
توحيد منصة القوى السياسية الوطنية… أم وحدة المسار المدني الديمقراطي .. ورقة مقدمة في المؤتمر التاسع لمنبر ايوا
فتحي الضَّو
أبدأ حديثي هذا بالاعتذار لأهل السودان جميعاً على ذنوب صنعناها بغفلتنا أو بسذاجتنا أو بكامل وعينا إلى أن تراكمت ووضعتنا في امتحان عسير.
توطئة
يطرح كاتب هذه الورقة ثلاثة مبادئ عامة يهتدي بها وتعبر عن شخصه بتمثيل كامل الأركان:
أولاً: الالتزام بقيم الحرية والعدالة والسلام، وذلك ما عبَّرت عنه شعارات ثورة ديسمبر المجيدة، فضلاً عن التزام الكاتب بالديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان، وهي ذات القضايا التي ظل يُنافح عنها وسوف يظل وفياً لها طيلة عمره
ثانياً: ينأى الكاتب بنفسه عن الانحياز لأي من طرفي الحرب اللذين أججا هذه الأزمة. وفي عُرفه هما مجرما حرب ينبغي محاكمتهما متى ما وضعت هذه الحرب أوزارها. وبالقدر نفسه يعتبر فلول وتنظيمات النظام السابق خلايا إرهابية كانت سبباً في اشعال هذه الحرب.
ثالثاً: يؤكد الكاتب موقفاً أخلاقياً بإدانة سلوك الذين يتبارون في تخوين وشيطنة الآخرين من الرفاق أياً كان موقعهم، بحسب أن ذلك هو مسلك (كيزاني) سدرت فيه طائفة الحركة الإسلاموية. على أن يكون الحكم على الأفعال وليس الاتهامات التي تُرمى جزافاً. وذلك استناداً على القاعدة القانونية الأزلية (البيَّنة على من ادَّعى واليمين على من أنكر).
مُدخل
تهتم هذه الورقة بالبحث عن مظاهر الأزمة السودانية الراهنة، على ضوء ما بلغته من مأساة باندلاع حرب اختلفت تفصيلاً وتوصيفاً.. تنظيراً وتفعيلاً.. كماً ونوعاً عن حروب طال ما خبرها السودانيون في تاريخهم القديم والحديث. وبالنظر للأوضاع التي آل إليها حال البلاد جراء هذه الحرب المأساوية، وبما خلفته من دمار اقتصادي طال البنية التحتية برمتها، وبما أسفرت عنه عن تقتيلٍ للبشر، وتمزيقٍ للنسيج الاجتماعي، يستلزم البحث قدراً كبيراً من المنهجية والموضوعية والشفافية، فليس بعد الكُفر ذنب، كما يقولون.
شأن كل الحروب التي اشتعلت في تاريخ البشرية، سوف تتوقف هذه الحرب آن آجلاً أم عاجلاً، وأياً كان الترجيح فالثابت الذي لا جدال فيه، أنها ستكون حداً فاصلاً بين زمنين أو حداً فاصلاً بين سودانيين. إذ سيطرأ تغييرٌ جوهريٌ كبيرٌ وسينال من نمط التفكير الرغبوي الذي كان سائداً، وهو الذي أسبغ تصوراً معيناً على طبيعة الشخصية السودانية، سواء بالنظر إلى ذاتها أو بما رسخ ووقر في مخيلة الآخرين. وفي تقديري أن نوعية هذه الانعطافة السلوكية سوف تحتاج لزمن ليس بالقليل لتقييمها أو تقويمها. لكن أياً كانت النتيجة فالثابت أن الشخصية السودانية مواجهة بتحدٍ كبيرٍ وامتحانٍ عسيرٍ. رب قائل إن ذلك ليس بالتحدي الأول ولا بالامتحان الأخير، وهذا صحيح مع فارق أنه الأكبر في العصر الحديث من ناحية الكم والنوع كما أشرنا من قبل..
