المطلوبات الغائبة لتحقيق العدالة والمحاسبة في السودان … ورقة مقدمة في المؤتمر التاسع لمنبر ايوا
سيف الدولة حمدنا الله
مقدمة:
العدالة والمحاسبة هما الوجهان العمليان لمعنى قدرة أجهزة الدولة على منع الإفلات من العقاب. وبالنظر إلى تجربة السودان منذ الاستقلال يلاحظ بشكل كبير أن الإفلات من العقاب عن الجرائم الخطيرة هو السائد، وذلك لسبب جوهري هو أن تحقيق العدالة بشأن الجرائم الخطيرة يتطلب ملاحقة أصحاب النفوذ السياسي أو المسلح بعد انتهاء فترات الحكم العسكري الديكتاتوري حين يأتي الظرف المناسب لتحقيق العدالة وإجراء المحاسبة.
إن إنهاء حالة الإفلات من العقاب يرتبط بشكل أساسي بالقدرة على إبعاد المؤسسة العسكرية عن العمل السياسي وخلق أجهزة عدلية قادرة على تحدي النفوذ السياسي، لأن تحقيق العدالة لا يمكن أن يحدث دون سيطرة المؤسسات المدنية على كافة أجهزة الدولة، خاصة العسكرية والأمنية. وربما يمثل الوضع الراهن في السودان أسوأ مراحل ضعف المجتمع المدني في السودان، بعد أن بلغ الصراع السياسي مرحلة إشهار السلاح للحفاظ على النفوذ السياسي للمؤسسة العسكرية والمليشيات.
مر السودان بمرحلتين انتقاليتين عقب تغيير نظامي حكم ديكتاتورين، وقد تعالت في الفترتين الأصوات المنادية بإيجاد معالجات للانتهاكات السابقة، ولكن لأسباب متعددة كانت الاستجابة ضعيفة بالمقارنة لحجم الانتهاكات والمظالم، وهذا يرتبط بطبيعة القوي التي صعدت الي الحكم بعد التغير بالإضافة الي عدم تشكل رؤية واضحة عن آليات العدالة التي يجب استحداثها ضمن عملية الانتقال، اضافة الي غياب التوثيق بالمعني الذي يسهم في بناء قاعدة استحقاق قانونية وسياسية تفرض المطالب التي يرفعها شارع ذا قاعدة عريضة يستحيل تجاوزه.
تجربة الإصلاح القانوني:
في أعقاب الثورات الشعبية التي تُنهي الحكومات الديكتاتورية، تحتاج البلاد لأن تضع أولوية لعمل إصلاحات (فورية) وشاملة للقوانين والمؤسسات العدلية، ففي فترات الحكم العسكري والديكتاتوري يتم تعليق قواعد ومطلوبات العدالة التي تضمن محاربة الفساد وتجاوز معايير حقوق الإنسان وإجراءات العدالة بشكل عام، فقد انطلقت ثورة ديسمبر المجيدة من أجل تحقيق ثلاث شعارات (حرية سلام وعدالة)، كانت العدالة هي المرتكز الأساسي لهذه الشعارات ولتحقيق العدالة في مرحلة الانتقال من نظام الإنقاذ الشمولي إلى نظام ديمقراطي كان لابد من إحداث التغيير والإصلاح الذي نتحدث عنه في بنية المنظومة الحقوقية والعدلية.
وقد نصت الوثيقة الدستورية على ذلك الإصلاح في المادة (8/5) ” الإصلاح القانوني وإعادة بناء وتطوير المنظومة الحقوقية والعدلية وضمان استقلال القضاء وسيادة القانون” كما تم تعزيز ذلك النص بنص آخر في الوثيقة في المادة (12) “وضع برامج لإصلاح أجهزة الدولة خلال الفترة الانتقالية بصورة تعكس استقلاليتها وقوميتها وعدالة توزيع الفرص فيها دون مساس بشروط الأهلية والكفاءة، وبناء على ذلك صدر قانون مفوضية إصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية.
في 22 أبريل 2020 صدر قانون مفوضية إصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية لسنة 2020 (المفوضية) والذي أوضح في المادة (4) أهداف المفوضية على النحو التالي:
إعادة بناء وتطوير المنظومة الحقوقية والعدلية وضمان استقلاليتها وسيادة حكم القانون (أ) الإصلاح القانوني والمؤسسي للمنظومة الحقوقية والعدلية وضمان استقلاليتها (ب) تعزيز مبدأ المساءلة للمنظومة الحقوقية والعدلية وإرساء مبادئ تكافؤ الفرص والعدالة (ج) تشجيع وتفعيل دور المنظومة الحقوقية والعدلية في بناء وتطوير ونشر ثقافة حكم القانون.
أن تقوم المفوضية: (أ) بوضع السياسات العامة والخطط والبرامج والتدابير اللازمة لإصلاح المنظومة الحقوقية والعدلية وتطويرها وإعادة بنائها، (ب) تحديد الشروط العامة للالتحاق بالمنظومة الحقوقية والعدلية لكل من القانونيين والعاملين بها (ج) تفكيك بنية التمكين في المنظومة الحقوقية والعدلية وذلك وفقا لأحكام القوانين المنظمة لذلك، (ه) إرساء الأسس والضوابط التي تحقق تكامل الأدوار والتنسيق والتعاون فيما بين المنظومة الحقوقية والعدلية بما يضمن تطبيق سيادة حكم القانون وحسن سير العدالة، (و) ابتدار مشروعات القوانين ذات الصلة بالعمل الحقوقي والعدلي وإصلاح القوانين المنظمة للمنظومة الحقوقية والعدلية، (ز) تنظيم المؤتمرات والندوات والدورات التدريبية الخاصة بالعمل الحقوقي والعدلي، (ح) طلب المعلومات والبيانات والإحصاءات من المنظومة الحقوقية والعدلية وجمعها وإنشاء قاعدة بيانات خاصة بها، (ط) مراجعة ودراسة الهياكل الإدارية والتنظيمية والوظيفية للمنظومة الحقوقية والعدلية وإصدار التوجيهات اللازمة بشأنها، (ي) الموافقة على الهيكل التنظيمي والوظيفي للمفوضية ورفعها للجهات المختصة لإجازتها، (ل) تشكيل اللجان اللازمة لإعانتها في أداء أعمالها، (م) إصدار لائحة داخلية لتنظيم أعاملها واجتماعاتها، (ن) أي اختصاصات وسلطات أخرى لازمة لأداء أعمالها.
