ثقافة - قصة قصيرة - 21 نوفمبر 2023, 10:25

النازح

هاشم محجوب
ما مر يوم على حبوبتي ما حكت فيه عن إرث لها في أرض خلفها آباؤها، ولتأكيد حقيقة ذلك، كانت تدعي أن الأرض في جزيرة على النيل اسمها (أبقسي)، آباؤها سمعوا بالمهدي، والأرض على وشك حصاد، ما اكترثوا لحسابات ربح وخسارة، انشغلوا بما هو أهم من حسابات الدنيا (أم فرندقس)، زربوا أرض زراعتهم وبيوتهم بالشوك، وخرجوا متعجلين، علهم يدركوا بعض ما تبقى من الموت والشهادة، كانوا في رهط من جماعتهم، ساحوا في البلد، خلفوا بعضا من دمهم هنا، وبعض قبور هناك، وبعض نساء دخلوا عليهن بالحلال وغادروهن وهن على وشك وضوع، يجرجرون الشقيانة ويحملون عبء مرقعة مثقلة بالعرق والغبار والتعب، يطاردون أملا كلما تمكنوا منه تفلت بعضه ليتربص بهم في قرية، وربما في بندر أو خلاء. حبوبتي قالت إنه ومنذ أن تزوج أبي ابنتها الوحيدة.. (عوينة أم صالح)، ظلت تنبح فيه نبيح الكلاب، لكي يذهب ويأتر تلك الأرض، لكنه كان دائما ما يكون مشغولا (بقٍدة) أو فارغة أو متصيعا مع ناس “هوي يا ليلى”، كنت أقول لها ضاحكا: الواطة دي لو كانت موجودة يا حبوبة تلقيها اتجازفت زمان.. وين يا..، تسفهني وتصفني بالمسخوت، تتجرع (كورية بقنيتها) وتتجشأ، تقلي بنها، ترفع المغلاة قريبا من أنفها َوتستنشق رائحة دخانها، تدمع عيناها، يكاد أن ينقطع نفسها، تقول إن مزاج القهوة كله يكمن في استنشاق دخان بنها المحروق، ترتشف قهوتها، فينز منها عرق كندى شبورة، تتناول (حقتها) من تحت طرف فرشتها، تضع سفة صغيرة إلى جانب أسنانها الخلفية من الجهة اليسرى، بعدها ولساعة كاملة نسمع صوتها يتحاوم حولنا مثل (أبو الدنان) تعدد، وتوصف، وتجرجر كلام مناحات تندب بها أرض آبائها المدعاة، تتعب، ترفع قدميها الحافيتين دوما عن الأرض، تستلقي على ظهرها وهي تقول.. يا حليل الإنغليز، ترفع رأسها عن وسادتها، تحرك جسدها وتستند على جنبها، تبعد رأسها عن ساق العنقريب، بلسانها تتناول السفة من جانب فمها، وتقذفها على الأرضية الترابية، تعيد جسدها إلى وضعه الأول، تتحصن بصوت مسموع، تتثاءب، وتنام كمنتبهة، ناسية أن تغلق عينيها، تقول أمي.. دا نوم الغزال، هذا كل ما كانت تفعله حبوبتي منذ أن عرفتها، كل ما تفعله َوما تهضرب به من الكلام، مستيقظة أم نائمة، مفهوم لدي ، لكن عبارة “يا حليل الإنغليز”، بدت لي كأنما هي نزوة ارتجال أملاها عليها خارج النص والسياق ما تستبطنه من الكيد. كان يمكن للخليفة عبدالله في أغسطس ١٨٩٨م، ومع شورته المنقوصة، وحكمه البلاد بـ (أم أضان)، أن يتحصن داخل أمدرمان، منتظرا حملة إعادة الفتح لتقتحم عليه المدينة فيحاربها بين بيوت عاصمته، من بيت لبيت، وفي أزقتها وسوقها وشوارعها، ما كان هناك شيء ذا قيمة مادية داخل المدينة يخاف