هذا بلد عزَّ فيه السلام على الرغم من أن راياته ظلَّت مرفوعة دوماً بلا جدوى، بل عوضاً عن ذلك ظلت الحروب تتناسل فيه وتتراكم طبقاً عن طبق. والمفارقة في هذه الحرب التي وصفها مشعلوها بالعبثية سوف يكون لتوقفها طعم أمر من الحنظل أيضاً، إن لم تتم الاستفادة من دروسها وعبرها. ولعل ما يرجِّح من هزيمة هذه الأفكار الشيطانية التي يضمرها الجنرالات والفلول، هو تمايز الصفوف بين من يعملون لوقف الحرب ومن يرغبون في استمراريتها. لقد دفع الشعب السوداني ثمناً باهظاً وأهدر سنوات طويلة حتى يدرك الناس أن خفافيش الظلام من الإسلامويين لا يريدون لهذا البلد خيراً ولا يرغبون في رؤية شعبه يعيشون في أمن وأمان وطمأنينة كسائر خلق الله..
مُخرج
(1)
إن الوصول لإجابة مباشرة ومنطقية لعنوان الورقة، ينبغي تشخيص طبيعة هذه الأزمة، والتي أصبحت كأنها أزمة مصطلحات أكثر من كونها أزمة قضايا مصيرية. وفي التقدير أن تشخيصها لن يتأتى إلا بتفكيك بعض المصطلحات المتداولة بكثافة في الفضاء السياسي السوداني، وذلك بهدف تحريرها مما خالطها من غموض ووضوح معاً. ونضرب في ذلك مثلاً لن يسقط بالتقادم. لعل الناس يستذكرون أن كلمة واحدة (بتوضيحاتها) نطق بها الإمام الراحل الصادق المهدي كلفت البلاد ثلاثين عاماً من الديكتاتورية تلظى الناس في جحيمها.
وعلى ذلك يمكن القياس، فالمتابع لحركات وسكنات الواقع السياسي السوداني، يلحظ باستمرار تداول مصطلحين في تشخيص طبيعة الأزمة، أي أزمة، الأول: القول إن الأزمة المعنية تلك، تعود أسبابها إلى (1) فشل النخبة وقصور رؤاها (2) افتقارها لمشروع وطني شامل. وبغض النظر عن صحة التفسير من عدمه، فهو تحليل نخبوي يشوبه الغموض عِوضاً عن حلحلت الأزمة، كما يباعد بينها وبين أي حلول في ذهن المواطن البسيط، الذي يمتلك قدراً متواضعاً من المعرفة، يعينه في متابعة قضايا حياته. وجراء هذا الفهم المُلتبس، ينطرح السؤال الهام: من هي هذه النخبة المفترية علينا أو المفترين عليها؟ وما هذا المشروع الوطني الذي كاد يُصبح كالغول والعنقاء والخل الوفي؟
(2)
قبل الإجابة على هذه الأسئلة لابد من أسئلة إضافية لتحديد ماهية النخبة المشار إليها: هل هي كيان عضوي ملموس أم جسم معنوي محسوس؟ والحاقاً بذلك: هل هي ذات هويات مُختلفة أم على قدر سواء في التأهيل والمعرفة؟ هل هي حزب يتكون تلقائياً بلا ضوابط تنظيمية أم مجموعة ضغط تتشكل في أروقة السلطة؟ وهل هي السلطة نفسها أم معارضيها؟ يندرج مصطلح النخبة تحت مظلة الفكر السياسي الإغريقي، الذي رفد البشرية بالكثير من الإنجازات، وهو هنا يعني من يحكم أو يسيطر على قمة جهاز الدولة. ويُعرَّف المصطلح كذلك بأنه مجموعة صغيرة منظمة تتمتع بإمكانيات فكرية وإبداعية لقيادة قوة جماهيرية كبيرة غير منظمة. لكن ما يُسمى (نظرية النخبة) نهضت على يد ثلاثة من المفكرين الايطاليين المميزين وهم: فليفريدو باريتو الذي افترض الذكاء المفرط في من ينضم لهذا النادي، وجايتانو موسكا الذي استبدل الذكاء بالطبقة، وروبرت ميشلز (ولد بألمانيا) الذي استبعد الملكات الشخصية ووضع القوة المادية بديلاً. وبهذا يتضح أن مصطلح النخبة مطاط وواسع وفضفاض، وهي صفات تجعله يحتمل تفسيرات شتى، ولكن بإسقاطه على الواقع السوداني الذي يستنكف المصطلح ويعده محض فهم صفوي، نجده يتخذ معنىً آخر في الذهنية السودانية الناشطة في الحقل السياسي وتُعرَّفه بأنه، إما: (1) الطبقة الحاكمة أو (2) المعارضة لها أو (3) الاثنان معاً. ويحصره في أفراد يمارسون نمطاً من أنماط العلاقة السلطوية بين الحاكم والمحكوم، ويكون أقرب إلى (الشللية) بالمفهوم السوداني السائد، وخاصة في أزمنة الديكتاتوريات حيث تنصب تلك النخبة نفسها حامياً لها.