وفي المادة (17) “لا يتمتع أي شخص بأي حصانة في أي إجراءات تحقيق تتخذ بواسطة المفوضية وان (18) كل من يخالف أحكام هذا القانون أو اللوائح الصادرة بموجبه تطبق عليه أحكام القانون الجنائي لسنة 1991 واي قانون أخر ينص على عقوبة اشد”.
وكان من المفترض أن يفتح تشكيل المفوضية الباب لإصلاحات جوهرية في أجهزة العدالة، ومن المفترض وأن تصدر المفوضية قانون مجلس القضاء العالي الذي بتشكيلة يتم تكوين المحكمة الدستورية. ولكن ما يؤسف له أن وزارة العدل أدخلت تعديلات على القانون أجهضت بموجبه فكرة المفوضية في مهدها، بيد أن الذي أجهض عملية الإصلاح برمتها مع وجود تلك التعديلات هو تلكؤ رئيس الوزراء في تشكيل المفوضية وظل أمرها معلقاً حتى إنقلاب المجلس العسكري على الثورة.
لا يمكن تحقيق العدالة في السودان دون إجراء إصلاحات شاملة في الأجهزة المعنية بتنفيذ القانون والتشريعات التي تحكم عملها.
إصلاح النيابة العامة:
بحسب النظام القضائي الذي اصطنعه نظام الإنقاذ، أضحى للنيابة العامة الدور الأساسي في عملية العدالة ويأتي قبل دور القضاء، فالقضاء بموجب التعديلات التي حدثت في قوانين الإنقاذ، لم يعد له سُلطان على الدعوى العمومية، فالقاضي لا يستطيع من تلقاء نفسه أو بناء على شكوى من مظلوم أن يتخذ أيّ إجراء بمباشرة قضية، فالنيابة العامة هي التي تُحدّد القضايا التي تضعها أمام القاضي للنظر فيها، والسبب وراء ضعف النيابة العامة وتقاعسها عن القيام بدورها في ملاحقة الجرائم الكبرى التي ارتكبت في عهد الإنقاذ يرجع إلى عدم استقلال النيابة عن الجهاز التنفيذي للدولة، فقد تم انتقاء كوادرها على يد الإنقاذ وسرت في عروق أفرادها مفاهيم الإنقاذ في شأن تطبيق العدالة، فهي مهنة لا إرث أو تقاليد راسخة ومتوارثة لها مثل القضاء، والحال كذلك، فهي عملت النيابة في خدمة جهاز الدولة لا رقيبة عليه، بخلاف ما كان يحدث في السابق، حيث كان القضاء هو الذي يتولى أخذ العلم بالجرائم العامة، ويتصدى من تلقاء نفسه للقضايا ذات الطبيعة العامة، وكان يتولى الأمر بفتح البلاغ والإشراف على سير الدعوى العمومية ويُصدر ما يلزم لها من أوامر قبض وتفتيش ..الخ، وقد كان الرأي السليم أن يُنتدب عدد من قضاة الجنايات للعمل بالنيابة ليؤسسوا قواعد لهذه المهنة الوليدة.
لإقامة العدالة في مرحلة الانتقال لابد من إصلاح النيابة العامة لأنها يجب أن تكون سلطة مستقلة معنية بالشق الإجرائي للعدالة الجنائية في كل مراحل ما قبل المحاكمة، وفي السودان كان هناك حاجة لإصلاح النيابة هيكلياً وتشريعياً ومن حيث الكادر البشري، وهي مهام مفصلية في إعادة نظام العدالة لدوره الطبيعي، ولتمكينه من تحقيق العدالة الجنائية بشأن كل الانتهاكات السابقة والقيام بدوره في حماية الانتقال نحو الديمقراطية. كما أن عملية إصلاح النيابة العامة تعتبر جوهرية لإعادة ثقة المواطنين في نظام العدالة، لأهميته لبناء المجتمعات الديمقراطية التي يتعامل فيها المواطنين بثقة كاملة مع أجهزته العدلية، ويشعر حيالها بالأمان، ويسهم بدوره في احترام القانون والأسس الدستورية للحقوق.
إصلاح السلطة القضائية:
المعنى اللغوي والقانوني الواضح لعبارة “الإصلاح” أنها تعني الترميم، والذي يتطلبه الوضع الماثل في السودان هو “إعادة البناء”، أي التشييد من جديد، وقد شهد السودان تجربة مُماثلة في إعادة بناء القضاء، وقد حدث ذلك عقب إضراب القضاة في عام 1983م، فيما عُرِف بقرار “البِنية القضائية”، الذي شكّل بموجبه الرئيس الأسبق جعفر النميري لجنة برئاسة نائبه عبدالواجد حامد خليل، قامت بإعادة تسكين القضاة بالدرجات المختلفة من واقع ملفات خدمتهم، وفي بحثها عثرت اللجنة على حالة لأحد قضاة الأحوال الشخصية عمل بالقضاء لسنوات طويلة بمؤهل ليسانس آداب قسم جغرافيا، وتمّ عزله.