أن تلتهمه تلك الحرب، ما كانت هناك مؤسسات وشركات وأموال مكدسة في البنوك ومدارس وجامعات وثكنات عسكرية ومستشفيات ومستوصفات، وما كانت هناك عمارات وقصور، وضعوا فيها خلاصة الفن المعماري وذبدته، بما يرشحها كأثر خالد، فيخاف أن يلحق بها دمار ، إنها “مدينة من تراب” كما وصفها على المك،، كلما إبتَعدت عن النهر اقتربت أكثر من سافنيتها الغبشاء، ما كان فيها شيء ذا خطر، سوى مصنع بارود بدائي، وورشة لصك النقود، والتي ابتدأت بالذهب وانتهت إلى الحديد، وأسدين من أسرى الخليفة، مقيدين بالجنازير في بيت الأمانة. ما كان في حسابات الحملة أن تكترث لكل ذلك، وما كان الخليفة يخاف من تدمير صروح أو نهب ثروات، ومع ذلك رفض الخليفة الاستحكام والتمترس داخل المدينة، خرج بكل مقاتليه وعدته التي تجاوزتها صناعة الحرب لسهل كرري والنقعة، ليواجهوا ” المكسيم”، وهو سلاح فتاك محظور استخدامه لدى الأوربيين في الحروب ألتي تنشب بين دولهم، ترك الخليفة وجيشه خلفهم ما كانوا يخافون عليه حقيقة، بقعة المهدي، والأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، وكل من هو عاجز عن حمل السلاح والقتال، تواجه الجيشان، وجها لوجه، وتحاربا حربا لا رحمة فيها لنصف نهار، وانتصر من انتصر، وانهزم من كان المنطق يقول بأنه مهزوم… استباح كتشنر مدينة أمدرمان لثلاثة أيام، وقد قصد من ذلك تحفيز الأورط السودانية والمصرية، فهم الأكثر شراهة للغنايم، وقد تحملا غالب عبء تلك الحرب، وفي بالهم ما سيحوزوه منها من الغنايم، أراد كتشنر أن يرضيهم مع علمه ببؤس ما سيحصلون عليه نتيجة لقراره باستباحة المدينة، بعد نهاية المدة المحددة، أنهى ذلك القرار، أمن الناس على أنفسهم وبيوتهم وأعراضهم وأموالهم وطلب منهم أن يعودوا لحركتهم العادية وممارسة حياتهمَ الطبيعية. كانت تلك سياسة، وهي سياسة لينة، وجاءت عقب كرري الدامية، وقبل سنتين من نهاية القرن التاسع عشر المعروف بوحشية حروباته وعنفها.
بعد ما يتجاوز المائة وعشرين عاما، جاءت حرب ١٥ أبريل، المريبة، والمطموسة الأسباب والمشبوهة النوايا، اعتقد بعض من الناس أنها مجرد تمرين لتنشيط مفاصل البنادق حتى لا تصدأ، قالوا إنها لن تستغرق زمنا يذكر، والواقع أن كل طرف من طرفي القتال كان يجهل قدراته وقدرات الطرف الآخر، وعليه لم يكن هناك من يستطيع تخمين الخسائر ألتي ستنتج عنها، أو التنبؤ بنهايتها، من أوقدوها كانوا مغامرين، ويتوهمون حقا إلهيا يقرروا بموجبه الحرب وتدمير المدن، وقتل من يقيمون فيها وتشريد من يتبقى منهم، مر شهر ودانات المدافع المعلوفة بالشر، والتطلعات النزقة وشهوة التسلط، تدمر كل شيء، الطائرات تقصف من فوق رؤوس الناس، والأطماع المتقيحة تفرز صديدا، بدأ سكان المدن يغادرونها بأطفالهم وشيوخهم ومرضاهم.