(3)
وماذا عن المشروع الوطني الغائب منذ ما يناهز السبعة عقود زمنية أي منذ الاستقلال تحديداً، وبتعريف بسيط للاستزادة المعرفية: هو خارطة طريق لمنظومة من الرؤى والأفكار والبرامج والمشاريع والخطط التي تنظم حيوات الناس في المجالات المختلفة بهدف بلورتها في إطار الدولة المدنية الديمقراطية ومن ثمَّ التوافق حولها. ولذا فإن من البديهي القول إن غياب المشروع سيؤدي حتماً إلى إنتاج الأزمات في القضايا المصيرية للدولة. وثمة أسباب كثيرة أقعدت بالمشروع عن النهوض، منها الفهم المرتبك لطبيعة المشروع الوطني نفسه من حيث أيلولته للدولة أم لمنظمات المجتمع المدني. مع الأخذ في الاعتبار أن هذه المنظمات هي الأكثر ارتباطاً بالجماهير في القضايا ذات الصلة بالمشروع الوطني ومنها: إجازة الدستور الدائم، إقرار مبادئ العدالة الانتقالية والتعافي الوطني، إعمال منهج المحاسبة، علاقة الدين بالدولة، حماية السيادة الوطنية، صيانة العلاقات الخارجية، التحكم في موارد الدولة وثرواتها، التواصي على كيفية تطبيق النظام (الفيدرالي، الإقليمي والولائي/الاتحادي) إدارة التنوع الثقافي على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، التواثق على الكيفية التي يحكم بها السودان، لا من يحكم السودان. الاتفاق على نظام الحكم الذي يحقق المشاركة العادلة في السلطة بين مختلف الأعراق والاثنيات والمجموعات القومية والجهوية المكونة للكيان السوداني، التحقق من ممارسة سياسية صحية تستند إلى صيغة سودانية للديمقراطية، إبعاد الأجهزة النظامية عن العمل السياسي، تكريس قيم الدولة المدنية الديمقراطية والحوكمة.
(4)
لم يتوقف الأمر على هذين المصطلحين بالطبع، وإنما هناك مُترادفات ينبغي أيضاً إزاحة غموضها وتحريرها من الحصار المضروب عليها. كمثال لذلك نجد مصطلح (جذور الأزمة) الذي أصبح رائجاً دون مضمون ودون قيام أفراد أو جماعة أو قوى سياسية منظمة بوضع النقاط على الحروف وتبيان ماهية جذور الأزمة السودانية التي ترانا ولا نراها؟ كثيرون باتوا يظنونها من كثرة التداول العشوائي أنها مسألة مرتبطة بالقدم وتوالي التواريخ وليست بقضايا حيوية جدلية. في واقع الأمر إن تعبير جذور الأزمة كمصطلح ضارب في أعماق التاريخ بالفعل ويُنسب لكارل ماركس وإن كان تحت مُسمى (نظرية الأزمات) كما جاء في كتابه الموسوم (رأس المال) ومنداك الزمن صار ظهور المصطلح مرتبط بالمسائل المالية، وظهر بكثافة في الأزمة المالية العالمية التي حدثت في العام 2008م وبصورة أقل في الأزمة المالية العالمية التي سبقتها عام 1929م ورويداً رويداً بات المصطلح ينحو نحو السجال السياسي. وقد ظهر للمرة الأولى بذات الكثافة إبان ما سمي (مظاهرات الربيع العربي) التي كانت ضد حكام الطغاة (بن علي، القذافي، مبارك، علي صالح، بشار) الذين قضوا سنين عدداً في كراسي السلطة فارتبط المصطلح بطول الفترة الزمنية. وفي السودان هو تعبير مُستحدث بدأ ظهوره إبان ثورة ديسمبر وراج أيضاً من حيث الانتشار المُكثف ويكاد يكون تعبيراً صفوياً أو نخبوياً لا يحمل نفساً جماهيرياً يحدد طبيعة القضايا المندرجة تحت المُسمى. وتلك الأخرى التي يُفترض أن تكون (فروعاً).