القضاء هرم مقلوب، يتم بناؤه من أعلى إلى أسفل، ويبدأ بنائه بتشكيل محكمة عليا من ذوي الخبرة والدراية والمقدرة على استنباط القواعد والأحكام وتفسير القانون، وهو ما كان عليه الحال في عهود ما قبل الإنقاذ، وأهمية المحكمة العليا تكمن في أنها الجهة التي تُرسي السوابق القضائية التي يسير على هديها بقية القضاة على سبيل الإلزام، لتأتي أحكامهم مُتسِقة في القضايا المُتشابهة بحيث لا يتوقف مصير المتهم على قسوة قلب القاضي وشططه أو ما يملأ قلبه من عطف ورحمة.
ثم يتوالى بعد ذلك بناء وتشكيل المحاكم الأدنى من بين الجديرين والمؤهلين وذوي الاستقلال من القضاة ووكلاء النيابة الحاليين وتعيين آخرين من بين الراغبين الذين حُرِموا من الالتحاق بالقضاء والنيابة خلال حكم الإنقاذ، وتتوافر فيهم ذات الشروط والمعايير المذكورة.
“إعادة بناء” أجهزة العدالة هو المعنى الآخر لعبارة “تفكيك التمكين” اللذان نصّت عليهما الوثيقة الدستورية، وقد كان القضاء والنيابة أكبر مسارح لعمليات “التمكين” التي قامت بها الإنقاذ لكوادرها لأسباب واضحة ومعلومة، فقبل أن تُكمل الإنقاذ شهرها الثالث في الحكم كانت قد قامت بفصل نحو ثلث عدد القضاة العاملين من مختلف الدرجات، ثم تقدم عشرات من القضاة الآخرين باستقالاتهم من العمل إما احتجاجاً على عزل زملائهم أو عزوفاً منهم عن العمل في قضاء يفتقر لأدنى درجات الاستقلال، وقد انتهى الحال بإفراغ القضاء من ثلثي كوادره في العمل.
ثم قام النظام بتعيين كوادر التنظيم من بين المحامين كما استقطب عدد من أبنائه من القانونيين المُغتربين بالسعودية واليمن ودول الخليج وقام بتسكينهم في مختلف الدرجات بأجهزة العدالة، ثم فتح الباب لتعيين طلائع كوادر التنظيم الشباب في أسفل السلم بذات المعيار “التمكين”، والذين بلغوا اليوم وبعد مضي كل هذه السنوات أعلى المراتب بالمحكمة العليا ومحكمة الاستئناف.
تجربة قانون تفكيك نظام الانقاذ في المعالجة:
الخطأ الجوهري الذي ارتكبته الحكومة الانتقالية في شأن تفكيك جماعة الإنقاذ بشكل عام بما في ذلك عزل القضاة وأعضاء النيابة، أنها اختارت منطقة وسطى، فلا هي استخدمت الشرعية الثورية التي تُنتهج عادة في أعقاب التغيير (وهو ما فعلته الانقاذ)، ولا هي استوفت مطلوبات قانون التفكيك الذي صنعته بيديها، وذلك بتغييبها للجسم الذي تُستأنف إليه قرارات اللجنة، ولا يُقبل في تبرير ذلك القول بتعمّد المكون العسكري بمجلس السيادة تعطيل تشكيل اللجنة، ذلك أن أساس الخطأ هو في عدم النص بقانون التفكيك نفسه على تشكيل لجنة الاستئناف كما هو الحال في اللجنة الابتدائية، ولم يكن من المناسب أن يربط القانون مصير تشكيل اللجنة على إرادة مجلس السيادة ونصف أعضائه من أصحاب التمكين.
كما أن قانون تفكيك نظام الانقاذ واسترداد الأموال واسترداد الأموال – من الناحية العملية – أجهض تطبيق مبدأ المحاسبة الجنائية عن جرائم الفساد التي كانت السبب في الحصول على تلك الأموال، بما جعل من هذه الوسيلة صورة طبق الأصل لعمليات “التحلل” التي كانت تمارسها حكومة الانقاذ، ذلك أن واجب العدالة يقتضي تقديم المجرم والفاسد للمحاكمة وإنزال العقوبة التي يقررها القانون عليه وتشمل المحاكمة الشركاء الذين سهّلوا الحصول على الأراضي والأموال المُستردة، وقد دافع وزير عدل الحكومة الانتقالية في الرد على هذا المأخذ بتغريدة على موقع (تويتر) حول هذا الموضوع، ذكر فيها أن الاسترداد لا يعني الإعفاء من المحاسبة عبر القضاء، وقد حظيت تغريدة الوزير بانتشار واسع حتى حملت بعض الصحف (وزير العدل يحسم موضوع سلامة إجراءات استرداد الأموال).
وقد رددنا في حينها على ذلك بأنه ليس هناك جدل واختلاف في رأي يحسم بقرار من وزير العدل، فالحسم في مسائل الخلاف حول القانون لا يتم إلا بحكم قضائي بات ونهائي. كما أن هذه المسألة بالذات تخرج من اختصاص وزارة العدل وتقع تحت اختصاص النائب العام، فهذه التغريدة تحمل رأي نصرالدين القانوني وليس نصر الدين الوزير.