ما كانت أمي خائفة على نفسها، ولا علينا، ولا على بيتنا، بيت الجالوص المتهالك، قالت إن هذا البيت “عضمه قوي”، فبرغم توفر الأسباب، وتوالي الفصول ، حر الصيف، وشتاءات البرد الجاف، وخريف البرق والرعد والمطر، والطائرتين الإيطاليتين في حرب حمار ست اللبن، بقي البيت لأكثر من مائة عام، وسيبقى، ولن تهدمه كراكيب حديد ودق (دلاليك).قالت .. سنخرج ، سنذهب إلى (أبقسي) تفاجأت بقرار أمي بالذهاب إلى أبقسي، هي لا تعرف لأبقسي هذه إتجاه ، ونحن أيضا لم نسمع بها إلا من مناحات حبوبة، أمي ما غادرت مدينتنا هذه يوما، ولو أخذوها لأي مكان وقالوا لها إن تلك هي أبقسي، لصدقت، وربما تخرج لتتوه في البلد سائلة عن إرث جدودها، تمسكت أمي برأيها، قالت: نحن أصلنا مارقين مارقين، فأحسن نمشي لأبقسي، عشان نرضي على حبوبتكم، كأن خروجنا لن يكون بسبب الحرب، وحبوبتنا ماتت قبل نصف قرن، وجاء موتها بعد أبي بسنتين، وقد توفي هو في عام ١٩٦٩م، قالت أمي مهددة: يا أبقسي يا انتو تمشو فجة ماشين، وأنا أقعد في محلي دا وأنتظر يومي، هل كانت أمي تصدق مناحات حبوبة، أم أن الحنين بعبثيته اللامجدية طالبها برد جميل الموتى و ذكرها بأن ذلك دين قد حانت حرب سداده ، وافق أخي الأكبر وأولاده على الذهاب معها، أما أخي الثاني فقد رافق زوجته إلى أهلها بالنيل الأبيض، إخوتي تزوجوا، وأنجبوا الأبناء، وبقيت مثل السيف وحدي، قلت لهم سأبقى لحراسة البيت، كنت أعلم بأني ومن بقي من الجيران ربما سيكون بقدرتنا أن نحمي البيوت من بضع لصوص، لكن كيف يمكن لنا أن نحميها من البنادق وشظايا الدانات وقصف الطائرات، ووحشية باءات متماهية مع غواية رائحة الدم ، خرجوا جميعا، كل لَوجهته، انقضى شهر منذ مغادرتهم، ما زلت في مكاني، ما انقطع سيل الشظايا عن السقوط على البيوت والجدران، وازداد القصف عنفا، الناس يتنفسون مزيج من الخوف والدخان، انهارت البيوت بفعل القصف العشوائي، تحرش العساكر بالناس داخل بيوتهم، وأزعج هرج الطلقات الحيوانات الأليفة، طار الحمام، ” ركدت” الدجاجات، وما بقيًّ لذوات الثدي ما تجتره سواء طعم الموت ورائحة البارود ، فتحت الأبواب عنوة، في وجود أصحابها أو غيابهم، قتل ناس، واطفال ماكان قد آنً لهم أن يتحسبوا للموت، تمزقوا أشلاء، غبرت بعض (الجتت) في البيوت وفي المدارس وفي الأزقة، ودفنت جثث داخل مصارف المياه و(الجخانين)، تركت جثث في العراء، وأخرى داخل بيوت خالية ما وجدت من يواريها الثرى، الأثاثات التي كانت تمنح كل دار رائحتها وخصوصيتها تم نهبها، وما خرج علينا طرف من الأطراف ليجيب على سؤال هذه الحرب.. كل هذا من أجل ماذا؟؟..