(5)
المصطلحان التاليان يحملهما عنوان هذه الورقة، مما يعني أن كاتبها سيقدم نقداً ذاتياً حتى يكون التقييم أكثر موضوعية. بتكليف من سكرتارية المؤتمر طُلب مني إعداد هذه الورقة بعنوان (توحيد منصة القوى السياسية الوطنية) إلا أنني بعد التشاور معهم ارتأيت إجراء تغيير طفيف على هذا العنوان ليكون أكثر شمولاً من حيث الشكل، وأكثر مقاربة من حيث المضمون مع شعار المؤتمر. وجاء التعديل بالتساؤل التالي (توحيد منصة القوى السياسية الوطنية أم وحدة المسار المدني الديمقراطي)؟ ولا شك أن القارئ أو السامع يدرك بوضوح الفرق البيًّن، لا سيما بين مفردتي (وحدة) و (توحيد) مع أن كليهما في تقديري لا يعبران عن واقع الحال. ولذا فالسؤال القائم: ما هي نوعية الوحدة أو التوحيد المطلوب؟ هل في الرؤى والأفكار أم الأجسام؟ وسواء اتفقنا على الوحدة أو التوحيد فما هي القضايا التي ينبغي الاتفاق حولها؟ بل ما هو الضرر في أن نحَمل أفكاراً شتى بشرط احترام خيارات الآخرين؟ إن سيل المصطلحات لا ينتهي لذا يمكن إضافة مصطلحات أخرى مثل (الدمج) و(الهامش) و(المبادرة) ولعل السفسطة الملازمة للنقاش حول هذه المصطلحات دليل كافٍ على الكسل الذهني الذي رزحنا فيه سنين عددا.
(6)
واقع الأمر أن تعبير (التسامح السياسي السوداني) الذي كلفنا من أمرنا رهقاً، هو التعبير الذي تحايلت به النخبة السودانية على عموم الشعب الكريم. فعندما خلا الجو لهذه النُّخبة وتهيَّأت للحُكم، بدأت في التمهيد لتأسيس صناعة الديكتاتوريات بفرية غريبه سمَّتها (التسامُح السياسي السُّوداني). ووجه الغرابة ليس في كونه لا وجود له على أرض الواقع، وإنما لأن التعبير يعني واقعياً التحايُل أو الهروب من المُحاسبة، والتي هي ركنٌ ركين في العمليَّة الديمقراطيَّة. فالمعروف أنَّ الأمم والشُّعُوب التي تقدَّمت في مضمار الإنسانيَّة عرفت ما يُسمَّى (التسامُح الدِّيني) الذي جاء عقب دماءٍ أُهدرت وجَرَت مدراراً. كذلك عرفت هذه الأُمم والشُّعُوب (التسامُح الاجتماعي) عقب ممارساتٍ بعينها، مثل التفرقة العُنصُريَّة، ووضعت لها الأسس والقوانين الصارمة التي تجرِّم الظاهرة، وبالتالي استطاعت أن تصون إنسانيَّة مواطنيها، وعبرت نحو آفاق التقدُّم والازدهار والرفاهية. وفي مقابل كل ذلك، لم يعرف تاريخ هذه الدُّول أو غيرها من دول العالم ما يُسمَّى التسامُح السياسي، لأنَّ السياسة قائمة على مُمارسات توزيع السُّلطات بين الأجهزة الثلاثة، التنفيذيَّة والتشريعيَّة والقضائيَّة Checks and Balances، خاصة في الأنظمة الديمقراطيَّة، دون أن يصبح جهازاً طاغياً على الآخر. ولهذا كان من البديهي أن يحدث التخليط بين السلمية كما في ثورة ديسمبر والتسامح كما سلف شرحه.