من الناحية النظرية، صحيح أنه ليس هناك ما يمنع محاكمة المتهمين في قضايا الفساد بعد استرداد الأموال منهم، لأن الذي تمنعه القاعدة القانونية هو عدم جواز المحاكمة عن الفعل الواحد مرتين، وقرار لجنة التفكيك لا يعتبر محاكمة، ولكن المبادئ القانونية التي يهدمها هذا الإجراء، سوف تظل وصمة لن تنمحي وسوف يذكرها التاريخ في جبين مؤسسات العدالة التي تنسب للثورة. ونلخص ذلك في الآتي:
أولاً: سلطة النائب العام في التصرف في الدعوى الجنائية تنتهي بأحد طريقين لا ثالث لهما: إما بوجود بينة يُقدم بموجبها المتهم للمحاكمة، أو عدم توفر تلك البينة ومن ثم قفل القضية بشطب الدعوى، ولم ترد للنائب العام سلطة في أي قانون تمنحه الحق في تزويد اللجان بالبيانات التي تمكنها من إصدار قرارات ذات طبيعة عقابية.
ثانياً: استرداد الأموال مسبقاً ثم بعد ذلك إحالة المتهم للمحاكمة عن الجريمة التي حصل بموجبها على تلك الأموال فيه تعدي وامتهان لسلطة القضاء، ولتوضيح ذلك، هب ان القضاء – مثلاً – انتهى إلى أن هناك عقار معين حصل عليه المتهم ضمن ميراث من أحد أقربائه، ولم يحصل عليه عن طريق الفساد قد شمله قرار الاسترداد عن طريق الخطأ؟ كيف يجيئ قرار المحكمة علماً بأنها كمحكمة جنايات لا تمتلك الاختصاص النوعي الذي يمكنها من إلغاء القرار الصادر باسترداد ذلك العقار.
ثالثاً: لا يوجد سند قانوني أو فقهي أو تجربة مدونة سابقة تبرر أو تفسر فصل قرار استرداد المال المرتكب بشأنه جريمة عن محاكمة الشخص بارتكاب تلك الجريمة كما لا يوجد مبرر منطقي لذلك ما دام المال موضوع الفساد في حرز أمين بالحجز عليه
.
قانون الثراء الحرام – أسهل وسيلة معالجة لقضايا الفساد:
تجاهل النائب العام للحكومة الانتقالية المناشدات المتكررة بإعمال قانون “الثراء الحرام” الذي وضعته حكومة الانقاذ نفسها في استرداد الأموال المنهوبة، وهو قانون سهل التطبيق وناجز (سريع) وفعّال وقاطع في أحكامه، حيث أن إجراءاته تبدأ وتنتهي في دقائق بفحص إقرار الذمة الخاص بأي من جماعة حكم الانقاذ، ومطابقة ما كان موجوداً في ذمتهم يوم استلامهم السلطة، مع ما آلت إليه تلك الذمم يوم سقوط النظام، ويعتبِر القانون أن أي زيادة تطرأ على الذمة (ويشمل ذلك الزوجات والأبناء) من أموال عقارية ومنقولة “ثراءاً حراماً” ما لم يثبت صاحب الذمة وليس الاتهام عكس ذلك.
كان من شأن هذا الطريق أن يضمن استرداد الأموال ومعها توقيع العقوبات الرادعة على جرائم الفساد والنهب، بخلاف ما يحققه قانون التفكيك الذي يقتصر تطبيقه على استرداد الأموال دون توقع عقوبات، الأمر الذي جعله أقرب لمنهج “التحلل” الذي كانت تعمل به حكومة الإنقاذ.
تاريخ التسويات في قضايا الفساد:
عالجت الحكومة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام مايو في 1985 معظم قضايا الفساد عن طريق إجراء تسويات مالية مع المتهمين، حدث ذلك على الرغم من محدودية قضايا الفساد مقارنة مع تلك التي ارتكبت خلال الثلاثين عاماً التي حكم خلالها نظام الإنقاذ، فقد انتشر الفساد وعمّ جميع اجهزة الدولة ولم يسلم منه القطاع الخاص الذي أثرى من ورائه من تربحوا من ترسية العقود والعطاءات وأحياناً المكرمات الحكومية، وتلك التسويات هي ذات فكرة “التحلل” التي ابتدعتها الانقاذ فيما بعد.
من حيث المبدأ ليس هناك ما يمنع من قيام الدولة بتسوية القضايا الجنائية، ومن هنا نص قانون الاجراءات الجنائية على سلطة النائب العام في حفظ القضايا الجنائية أثناء التحري أو حت بعد إحالتها للمحاكمة، بيد أن ممارسة تلك السلطة مرهون بوجود مسوغ منطقي، كأن تقتضي ذلك المصلحة العليا للدولة التي تتأثر بمقاضاة شخص من رعايا دولة أجنبية، أو بغرض تسوية النزاعات والحروب القبلية بإفساح المجال للجودية…. إلخ.
عقبة الحصانات الجنائية:
ظهر أن موضوع الحصانة التي توسعت قوانين الإنقاذ في منحها إلى عدد كبير من قطاعات العمل بالدولة قد كانت العقبة الكؤود في معالجة قضايا الفساد أثناء فترة حكم الانقاذ، كما كانت عقبة أمام سير التحقيقات في جرائم القتل والانتهاكات الجسدية التي حدثت قبل وبعد قيام الثورة.
والحصانة المعروفة في القانون قبل استيلاء الإنقاذ على السلطة كانت تنحصر (فقط) في: الحصانة الرئاسية، وتشمل رئيس الدولة ومن يُباشر مهامه (النائب أو النوّاب)، والحصانة القضائية وتشمل القضاة وأعضاء النيابة، والحصانة البرلمانية لأعضاء البرلمان، ثم توسعت الإنقاذ بإضفاء الحصانات التي شملت ما يُسمّى بالدستوريين من ولاة ووزراء ومُعتمدين، كما شملت ضباط وأفراد الشرطة والقوات المسلحة والأمن وقوات الدعم السريع.