ما كانت الكلاب في حاجة لغابة أو أحراش لكي تتوحش، الطيور مهاجرة أو آيبة ، تجاوزت من فوق السحاب تلك المدن المتغطية بشملة من خيوط الدم، ومحتملة دخان طلح من البارود والنحاس يلسع مؤخرتها. مع كل ما يحيط بي من الرعب، لم أحس رغبة بمغادرة البيت، ولا المدينة، رأيت الجثث ملقاة على قارعة الطريق، والكلاب والقطط تتحاوم حولها، وكنت وأنا بداخل الدار أتنفس رائحة الأجساد الميتة والمتعفنة، ما أردت أن أبقى بسبب شجاعة كان يمكن أن أدعيها، َولكن بسبب القرف، وخيبة الأمل وكتمة اليأس ألذي اعتراني حين اكتشفت أن الحديث عن قيمة الإنسان التي تميزه عن بقية المخلوقات لم يكن إلا ادعاء كاذبا وهراء مسرحيا، وأن رائحة جثة إنسان منسية أو مهملة قصدا أو عجزا، لا تختلف عن رائحة فطيسة أي حيوان ملقاة في مكب نفايات، وأنه وبقدر وجود تشكيلة حيوانات متوحشة ومفترسة وبدائية ، فهناك بشر بذات صفاتها ولا يختلفون عنها إلا بمداراة عوراتهم ، كان الوقت قد تأخر على الرحيل، حتى أصبح أن لا جدوى منه، فتلك الحرب بكل قسوتها ولا إنسانيتها، وبكل دمها ونتانتها قد سكنتني ولن تغادرني أبدا حتى لو نجعت إلى آخر مكان في هذا العالم، قررت كما قال ذلك الشيخ أن ” أرجى الله في الكريبة “، لكنهم وبعد أسبوع اقتحموا علي البيت، أمهلوني ساعة للمغادرة، ما كانت لدي خيارات كثيرة ألوذ بها، وجدت أن هناك حسابات رحيل ما تهيأت له، وسفر تبعده أو تقربه المسافات، وأموال لا يمكن تقدير كثرتها أو قلتها، فتقدير ذلك يعود لظروف معقدة وبعضها في علم الغيب ، وهي عصية عن التخمين، ما كنت على يقين من شيء إلا بذلك الحد الأدنى من الذكريات، والذي ظل ومنذ أن أجبرت على الخروج يعدد لي فضل التوجه لـ (أب قوتة)، سيتعرضون لي عند ارتكازات كثيرة، نقاط تفتيشهم منتشرة في الطرق، وهي حريصة على أن أخرج خالي الوفاض من حدود دولتهم الوهمية، سأجازف بالوصول إلى وجهتي، وبالعدم سأكتشف بحرا أو أرضا جديدة ، حتى وإن كان ذلك عبر رأس الرجاء الصالح، أو القطب الشمالي، حملت منظارا عتيقا كانت تخفيه حبوبتي بصندوق قديم، صندوق ظاهره من الخشب ومبطن بالتوتيا، وقد سبق في عهد الإنجليز أن كانت ترحل به الأموال من المركز إلى عواصم الولايات والمحطات، ومن البنَوك وإليها، أما المنظار فقد غنمه واحد من آباء الحبوبة، بعد أن نزعه من أحد القساوسة في جبال النوبة، كان أبوها ذاك من أولئك الذين قالت عنهم إنهم زربوا أرضهم في أبقسي بالشوك وخرجوا في شان الله، خبأ ذلك الأب غنيمته بعيدا عن حمدان أبو عنجة وعيونه، كان ذلك هو الإرث الوحيد الذي آل إليها حقيقة دَون ادعاءات أخرى، ما كان لي في أب قوتة أحد من الذين كنت أعرفهم، أو الحقيقة كان يعرفهم أبي، ماتوا، أو غادروا إلى ديارهم بسبب إحساسهم باقتراب موتهم، آخر مرة كنت فيها هناك، كانت قبل أكثر من نصف قرن من الزمان ، فقد زرت حينها أبي الذي كان يقيم ويعمل بها، كانت زيارتي لها