المحور الثاني
التنظير والتطبيق
(1)
منذ بزوغ فجر الاستقلال من الاستعمار البريطاني في العام 1956م والسودان يعيش في دوامة أزمة وطنية شاملة بالتفسير الذي ورد ذكره، وقد طالت كل أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وظلت تتفاقم جيلاً بعد جيل إلى أن وصلت لأطوار مأساوية أفرزت تلك الحرب العبثية. وبغض النظر عن ماضي الاستعمار المؤلم، يؤكد كثير من المحللين السياسيين أن استقلال السودان كان سلساً في خواتيمه. بدليل أنه لم يشهد نقطة دم واحدة. بل على العكس امتدت مراسيم وداعه حتى محطة القطار الرئيسية في الخرطوم العاصمة، مصحوباً بالدعوات والورود والهدايا التذكارية. وآنذاك خاطب السير روبرت هاو آخر حاكم المودعين وقال لهم: أصبحتم أحراراً في بلدٍ مترامي الأطراف متعدد الثقافات، وذكرهم بأنه لم يحكمهم من الخرطوم وإنما طاف بأرجاء البلاد شبراً شبراً، لكن سيراً آخراً من عصبته قال قبل أن يغادرنا إننا لن نتقدم قيد أنملة بسبب التشاحن والتباغض والحسد المتفشي بيننا. ثمَّ جففنا دموعنا وتبادلنا التهاني وطوينا تلك الصفحة بما حملت من خبايا، ولأننا أناس طيبون كما قال السير هاو نفسه غفرنا ذنوب كل الاستعمارات التي تعاقبت علينا فرادى ومثنى، ثمَّ شرعنا في تذوق طعم الحرية ولم نتبين طعم الدم الذي كان ممزوجاً معها. لأن السير هاو لم يقل لنا إنه ترك من ورائه قنبلة موقوتة في خاصرة الوطن.
(2)
لقد انفجرت مشكلة الجنوب في أغسطس 1955م والتي مثلت التحدي الأول للنخبة السياسية الشمالية التي كانت تتأهب لإدارة دولاب الدولة. وهو تحدٍ لم نستطع التعامل معه بمسؤولية وروح وطنية، ورغم أن المشكلة في أطوارها الجنينية الأولى، لكنها أصبحت تتضخم وتتفاقم جراء المعالجات الخاطئة وأصبح ذلك نهجاً في كل الحكومات التي تعاقبت فيما بعد. سواء مدنية ديمقراطية أو عسكرية ديكتاتورية، وشملت حتى الفترات الانتقالية التي بينهم، إلى أن أصبحت الحرب الأهلية الأطول في أفريقيا، وسجلت النخبة السياسية في أجندتها أول مظاهر الفشل (ولم نعتذر للجنوب حتى الآن). كذلك لم يدم الاختبار الثاني طويلاً، ففي العام 1958م أي بعد عامين إلا قليلاً على حديث روبرت هاو قام جنرالات القوات المسلحة بتدبير أول انقلاب عسكري في البلد الذي خرج للتو من استعمار أجنبي ليدخل في شباك استعمار وطني. ودخلت النخبة أولى دهاليز المتاهة الكبرى، لكن الأغرب من ذلك أنه بعد أكثر من ستة عقود ونصف على حدوث الانقلاب ما يزال البيزنطيون يتجادلون حول من سواه ولم يخف عقباه. لكن السؤال الذي ينبغي أن نطرحه في إطار مفاهيمي استقصائي: هل كان العسكر أكثر شراهة للحكم أم أن المدنيين الأكثر عجلة للجلوس على كراسي السلطة؟ أياً كانت الإجابة المعروفة سلفاً لدى الكثيرين، فإن ما حدث كان دليلاً على فشل انجاز المهام التأسيسية لبناء الدولة الوطنية في حقبة ما بعد الاستقلال.، وتمَّ ترحيل هذه المهام مما أدى إلى تراكمها، فكانت منفذاً لبدايات الصراع حول السلطة بين المكونين المدني والعسكري. وتكرر هذا المشهد عقب الثورات الثلاث.
(3)
ارتفعت أسهم أجندة المشروع الوطني مجدداً بعد اندلاع الثورة الشعبية الأولى في التاريخ السياسي السوداني (أكتوبر 1964م) وهي الحدث الذي استردت به الطبقة الوسطى ريادتها من الحكم العسكري الاستبدادي الأول. وجددت الآمال بإمكانية الاتفاق حول مشروع وطني شامل في ظل نظام مدني ديمقراطي، تمهد له فترة انتقالية قصيرة (أقل من عام) لكن المعروف سلفاً أنه لم يكن ميسوراً للثورة الشعبية أن تنتصر لولا التوافق الذي حدث في تكوين جبهة الهيئات (تكونت من النقابات وانضمت لها الأحزاب التقليدية في إطار ما اسمته الجبهة الوطنية) وقد طرحت جبهة الهيئات شعاراً مُلهماً وجاذباً وظل متوهجاً عبر الحقب التاريخية المختلفة، وهو شعار الاضراب السياسي والعصيان المدني الذي أدى فعلياً إلى إنجاح الثورة.