والذي قاد لجعل الحصانة عقبة أمام تحقيق العدالة هو الخطأ في فهم وتفسير معنى الحصانة لا الحصانة نفسها، فهناك فهم خاطئ بأن الحصانة – كما يُوحي اسمها – تُحصِّن صاحبها وتمنع عنه المساءلة القانونية عن أفعاله، والصحيح أن الحصانة (فيما عدا الحصانة الديبلوماسية) هي مُجرّد نقطة تفتيش توفر حماية وقتية بالمدى الذي يلزم للتأكد من أن الفعل المنسوب لصاحبها قد وقع خارج نطاق المصلحة التي شُرّعت من أجلها الحصانة.
وحكمة تشريع قواعد الحصانة في كل قوانين العالم هي تمكين فئة مُحدّدة على سبيل الحصر من الموظفين العموميين من القيام بواجباتهم الوظيفية دون تعرضهم للمساءلة عن الأخطاء التي تحدث منهم بحسن نية أثناء أدائهم لأعمالهم الوظيفية أو بسببها، ولا تكون لهم أية حصانة فيما يُجاوز ذلك من أفعال وأقوال تشكل جريمة.
والقاعدة الأولية أن الحصانة لا تسري في حالة التلبُّس بارتكاب جريمة مُطلقة، وهي تصنيف لنوع من الجرائم التي يجوز فيها للشرطة أو الشخص العادي أن يقبض فيها على الجاني بدون أمر قبض، ومع ذلك يستوجِب القانون حتى في هذه الحالة أن تقوم الجهة المنوط بها رفع الحصانة أن تفعل ذلك لاحقاً لاستكمال إجراءات التحري والمحاكمة. كما أن الحصانة لا تمنع من اتخاذ الإجراءات الأولية التي تلزم للتثبّت من كون الجريمة تقع في نطاق المصلحة التي شُرِعت من أجلها الحماية بالحصانة، أي أن الجريمة وقعت بحسن نية أثناء أداء المشمول بالحصانة أثناء أداء عمله أو بسببه.
ويكون رفع الحصانة “وجوبياً” ولا يخضع رفعها لتقدير الجهة المختصة برفعها. فإذا تعدّى رئيس الدولة أو القاضي أو عضو البرلمان مثلاً على جاره بالضرب أو أصدر شيكاً بدون رصيد لسداد أجرة منزله، يكون من الواجب على الجهة المنوط بها رفع الحصانة أن تفعل ذلك على سبيل الإلزام لكون هذه الأفعال تقع خارج الغرض الذي شُرِّعت من أجله الحصانة، وهي تمكين عضو البرلمان من إبداء رأيه بحرية وشجاعة داخل البرلمان، وحماية القاضي أو المسئول من كيد الخصوم.
الفهم الخاطئ في تطبيق الحصانة خلال الفترة الانتقالية أدى في كثير من الحالات إلى امتناع قادة الجيش والدعم السريع والشرطة من رفعها حتى دون إبداء أسباب، وكثيراً ما كان يشتكي النائب العام لذوي الضحايا من عجزه عن إجراء القبض واستكمال التحريات في جرائم القتل بسبب ذلك الامتناع، والصحيح أن الامتناع عن رفع الحصانة دون مسوغ قانوني يُعتبر في ذاته جريمة تستر تحاسب عليها الجهة التي تملك سلطة رفع الحصانة.
نختم هذا الموضوع بالقول بأنه حتى الحصانة الديبلوماسية التي تبدو في ظاهرها أنها مُطلقة بسبب أن الديبلوماسي لا يُحاسب في البلد المُضيف حتى لو ارتكب جريمة قتل في قارعة الطريق، ولكنها ليست كذلك، ذلك أنه وبمجرد نزول الديبلوماسي من الطائرة في بلده، يتم القبض عليه والتحقيق معه بواسطة الشرطة والنيابة وتقديمه للمحاكمة عن الفعل متى كان يُشكّل جريمة في كلا البلدين، طبقاً لما يُعرف بإقليمية الجريمة.
التوثيق للانتهاكات لضمان المحاسبة:
المفهوم السائد بان العدالة الانتقالية هي تدابير تتخذ عند الانتقال، أدي هذا المفهوم في كثير من الاحيان لالتباس حول جدوى العمل من اجل العدالة في وقت ارتكاب الانتهاكات. التوثيق لإقرار العدالة الانتقالية يختلف عن العمل لإقرار العدالة في الظروف الطبيعية عند أوضاع الاستقرار، حيث تعرض الانتهاكات أمام الأجهزة العدلية لتنظرها في مسارها اليومي. أما العدالة الانتقالية يتوقع أن تتعامل مع جرائم واسعة النطاق وهي في غالب الأحوال جرائم ضد الإنسانية او دولية من حيث فظاعتها واتساع نطاقها، إضافة الى ارتكابها بواسطة الدولة وأجهزتها ضد مواطنيها، وهي لا تشمل الجرائم فقط فالانتهاكات المتعلقة بالأراضي والسكن والفصل للصالح العام والحرمان من الخدمات وطمس الهوية وتدمير النسيج الاجتماعي وصناعة الصراعات الاجتماعية والتهميش المتعمد لمجموعات من السكان واضطهادهم عرقيا او دينيا او اقتصاديا، كلها تعتبر قضايا متعلقة بالعدالة الانتقالية يجب وضعها في اجندة التغيير والانصاف، وهي بذلك مغايرة للمفهوم المباشر الذي يقرنها بحدوث الانتقال كمحدد قطعي لفاعليتها.