في عام ١٩٥٩م، حينها كنت بالكاد قد أكملت السنة التاسعة من عمري، أعلم أنها بلدة في حالها، بلا تعديات ولا شبهات سرقة ولا تجاوزات يؤبه بها ، يداريها ظل سلطة غير محسوس، ولن أجد فيها ما يشغلني عن نفسي، الآن أعود إليها مطرودا من بيتي ومدينتي، أنهيت حزم خرقي في شنطة ظهري الجلدية، حشرت المنظار بين الملابس عنوة.. كأني أرى أبي يغادر أمدرمان موطنه الأصلي إلى مكان وأيام يجهل ما وراءهما، فوراء كل سفر مصير تداريه مسافات الرحيل، خلفنا أبي في بيتنا، ثلاثة اطفال وأمهم، رحل بعد ممانعة ومماطلة، ما كان السفر سيكون واحدا من مشاريعه فيما لو كان قد خطط للزمن بين أول حياته وبلَوغ أجله ، كان في الخمسين من عمره، طويلا وأصلعاَ، بصوته (لَجَنَة) محببة، وينشز حتى في ونسته، ومع لجَنَتهُ ونشاز صوته كان يحلم بأن يصير صائعا، وغنايا مثل كرومة والأمين برهان، وربما يشكل ثنائيا مع واحد من اثنين من جيرانه، ود حِجَّة أو عثمان ضَرَبَه ، أبناء عمومته هم من ألحوا عليه للذهاب معهم لعمل في أب قوتة اعتقدوه مجزيا، لكنهم في الواقع كانوا يريدون أن يوقظوه من أحلام يقظته الصائعة، وينتشلوه من وهدة عمله المتقطع، كانوا أصحاب دكاكين في سوق تلك البلد، وفدوا إليها من قرى ومدن قريبة وبعيدة ، ومن كل خلاء كانوا قد طمروا فيه تضاريس وشقوا دروبا وراكموا طينا، ما كانوا أول الوافدين إليها ولا آخرهم، فمن عمق أراض نائية جاءتها جماعات وأفراد قدموا من كل أنحاء واتجاهات السودان وهوامله، وقدم إليها الحجيج من أطراف غرب أفريقيا ليستجموا قليلا ويواصلوا رحلتهم إلى مكة، عملوا في لقيط القطن، ثم استقروا في الكنابي، جاءها من كان عابر سبيل، أو مر بها صدفة على ظهر لوري، فحط رحاله وأقام ، ما كانت أبو قوتة سوى قرية أكثر اتساعا من القرى التي حولها، ماء الشرب ينقل إليها من (الكنار)، على براميل من فوق عربات تجرها الحمير، والماء لأغراض أخرى يجيؤها من الترعة، في تلك السنوات كان أهلها مستخفين بعادية أمراض البلهارسيا والملاريا وشتى العلل، يتذمرون من ضيق مساحة المقابر، غاضين الطرف عن بؤس الشفخانة ومعيناتها وغياب الطبيب. فالمرض إحتمال لكن الموت أكيد، وجود رئاسة مشروع عبد الماجد في أبوقوتة، َوازدهار سوقها الذي، ينعقد في كل اثنين وخميس، جعلاها محجة لأهل القرى حولها، يأتون إليها على ظهور حميرهم ومن فوق حمولات لواري الهوستن والبيدي فورد والكندة، يسومون خضارهم وديوكهم وبيض دجاجاتهم ومعيزهم وحملانهم وسخلاتهم، ويبيعون حمارا أو أتانا انقطعت عنها الخلفة، متاجرين بحبالهم وسمنهم وروبهم، يعودوا منها محملين بغبار مطاطيق رفوف المتاجر التي تفوح منها رائحة هي خليط من رائحة الدمور وجبنة الدويم وزيت المعاصر والودك وروائح صندل ومحلب قديم ، في حقبة ازدهار مشروع الجزيرة، أيام مجده ، حلم أهل تلك البلدة وحكومةْ الاستقلالِّ الأولى بأن تصبح البلدة مدينة كبيرة، مساحة