(4)
لم تكن الصورة وردية بالكامل إذ إن خلف الكواليس كانت خفافيش الظلام تحيك في مؤامراتها. وما حدث يوم 27 أكتوبر1964م ظل يتكرراً في التاريخ السياسي السوداني عقب ثوراته الشعبية الثلاث. لم يرضخ المجلس العسكري لتسليم السلطة إلا بعد مفاوضات قضت بعدم محاكمة الجنرال إبراهيم عبود ورفاقه، وبقائه على رأس السلطة. الأمر الذي يؤكد ما ذكرناه في أن التاريخ السياسي السوداني عبارة عن نسخة مكررة. فذلك ما تكرر بالضبط في دهاليز ثورتي أبريل وديسمبر مع اختلاف طفيف في الحيثيات. لكن الأهم من ذلك أن الجنوب أصبح بمثابة (كعب أخيل) الأزمة السودانية. وقد ظل الجنوب على مدى سنوات وباختلاف الحكومات يحدد مصير الأنظمة في الخرطوم، بل لقد أثبتت مجريات الواقع أن عموم الشعب السوداني لم يكونوا طرفاً في تلك الحرب ولا الحروب التي ظل يدور رحاها على أرض السودان، وقد أصبح أمره محصوراً في دور الضحية.
(5)
بيد أنه في غضون الفترة الانتقالية نفسها توفرت فرص تاريخية ثمينة للتوافق حول مشروع وطني. إذ تم عقد مؤتمر المائدة المستديرة في يوم 16/3/1965م وكان ميسوراً أن يستصحب كل القضايا ليصبح مؤتمراً دستورياً يعالج أمهات القضايا السودانية في بلد أرهقته الاستعمارات المتعاقبة. إلا أنه تمَّ حصر المؤتمر في مناقشة مشكلة الجنوب وحدها، ومع ذلك لم تف السلطة بما وعدت، بل على العكس ازدادت الحرب في الجنوب ضراوة. وهنا ثمة ملاحظة جديرة بالاهتمام تشير إلى تمرسنا على إضاعة الفرص التاريخية والتحسر عليها فيما بعد. في ذلك المؤتمر جاءت النخبة السياسية الجنوبية بثلاثة خيارات: وهي إجراء استفتاء في الجنوب حول الوحدة أو الفيدرالية أو الانفصال، فرُفض المقترح، ثمَّ عُدل المقترح وطالبت النخبة الجنوبية بالفيدرالية مع الشمال بإدارتين وجيشين منفصلين. ورُفض هذا المقترح أيضاً وانهار المؤتمر فاشتعلت الحرب. وهكذا قبلنا صاغرين ما رفضناه بالأمس، بل قبلنا الانفصال الذي أنكى وأمر. وفي كل المقترحات المرفوضة لن تجد سبباً منطقياً سوى التعالي والعنصرية وكأنه لم نذق مرارتها على يد المستعمر. ومرة أخرى لم نعتذر للجنوب الحبيب حتى اليوم!