البديهي أن تدابير العدالة الانتقالية تكون أكثر تأثيرا عند حدوث التغيير السياسي، ولكن هذا لا ينفي اهمية التدابير المعنية بضمان انفاذ العدالة وفق أسس ومعايير الاثبات التي يتحدد نجاحها عند الانتقال بمدي التحضير والاعداد لها، والذي يفترض ان يكون قد تم من قبل. فالتوثيق الجنائي على سبيل المثال يفترض أن يبدأ المعنيين بجمع البينات من لحظة حدوث الانتهاك،. يصبح التوثيق عاملاً حاسماً في مجال العدالة التي تتطلب اعمال قدر من وسائل الاثبات، وقد يصعب ملاحقة مرتكبي الانتهاكات دون التوثيق الفعال الذي يهدف الي تحديد المسؤولية ومراكز الاطراف بالربط بين الانتهاكات والضحايا والجناة وتأسيس هذه الروابط بدقة بكل الوسائل المتاحة، والاحتفاظ بالوثائق والأدلة.
يبدأ بالتوثيق والتعريف بالوسائل والاساليب التي طورتها الممارسة وخبرات الشعوب، وفي هذا المنحى تتحقق قيم جماعية للعمل نحو هدف محدد المعالم. فاذا كان القمع يهدف الي تحطيم الثقة في العمل من اجل لتغيير وتغبيش صورة المستقبل، فان التمسك بحقوق الضحايا والإصرار على انصافهم كفيل لوحده بان يشكل هدف مشترك تتضح من خلاله رؤية المستقبل. لذلك تجد عملية التوثيق الممنهج أهمية قصوى على المستويين، التمسك بقيم العدالة والانصاف، وتوضيح الرؤية نحو هدف التغيير والمحاسبة، تتضاعف اهمية هذا العمل بالنسبة للأنظمة القمعية التي تواصل ارتكاب الجرائم الي آخر لحظة قبل رحيلها، وقد تغتصب السلطة لعشرات السنين، لان استمرار ارتكاب الانتهاكات وطول الفترة الزمنية ضمن عوامل اخري كفيلة بان يفقد فيها الضحايا بيناتهم ويضعف تذكرهم للوقائع وربما يفقدون ذاكرتهم حتى نتيجة للانتهاكات نفسها وتأثيراتها المتعددة.
التعامل مع الماضي من أجل المستقبل:
أصبح سؤال كيفية “التعامل مع الماضي” بالنسبة للمجتمعات التي مزقتها الحروب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، علي يد أنظمة قمعية، يحوذ على قدر كبير من وقت المعنين بالتخطيط لمسار العدالة والسلام، وقد تطورت تبعا لذلك العديد من المفاهيم والمناهج المعنية بإيجاد اليات لتقريب استجابات هذه المجتمعات قبل واثناء التغيير لتعزيز الديمقراطية والسلام، وقد انبثقت من تجارب هذه الشعوب عبر العالم دروس عملية أصبحت ذات قيمة معيارية في مقاربة الواقع وهي ما بات يعرف اجمالا ب “العدالة الانتقالية”. وبحسب المركز الدولي للعدالة الانتقالية فهي تعني اجمالا الطريقة التي يختارها الشعب في التعامل مع تركة الانتهاكات الممنهجة لحقوق الانسان، وهي تدابير تقتضيها ضرورة التعامل مع خطورة تلك الجرائم واتساع نطاقها حيث ان نظام العدالة الذي يعمل في الظروف الطبيعية لن يستطيع منفردا ان يستوعب متطلبات ملاحقة تلك الانتهاكات. والجدير بالذكر انه بقدر ما تتفق هذه التدابير في المبادئ العامة الا انها بالضرورة تختلف وطبيعة أي واقع. وفي إطار اختيار منهج التعامل مع الماضي بما يشمل المحاسبة والانصاف ورتق النسيج الاجتماعي فان تجربة الانتقال التي مرت بها العديد من الدول في خلال الثلاث عقود الماضية، قد اثبتت ان مبدأ المحاسبة بشأن الانتهاكات وجبر الضرر هما القاسم المشترك في مطالب الجماهير. وقد تبنت الأمم المتحدة في السنوات القليلة الماضية العديد من المشاريع لمساعدة هذه الدول في الانتقال الي الديمقراطية والاستقرار والتعامل مع الماضي بالقدر الذي لا يتعارض مع الانفتاح على المستقبل.
لتحقيق مدخل دقيق لمعني الماضي والانتقال، فانه من الاوفق البدء بتوضيح ما يقصد بالماضي في هذا السياق، فالماضي هنا هو لحظة الانتهاك في حد ذاتها كحدث ونتيجة غض النظر عن المرحلة من عمر النظام، وبالتالي النظر في كل ما يمكن تحقيقه قبل وبعد حدوث الانتقال. إذا كان التعامل مع الانتهاك في الظروف العادية يتطلب ابلاغ الجهات المختصة فالطريق البديل يخلقه المجتمع المدني بكل فئاته لان النظام القمعي الذي يقلب نظام العدالة راساً على عقب ويحول نظم العدالة والأمن نفسها الي وسائل اضطهاد، يخلق واقعا استثنائياً يلقي على المجتمع المدني مهمة القيام بما يضمن تحقيق العدالة لاحقاً، ولذلك يتوقع ان تنظر الانظمة القمعية لعملية التوثيق للجرائم ورصد تقاعس الاجهزة العدلية عن القيام بواجبها على انه خطر داهم فتتصدي له بشراسة كعمل مقاوم. فمن يرتكب الانتهاك يقوم أيضا بسد سبل الوصول الى العدالة، ويسعي لسد الطريق امام اثبات الانتهاك باعتباره سند للعدالة والملاحقة في المستقبل.