الأراضي الزراعية حولها واسعة، والقرى تحيط بها من كل الجهات، بدت التنمية في تلك المنطقة وفي كل أنحاء الجزيرة مبشرة، كان ذلك عقب سنة ” خُمي” وما تلاها من سنوات وحتى في عهد مكي عباس الذي جاءت به السودنة محافظا للمشروع، وصنوه وخلفه مكاوي سليمان أكرت، شهد سوق أبوقوتة انتعاشا في تلك الحقبة، شيدت دكاكين سوقها بالطوب المحروق، َمقاهيها عامرة، وطاولات َمطاعمها مبسوطة، ومواسم أعراسها بهجة وسعف نخيل، يأتيها أحمد الطيب من طابت ليغني في افراحها ” الشويدن روض الجنان” أو يُحيي لياليها الثنائي عثمان ضَرَبَة وودحِجَة ، والأول كان قد لحق بأبي من أمدرمان، صوته شجي، يغني ويمدح، أما ود حِجَّة فهو (سبابي) يلبي طلبات التجار من البضائع، يرحلها من الخرطوم أو أمدرمان، يسلمها لهم، دون أن يغادروا مكانهم، كان مرجعا في الحقيبة، وحافظا للمولد والبراق، وبردة المديح للبوصيري. انتعشت سوق المدينة بفضل الأسعار المجزية للقطن طويل التيلة، وحتى تكتمل ” السيجة” ، َولصناعة المزيد من الانبساط والبهجة جاء البلد الخواجة إسكندر وفتح بارا، كادت البلدة أن تضع قدما في عتبة تصعد منها بضع درجات لتصبح المدينة التي تخيلوها، لكنها ما لبثت إلا قليلا وتوقف حالها، كما توقف الحال في كل البلد، اصبحت أب قوتة معلقة كالدامر في زمن محمد المهدي المجذوب، لا هي قرية بداوتها تبدو ولا هي بندر، هي ليست مدينة إلا في تملق السياسيين لأهلها، وفي مكاتبات أفندية الميري ودواوينهم، بقيت أبوقوتة كما هي، توقفت طموحات أهلها عند هذا الحد، قرية بتزاويق مدينة زينتها بها سنة (خُمي)، وما تلاها من المَواسم الناجحة في زراعة القطن. لا أذكر متى غادرنا أبي، لكني أذكر جيدا أن أبي لم يكن معنا في صبيحة يوم واحد يناير عام ١٩٥٦م، كان ذلك يوم الإستقلال ورفع العلم، وقد جازفنا أنا وإخوتي، مثل كل أهل البيوت، علما صغيرا بثلاثة ألوان، كنت ولفترة طويلة أعلم فقط أن شريحة أللون الأصفر في الوسط، ويختلط علي أمر أللون الأزرق والأحضر ، أيهما في الأعلى ؤأيهما في الأسفل، حتى رأيت وأنا على كبر ” حواء الطقطاقة في أحد أعياد ذكرى الإستقلال وهي ترتدي ثوبا بألوان علم السودان، فحفظت ترتيب تلك الألوان من مكانها في ثوب “الطقطاقة”. مضت أيام وجاءت أيام، سنتان من الحيرة والإرتباك، وفي يوم ١٧ نوفمبر، كان إنقلاب عبود، وأذكر أن أبي في ذلك اليوم، والأيام ألتي تلته كان في اب قوتة أيضا، كنت في السنة الثانية، في مدرسة ابي روف الأولية “ب”، أعود من المدرسة، أقذف بشنطة الدمور بما تحتويه من الكتب إلى كراب العنقريب أو سداه، أتسلل من باب الدار ” كعيكليت”، بلا صوت ولا نمة، أجلس في مسطبة برندة دكان عثمان الماحي، لأستمع لمرغني المامون وأحمد حسن جمعة وهم ينشدون.. ” رجال الجيش يا سعاد نفخر بيهم حفظوا حقوق البلاد ما اختاروا النوم والثبات بس قصدهم نعيش سعاد.. ” ، المذياع يكرر الأغنية طوال الوقت، فما