(6)
كانت النخبة على عجلة من أمرها، ففي نفس عام فشل المؤتمر، أقيمت الانتخابات بعلاتها، وكان ذلك بمثابة الفشل الثالث في أجندة تلك النخبة التي أمسكت بزمام الأمور. فدخلنا الحقبة الديمقراطية الثانية ونحن أكثر رهقاً جراء انعدام الرؤية في مشروع وطني. وازداد الأمر سوءاً في العام نفسه حيث شهد ممارسات بعيدة عن النهج الديمقراطي، إذ تواطأت القوى اليمينية على طرد الحزب الشيوعي السوداني من البرلمان. وكان ذلك انذاراً مبكراً بدخول ظاهرة الإسلام السياسي إلى مُعترك الصراع، وسبق ذلك ارهاصات طرح الدستور الإسلامي وقد مثل ما حدث الفشل الرابع في أجندة النخبة السودانية. ولم تمر بضع سنوات إلا ويرد الحزب الشيوعي الصفعة بانقلاب عسكري ثانٍ في 25/5/1969م ومرة أخرى يستدعي الانقلابيون مشكلة الجنوب كمبرر لا سيما وقد تمددت ودخلت فيها أطرافٌ إقليمية ودولية باتت تهدد السودان كله بالتمزق. فجاء الانقلاب الثاني بتنفيذ منظرين جدد حيث ارتدى النظام ثوب الراديكالية وأعلن أن السلطة انتقلت للعمال والمزارعين، والجنود، والرأسمالية الوطنية، والمثقفين. وكان ذلك عاملاً جاذباً، ولكن دخول الايدولوجيا كان إيذاناً بدخول السودان في محاور إقليمية ودولية.
(7)
للخروج من أزماته المُتفاقمة تبنى النظام الديكتاتوري الثاني أطروحة الإسلام السياسي بالإعلان عن تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية أو ما سُمي قوانين سبتمبر 1983م بتحالف مع رأس المال العربي الذي دخل البلاد مسبقاً (العام 1977) بعد ما سُمي (المصالحة الوطنية) بذريعة العمل على ايقاف الحرب في الجنوب وهو ما حدث بالفعل، حيث توقفت لمدة عشر سنوات 1973- 1983م الأمر الذي أدى إلى ظهور الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق في الساحة التي كانت حكراً على حركات تمرد تقليدية (الأنانيا 1 و2 ) وبذلك اكتسبت الحرب بعداً إقليميا ودولياً كما أشرنا. وإزاء استبداد وديكتاتورية النظام استلهمت النقابات تجربة جبهة الهيئات وكونت التجمع النقابي. وللمرة الثانية يصنع الشعب السوداني ثورة عظيمة، ولكنه لم يحسن الحفاظ عليها لذات الأسباب التي أجهضت سابقتها.
(8)
السؤال نفسه يقودنا إلى التأمل في الحقبة الديكتاتورية الثالثة 1989م. التي تمدد فيها الإسلام السياسي ودخل في تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والعسكرية والثقافية وأصبح مهدداً حقيقياً لذوبان الدولة وتلاشيها. إذ قامت الحركة الإسلاموية عبر خطط تمويهية على فعل انقلابي ظاهره عسكري وباطنه ثيوقراطي. وعبره قام عرَّاب الانقلاب (حسن الترابي) بخديعة تقاصرت دونها أفعال الأبالسة، ولم يشهد التاريخ السوداني لها مثيلاً (أذهب إلى القصر رئيساً وسأبقى في السجن حبيساً) وعلى مدى ثلاثة عقود زمنية نتج عن هذه الحقبة أسوأ نظام ديكتاتوري ذاق فيه السودانيون مر العذاب في القتل والتعذيب والفساد والاستبداد وكل الممارسات القبيحة.
(9)
على الصعيد المقابل شهدت هذه الفترة توحيداً غير مسبوق في التاريخ السياسي السوداني لقوى المعارضة، حيث انتظمت القوى الحزبية والنقابية والعسكرية في تنظيم موحد في يونيو 1995م وشهد ولادة التجمع الوطني الديمقراطي في العاصمة الإريترية أسمرا. ولقد جاء التميز من عدة زوايا أولها أنها المرة الأولى التي تتوحد فيها المعارضة الشمالية مع القوى الجنوبية. ثانياً: شرعت القوى الشمالية في استخدام السلاح بسجال مع النظام بعد أن كان حكراُ على الجنوبيين. ثالثًاً: دخول أطرافاً إقليمية ودولية في المعترك السوداني علانية. رابعاً: وضع المؤتمر إطارا واقعيا وبرنامجاً شاملاً لحلحة مشاكل السودان، وتمت معالجة أهم قضيتين كانتا تشكلان عقبة وهما مسألة الدين والسياسة، وحق تقرير المصير. الأمر الذي جعل مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية يعد من أنجح المؤتمرات المعارضة في التاريخ السياسي السوداني، من ناحية التنظير والتفعيل. لكن بعد أن جرت مياهٌ كثيرة تحت الجسر إثر الدخول في نفق نيفاشا غابت بعدئذٍ أهم ميزة في النشاط السياسي السوداني وهي فريضة النقد الذاتي.