يقود هذا الترابط للتعرف على العلاقة بين التوثيق والعدالة والانتقال. فالتوثيق المقصود ليس التدوين للوقائع الذي قد يتبادر الى الذهن من الوهلة الاولي، بل هو عملية مهنية منظمة تستخدم فيها مناهج الاثبات في مهمة غير رسمية يقوم بها المجتمع المدني الذي يسعي لحماية افراده وضمان انصافهم. يحرز المجتمع المدني في توثيق الانتهاكات مكاسب جانبية تصب في اتجاه فتح مزيد من الافاق للعمل المشترك اولها استنهاض كل القدرات المتاحة لمحاصرة مرتكبي الانتهاكات ويبني اواصر الثقة حول امكان تحقيق العدالة. وفق هذا المفهوم يعمل التوثيق كأحد وسائل الاثبات الضرورية لتحقيق العدالة ويندرج بذلك ضمن منظومة المقاومة العامة للمظالم كواجب يومي ملح وهذا من شأنه ان يضع المجتمع المدني في موقع متقدم في امتلاك زمام المبادرة بامتلاك قدر واسع من المعلومات تسهم في تشكيل مستقبل العدالة. هذا النوع من التوثيق لا يحتاج الي متخصصين في القانون والاثبات فهو يستند الي الإدراك الطبيعي للإنسان في الربط بين الانتهاك ومسؤولية الفاعل، بالنظر الي البينات المتاحة وتجميعها وفق منطق اهميتها الاثباتية والاحتجاجية. التوثيق للعدالة بهذا الشكل الدقيق يسهم في تمليك وعي متكامل عن كيفية العمل من اجل احقاق الحقوق وامتلاك رؤية واضحة عن المستقبل واهداف الانتقال كواقع بديل يسمح بتحقيق القيم المرتبطة بالعدالة.
ان العلاقة بين التوثيق والعدالة والانتقال تبرز مدي اهمية السعي للأهداف الشاملة بالعمل الملموس على الارض وامتلاك المبادرة بما هو ممكن ومقنع للإنسان العادي في انحيازه الطبيعي للعدالة والحياة الكريمة. الاهتمام بالعدالة والسعي نحو التحضير لها بالتوثيق والتوعية يسهم في اكتمال رؤية الشعب حول ماهية التغيير وبالتالي امتلاك رؤية واقعية عن مقدراته وبالتالي يتخلق ضمير جمعي يكون بمثابة مشروع مشترك نحو الحرية والعدالة والسلام. هذا الواقع هو الذي يجعل قضية التغيير عادلة تتضاءل حيالها قدرة الانظمة القمعية على مواجهته كمشروع، هذا الحصار هو ما قاد العديد من الانظمة القمعية الي البحث عن مخرج.
تاريخ التعامل مع الانتهاكات في السودان:
من المهم جدا التطرق الي كيفية التعامل مع الانتهاكات في التجارب القريبة للشعب السوداني، للتعرف على مدى جدية مطالب الشعب الذي قاد التغيير في ابريل 1985 بحثاً عن الانصاف، ومدي تأثير هذه الجدية في دفع شعار المحاسبة الي صدارة الاولويات ومن ثم النظر في النتائج التي أحرزها مقابل الطموحات (شعارات الانتفاضة). يعزي البعض ظاهرة افلات مرتكبي الانتهاكات في السودان من المحاسبة عن افعالهم الي فشل الأنظمة الديمقراطية في وضع نموذج للردع العام بشأن هذه الانتهاكات بل وعدم جديتها هي نفسها في احترام العدالة وحكم القانون. وبالنظر الي موقف الشعب السوداني من الانتهاكات قد يكون من التبسيط المخل القول بانه لم يحرز شيئا او قد تقاعس عن السعي للمحاسبة في مراحل التغيير والانتقال. ولكن قبل ان نخوض في مستوي الاستجابة، ننبه الي حقيقتين الاولي هي ان هذه الانتهاكات لم تجد التوثيق المناسب الذي نتحدث عنه والثاني كانت الطريقة التي حدثت بها التغيرات قد حددت طريقة التعامل مع الماضي، وكان هذا كفيل بان يجعل الانتقال يحمل في مسيرته تناقضات اقعدت طموحات الفئات التي حلمت بالتغيير الي الحد الذي جعل الذين انتظروا تحقيق العدالة والانصاف ضحايا أيضا للنظام الجديد.
يجدر بنا ان نشير الي بروز عامل جديد وهو الوعي بالصيغة التي تطرح كبرنامج وآليات للتعامل مع الانتهاكات، هذه الآليات والمفاهيم لم تكن مطروقة بالشكل الراهن. ذلك على الرغم من المجهودات العديدة التي بذلت بعد انتفاضة ابريل 1985 في اجراء التحريات والتحقيقات مع رموز النظام السابق، الا ان مطلب التعامل مع تركة الانتهاكات قد تضاءل امام الازمات السياسية التي لاحقت الحكم الديمقراطي حتى سقوطه. فالسبب في تضاءل هذه المطالب يرجع بالأساس الي عدم وجود وضع آليات وتشريعات وأوامر تكفل ترجمة مطالب الضحايا الي واقع، وهذا لا يرجع الي قصور رسمي فقط بقدر ما يرجع الي عدم الوعي بالأليات المفترضة للتعامل مع الانتهاكات في اتساعها، وعدم قدرة العديد من الضحايا في الهامش من اسماع اصواتهم او فرض ارادتهم ضمن عملية التغيير. فالوعي بهذه الآليات من لجان التقصي والحقيقة والمحاسبة والمصالحة ومناهج إصلاح المؤسسات ستبرز ملامح قوتها وتأثيرها بمقدار رجحان الطريقة التي سيتعامل بها السودانيين مع التركة الضخمة للانتهاكات التي ارتكبها ومازال يواصل في ارتكابها نظام الإنقاذ ومليشياته عبر حرب 15 أبريل 2023 وربما تتطلب المعالجات النظر في فترات مظالم اسبق.