تكاد تنتهى إلا لتبدأ، ويتواصل طربي السعيد، ما شغلت نفسي بمن تكون سعاد تلك، حتى ذلك اليوم الذي كنت عائدا فيه من مدرستي مدندننا بأغنيتها أطاقش في الحجارة، وأقشر في” العونكليب” فجأة وجدتني أتوقف عن كل ذلك، واتابع خاطر يتسلل إلي ذهني،… ” سعاد” ، ازمعت أمرا، سعاد كانت جارتنا في الحلة، واكبر مني بعامين ، تعودت في قدومي من المدرسة أن أدلف لزقاقنا من الجهة التي تلامس شارع الأسفلت ، لكني الآن سأدخله من جهة بيت ناس ” بت قباجي” ، أعلم أن سعاد ستكون تحت ظل النيمة في رأس زقاقنا بتلك الجهة ، هي “وكلاب ناس السرف” والسرف هي أم سعاد ، وكلابهم كانت مشهورة في كل أحياء أمدرمان بقلة إكتراثها باللصوص وبشراستها واستهدافها تلاميذ المدارس العائدين إلى بيوتهم بعد المدرسة، من بعيد لمحت الكلاب تتشمم الأرض في مدخل الزقاق الآخر، بعيدا عن شجرة النيمة، وسعاد تجلس لوحدها تحت ظل الشجرة تخيط كفلا لبت “أم لعاب” ، قررت أن أجازف، توجهت نحوها، وقفت أمامها، أنزلت حقيبة كتبي، أمسكتها كما “رق ود المامون”، وبدأت “،أخبت” فيها بما تخيلته إيقاعا، أطلقت صليل صاجات حنجرتي مغنيا.. رجال الجيش يا سعاد نفخر بيهم…، فتحت سعاد فمها مندهشة، لكن دهشتها لم تدم إلا لحظة، واصلت غنائي، وانا اتابع ما يتغير في تفاصيل ملامح وجهها، قَطَبَتها مرة واحدة ولم ترخها، صرتها ولمتها حول أنفها فأصبحت ككوم “كرشة ” باير في زنك “الكمونية” ، برطمت، طنطنت، وعيونها بقن حم م مر، تبين لي بأنها أزمعت شرا، حتى الكلاب من مكانها البعيد رفعت رؤوسها ونظرت في آتجاهي، ما لبًثت سعاد أن نهضت ، تناولت حطبة كانت قريبة منها، إستدرت وتهيأت للهروب، لمحت ” كلاب ناس السرف” مقبلات من بعيد نحوي متقافزة وقد بانت أنيابها ، إستغربت لذلك التواصل الغيبي بين سعاد وتلك الكلاب، بدأت المطاردة، ما كان بقدرة إعصار أن يلحق بي، حين أدركت الكلاب شجرة النيمة، وكادت سعاد أن تمسكني من لياقة ثوبي وتشدني أليها “، كنت قد دفعت باب منزلنا ودخلت، جلست في اول عنقريب صادفني، كنت مندهشا، بل متعجبا فقد تخيلت قبل ما حدث أن سعاد ستكون مبسوطة، إذا علمت إن إسمها غنى به أولاد المامون في الراديو، ويُغني به في محفل بحجمي، لكن العكس هو الذي حدث، من أول مرة غضبت، وسبتني، وسبت حتى رمضان، وهو جارنا أيضا، وكان “جياشي” وصول في سلاح الموسيقى، طاردتني بعود حطب حتى باب دارنا، وعلى الرغم من استغرابي من ردة فعلها المخالفة لما توقعت، وجدت في ذلك لعبة ممتعة، فصرت في كل مرة أراها قادمة وبعيدة عن “كلاب ناس السرف” أتأهب للغناء .. “رجال الجيش يا سعاد..” ثم أهرب، فتطاردني، كثرت مرات ملاحقتها لي، حتى صارت تفعل ذلك سواء غنيت أم لم أغنِ، فما أكاد أقترب منها في واحد من مشاويري حتى تنهض بحطبتها وتتجه نحوي هميمة، لتمتعني بمطاردة جادة وحقارة مسلطة، صارت أغنية أولاد المأمون تلك هي شفرة الشروع في لعبة “حرب