدة، يمدح مديرها الأستاذ القدير عبدالغني قدوره:

يكفيك شرف يا مفخرة
عمرك وصل مية سنة
بقيادة الرجل الهميم صاحب الأيادي المحسنة
قدورة اتحدي الصعاب كالنحلة يعمل ما ونى
حقق نجاحات باهرة ليهو التحايا والثنا

*كانت صداقته قوية لا يضعفها البعد ولا الزمن،
غاب عدة سنوات للتفرغ لتنقيح وطباعة دواوينه، عاد ولم ينس أحدا، التقيته في مكانه المحبب الذي يجلس أمامه يلتقي الأدباء والمثقفين والأصدقاء وعامة الناس “دكان الحلاق الشهير بسوق كسلا العم محمد اسطى”، فسلم علي وسألني عن الحال والأحوال وأهداني ديوانه الروووعه ” البانة” والذي احتفظ به، وسأفرد له بوستا كاملا لبيان ما فيه من روعة وألفاظ ومعاني بديعة.

وقد سمى الديوان “البانة” باسم أطول مقطوعة فيه، بل في سائر أعماله الأدبية، إذ بلغ عدد أبياتها ١٤٠، ولها قصة ؛ فشقيقه الشاعر الكبير الراحل عثمان الحاج على رحمه الله تعالى، حضر إلى منزله ولم يجد “البانة” التي تركها صباحا قائمة، فالأمر كله في زمن توصيل الكهرباء للسواقي ج ، فعندما وصل الخط لمنزل الأستاذ “صلاح الجعلى” وهو من أعلام كسلا ومن رموز التعليم في الزمن الجميل منعت البانة مرور الأسلاك لمنزله لطولها، فأمر صلاح الجعلى بقطعها وكان صديقا وجارا للشاعر ” عثمان “، فما كان منه إلا أن هجا “صلاح الجعلي” بقصيدة طويلة، كنت أحفظها فقد ملكنى إياها الأخ صلاح عام ٢٠٠٢م إلا أنني لا أذكر منها سوى مطلعها:
صلاح الجعلي لي قطعت لينا البانة
لومك بالشعر أنا حا الوكه لبانة
فما كان من شاعرنا “أحمد” إلا أن كتب قصيدة البانة ردا على ذاك الهجاء متناولا فيها صور ومعاني بديعة لا يسع المجال لتفصيلها ، جاء في مطلعها:
البانة السعيدا يا دابا صبحت بانة
بعد كانت عويد بين الشجر حزنانه.
* أما ديوانه “أرض الحبايب” يحمل اسم أغنيته المشهورة التي تغنى بها الفنان عبدالعظيم حركة والتي أضحت أيقونة الغناء الكسلاوي وأصبحت جزء من وجدان الشعب . وقد قدم لهذا الديوان الجنرال أحمد طه طيب الله ثراه، وقد زين الديوان بصور زاهية من طبيعة كسلا الغناء

*وفي إخوانياته المتعددة تناول عدد من الشخصيات، ومدح أهل كسلا شيبا وشبابا ، فمثلا في أولاد بابكر المتعارض أبو المعالي، يقول:

أولاد بابكر هم خيار الناس
مابيرضوا المذلة ولا الرقاب تنداس

*وبقدوم المولودة جود ابنة حاج على عثمان:

أهلا بيك وسهلا ألفين حبابك جود
قدومك يبقي فال بالخير علينا يعود

*وبمناسبة قدوم المولودة آمنة ابنة الدكتور عادل حامد الزين، يقول :
أختك يا هبة ربي يرفع شأنها تسير نحو النجاح تحتل أعلى مرتبه
ماخده الذوق أكيد والعزة من عماتها
شايلة من الحنان والعفة من خالاتها

*وكثيرا ما كان يردد مقطوعته:

أحب تراب بلدي
أعز أهل بلدي
يا الله فوق بلدي

*وفي الرثائيات رثى الشهيد جعفر فقر له الرحمة :
عليك الرحمة يا جعفر مع الأبرار على الكوثر
مقامك في جنان الخلد مع حمزة مع جعفر
رحيلك حز في قلوبنا
نفوسنا حزينة تتحسر

وفي رثاء “الأخت بتول” يقول:
من وين أجيب معناك
وأجيد عليك القول
عملك متين بنيانو
عند الكريم مقبول

*ولم ينس -رحمه الله- مدن السودان ، فقومتيه لا تحدها حدود، فكتب عن القضارف وألف ديوانا كاملا بعنوان “قضارف الخير”، وكتب أجمل الأوصاف عن عاصمة البلاد:
الخرطوم أدب تقوى ووقار
خرطوم بلد تاريخ رجال
خرطوم بطولات الجدود
والنيل على صدرك وسام

إلا أنه عاد وكتب
(خرطوم تجنن) ، فما شهدته من تغيرات وتوسع غير ملامحها، فكذلك غير شاعرنا نظرته لها :

خرطوم النقمة ذاتها
كان ادتك قفاها
ما تلقى فيها فرقة
مهما جريت وراها
كان درت فيها عيشة
تقع في بير عميقة
تلف لامن تآمن
وفي الجوف تبق حريقة

*ولم تشغله الظروف عن قضايا بلاده الكلية، فالشاعر متفاعل باستمرار مع قضايا مجتمعه، مشاركا بقوة في وضع الحل ، ففي قصيدته (أخوي ارجع)، مناداة ومناجاة لأولئك النفر الذين حملوا السلاح :

تعال يا أخوي من غير طلقة
نحل إشكالنا نعيش في سلام
بلدنا الخير الفيها كتير عايزة عمل ما عايزة صدام
الشعب الصابر ينظر إليك
عايزك تحفظ حق الأرحام
تعال ساهم ابنى معانا
سودان العز والاستقرار

*وقد مثلت دعوات السلام محورا مهما من محاور شعره، فجاءت قوافيه صوتا صادقا يدعو للحفاظ على أواصر الحب والوئام والسلام:

يا شعبي أجنح للسلام ينفعنا إيه نحنا الخصام
كفانا فرقة وانقسام نبني الوطن ونعيش كرام

*واستنكر شاعرنا تعدد الأحزاب السياسية ، واعتبرها من صور الخيال، وحالة تدعو للتعجب! ، فأنشأ قصيدة سماها “مية حزب” :

وطنى الجريح حزنك يطول بي حرقة دايما تنتحب
ما تختشوا أكبر دول
احزابا بس اتنين حزب
مية حزب يا ناس حرام
أكيد تزيد وجع القلب

*رحمك الله يا عمنا أحمد، نقف شكرا وامتنانا عميقا لأنك كنت يوما بيننا، واعطيتنا كلاما جميلا وحنينا طويلا.

*قلنا ما ممكن تسافر دون رضانا بنشقي نحن، ولكن يد القدر كانت أسرع مما نخطط، وها نحن نصدع وننحني لمشيئة الله ، ولا نقول إلا ما يرضي الله ” إنا لله وإنا إليه راجعون ” ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم…
وخالص العزاء لأسرته الكريمة ولأهل كسلا والسودان عموما على الفقد الجلل ….

فإلى جنات الخلد ورضوان من الله

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 3.5 / 5. Total : 2

كن أول من يقيم هذا المقال

تعليقان

  1. شكرا جزيلا اخي الكريم علي المقال الرائع في حق والدي رحمة الله عليه، وفيت وكفيت جعله الله في ميزان حسناتك.

    1. له الرحمة والمغفرة ، نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته مع الصديقين والشهداء.
      واحسن الله عزاءكم وألهمكم الصبر والسلوان
      إنا لله وإنا إليه راجعون

‫التعليقات مغلقة.‬