توثيق الجرائم الخطيرة:
المحاسبة على الانتهاكات التي ارتكبها نظام الجبهة الإسلامية في ظل نظام الإنقاذ وعبر حربها ضد مليشياتها تعتبر هي الأخطر في تاريخ السودان ابتداء من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية الي جرائم الاغتيالات والاغتصاب وحرق القري والمدنيين وممتلكاتهم الي التعذيب الممنهج في بيوت الاشباح. وقد ارتكبت العديد من الجرائم في جميع انحاء السودان. وأصبح امر المحاسبة عن الانتهاكات امرا شاقا بسبب الجرائم الدولية التي ارتكبت في جميع أنحاء السودان في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق فهي مسؤولية عظيمة.
إن التعامل مع هذه الانتهاكات الخطيرة يعتبر من المهام الملحة التي تتطلب تضافر مجهودات القوي السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في انشاء مراكز توثيق وارشفة تقوم بحفظ المعلومات. إذا لم تقم بذلك حتى الان فانه يظل واجب مطروح على هذه القوي، كما ان التدريب في مجال التوثيق والمهارات الحديثة في حفظ واستدعاء المعلومات عن طريق البرامج الرقمية يعتبر من الوسائل المهمة في تسهيل عمليات التعامل مع هذه التركة الضخمة من الانتهاكات. التحضير للعدالة والانتقال واجب ملح يجب ان يطلع به المجتمع المدني السوداني ومؤسساته في حفظ كل الوثائق والمعلومات عن مرتكبي هذه الجرائم على الأرض. والمجتمع المدني المحلي يدرك التفاصيل الدقيقة عن هذه الانتهاكات ومرتكبيها. فهنالك جرائم بحاجة الي توثيق مستمر مثل القتل والاغتصاب والتعذيب والنهب والتصفية العرقية سواء في مناطق السلم او في مناطق النزاعات، هذا بالإضافة الي رصد وحفظ كل المعلومات التي أصبحت مبذولة عبر الوسائط الالكترونية مثل تلك المتعلقة بالفساد من غسيل أموال واستيلاء علي ممتلكات واراضي الغير والفساد المتعلق بالعقارات خارج البلاد وتغيير البيانات والمعلومات الدالة علي المفسدين، كل هذه الوثائق والمعلومات يجب الاحتفاظ بها في أرشيف على برامج رقمية في حواسيب مؤمنة ضد الاختراق، وتبوب هذه المعلومات بالتصنيف المهني المتبع في مراكز التوثيق الحديثة بحيث يسهل استدعاء المعلومات ومراجعتها وتدعيمها بما يستجد من معلومات ووثائق.
باستقراء جدلية التداخل بين التوثيق والعدالة والانتقال يتضح ان العمل من اجل العدالة والسلام واجب يومي على الارض، وبالتالي تصبح العدالة والمحاسبة مشروعا عمليا يبدأ بالتعامل مع القضايا المصيرية ضمن أولويات المجتمع ووحدته نحو أهداف مشتركة بين كافة مكونات الشعب السوداني. وتتضح ضرورة التخلي عن المفهوم الخاطئ بالعمل لتحقيق العدالة فقط بعد حدوث التغيير فهذا بمثابة وضع للعربة امام الحصان، ومن هنا يمكن تلمس مكامن الخطأ في التعميم السائد بان لا سبيل لتحقيق العدالة والسلام إلا بعد إسقاط النظام. يصبح هذا الشعار صحيحا فقط في حالة تفكيكه الي جزيئات وواجبات مرحلية للمجتمع المدني بكافة مؤسساته. فالجرائم التي ارتكبت في عهد الانقاذ فاقت كل تصور وقد احدثت شروخا عميقة في جسد الشعب السوداني بالقدر الذي يمكن ان يربك اي عملية انتقال مالم توضع هذه المظالم في اولويات العمل المشترك نحو المستقبل. الاتهام بان كل الانتفاضات التي حدثت في تاريخ السودان تعاملت مع التغير كانتصار للمركز ضد المركز وظلت أطراف السودان بمنأى عن خطط التنمية والتوزيع العادل للسلطة والثروة غض النظر عن صحته فان نظام الانقاذ قد وجد واقع تهميش استغله كمدخل لتنفيذ سياسة فرق تسد وبالتالي حقق فرضيات ذلك الاتهام لمصلحته. وبالتالي ستكون اجندة هذه المناطق في المرحلة القادمة هي الامتحان الحقيقي للبناء القومي للدولة السودانية وارساء حقوق المواطنة. الجرائم التي ارتكبت بحق السودانيين في عهد الانقاذ تمتاز ايضا بالتفاوت من حيث اتساعها وفظاعتها وقد كان نصيب الاطراف هو الاعظم وبالتالي يشكل الانتباه لأولوية الانصاف ضرورة لبناء دولة تنهض بكل مكونات شعوبها نحو العدالة والسلام والتعايش المشترك على اساس المواطنة واحترام حقوق الانسان. العمل المشترك نحو هذه الاهداف هو الذي سيضمن بناء الثقة في ان منافع التغيير للجميع. فالعمل نحو العدالة الانتقالية وفق اولويات المرحلة سيسهم في انتاج مشاريع عمل مشترك يخرج بها المجتمع المدني ابان التغيير بأهداف مشتركة.