(10)
دخل السودان حقبة جديدة بعد ثورة ديسمبر التي ملأت سيرتها الآفاق، واسقطت نظاماً ثيوقراطياً بعد ثلاثين عاماً من الفساد الممنهج والدمار السياسي والأخلاقي والانهيار التام لمنظومة الدولة. بدأت في ديسمبر من العام 2018م الثورة لتتوج بنصر عظيم دك معاقل النظام الإسلاموي الديكتاتوري في 11 أبريل 2019م لكن خفافيش الظلام لم تدع ثورة ملأت سيرتها الآفاق في كل بقاع الدنيا، فعملت على زعزعة فترتين انتقاليتين لم تكملا العامين، وختمتها بانقلاب آخر في 25 أكتوبر 2021م من صنع فلول النظام وتنفيذ الجنرالين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو وهو ما نعيش مأساته الراهنة.
التوصيات
هذه التوصيات باعتبار ما سيكون وليس ما هو كائن
أولاً: ضرورة إدراج قيم الحرية والديمقراطية والسلام وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية في منظومة المناهج التعليمية بمختلف مراحلها.
ثانياً: تكريس وتشجيع العمل على نشر منهج النقد الذاتي.
ثالثاً: تقريب وجهات النظر المتعددة بإخضاع الوثيقتين المتاحتين (الاتفاق الإطاري/ الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب) لحوار حضاري بناء يزيل التناقضات بين الوثيقتين ويوائم بين التنظير والتطبيق.
رابعاً: الاتفاق عل رؤى وتصورات محددة لمرحلة الانتقال وفق الإصلاحات الهيكلية المطلوبة في أجهزة الدولة، إلى جانب التشاور والحوار حول مرحلة ما بعد الحرب وتحديد مهام المكونين المدني والعسكري.
خامساً: ضرورة إيقاف الحرب فوراً وذلك بالاتفاق على رؤية محددة ومفصلة، والذي لن يكون مقابله الإفلات من العقاب والعبور فوق جثث الشهداء.
سادساً: إقرار مبدأ المحاسبة الشاملة موازاة مع إصلاح الأجهزة القانونية والعدلية.
سابعاً: الإصلاح الشامل للأجهزة النظامية بتحديد مهامها وضمان قوميتها ومهنيتها وحياديتها وتمثيلها كل السودانيين.
ثامناً: إعادة النظر في لجان تحقيق فض الاعتصام واعتبار الحدث بداية تاريخ المحاسبة ويشمل بعدها ما تلاه.
تاسعاً: الشروع في تكوين لجان متخصصة تبحث كل ما يتعلق بالحرب ابتداء بالتحقق في من أشعلها وارتكب الانتهاكات المُتعددة والمتنوعة.
عاشراً: ادراج حزب المؤتمر الوطني وفلول النظام السابق والتنظيمات التي يرعاها كحركات إرهابية ونشر ذلك على مستوى العالم.
حادي عشر: حل قوات الدعم السريع والنظر في الكيفية التي يمكن أن تُدمج بها في القوات المسلحة.
ثاني عشر: فصل وعزل ومحاسبة القيادات العليا للقوات المسلحة لتورطهم في جرائم متعددة من قبل وبعد الحرب، وكذلك لتورطهم في شرعنة مليشيا قوات الدعم السريع وكذلك ما قبل وبعد حرب أبريل.
ثالث عشر: الاعتذار لشعوب جنوب السودان وجعل ذلك يوماً وطنياً في كل القطر.
رابع عشر: التعاون مع الأجهزة العدلية الدولية وفي طليعتها المحكمة الجنائية الدولية فيما يختص بتسليم المطلوبين للعدالة.
خامس عشر: الإشادة بلجان المقاومة في شتى بقاع السودان لدورها الوطني الرائد في التعامل مع الأزمة وتقديم العون والمساعدات والوقوف إلى جانب المنكوبين في ظروف المخاطر المحدقة.
خاتمة
لا تسألني إن كان القُرآنْ مخلوقاً.. أو أزلي
بل سَلْني إن كان السلطان لصاً.. أو نصف نبي.
أمل دنقل