الديك…سك الديك” بيني وسعاد، بعد زمن نسيت أغنية أولاد المأمون تلك ، وحتى الراديو نفسه تناساها، ما عدت أرددها، صرت مثل شباب هذه الأيام.. مدنيااا، تحول مزاجي، صرت أطرب لأغنية أحمد المصطفى.. “سميري المرسوم في ضميري” وأتمايل طربا.. مع القمري البقوقي برسل ليك سلامي، لكن سعاد بت السرف ما كفت عن مطاردتي، بدأ أن أغنيتي الجديدة تسبب لها نكدا لسبب لا أعلمه ، على الرغم من أن اسم سعاد لم يرد فيها بتاتا، غاظها سؤال لم تجد له إجابة.. من أين جاء أحمد المصطفى بمقصوفات الرقبة بثينة ومحاسن؟ “انظر ديك بثينة كمان شوف ديك محاسن”.. ماتت سعاد بالمرض الكعب “السُل”، في ذات يوم محاولة على حامد وعبد البديع علي كرار وأولاد كبيدة الإطاحة بحكومة عبود، بكيت وفي حصة الحساب سرحت، فضربني شيخ محمود في رأسي بحافة المسطرة عدة ضربات، فتجمد الدم في رأسي (كراضم.. كراضم)، بقيت مصدعا ليومين ومتغيبا عن المدرسة.. كان لأبناء عمومة أبي نفوذا في سوق أبوقوتة، ممارستهم للتجارة وإقامتهم الطويلة فيها جعلا لهم شأنا، وكان لهم زميلا من أهل الحلفايا، صاحب مغلق مجاور لبعض منهم، حظي بعطاء حكومي لإنشاء مدارس في أبوقوتة، وأخرى في بعض القرى التابعة لمشروع عبد الماجد، احتاج صاحب العطاء لمن يتولى عنه شغل النجارة في تلك المدارس، فتعهد له أبناء عمومة أبي بأن يأتوا له بذلك النجار، شدوا الرحال إلى أمدرمان في شتاء قارس ووجع فلايت ومفاصل، وحين عادوا إلى أبوقوتة كان أبي بصحبتهم وهو يغني.. يا حليل أمدرمان ويا حليل صباها، في جنح الليل فاح طيب لماها… كان عاشقا لأمدرمان، فهي سيدة الأمكنة، وبلد “هوي يا ليلى”.. وقام من البوخة قام ندى يهتف.. نام من الدوخة إيدو عاقباه، دفنوا فيها مشيمته، وكل حاجة فيها ليها سوق… سوق القش وسوق الطواقي، َسوق الجلود وسوق النسوان وسَوف أم سويقو وسوق الزلعة، وسوق الموية، وسوق علي الطلاق، وحتى الشمس في أمدرمان كان ليها سوق، وفيها حاجات كدا ما بتتفات.. زي زفة المولد، والبنية الاسمها العسل الغنى ليها الشاعر. “يا العسل يا النشفتي ريقنا”، حاجات وحاجات.. وحاجات.. وحاجة تقطع فيها إيدك… “البامية المفروكة بالشمار والكسرة الرهيفة والشطة الخضراء”… .. كان أبي متحمسا لليالي السياسية، ومهرجانات الإنتخابات ، والهتافات و”حررت الناس يا إسماعيل، الكانوا عبيد يا إسماعيل”، تتاوره صوفية قديمة متوارثة فيغشى الحوليات، يأكل الفتة، ويشرب الشاي بالغرفة ويتبخر بالبخور ، ويتمايل صعودا وانحناء، ويمدح بلجنة لسانه تلك ونشازه المحبب “ساداتي الأولياء البيكم توسلنا”، حزم كل ذلك في بقجته وخلع عنه ما كان بقدرته أن يخلعه وغادر، صحيح أن أبوقوتة لم تكن في بلد طيره عجم، بل في طرف مشروع الجزيرة القريب من الخرطوم، كان السفر إليها في ذلك الزمن باللواري، ويستغرق ساعات، وفي الخريف، ما كان يتسنى لأحد الذهاب إليها والقدوم منها إلا للضرورة القصوى وبالصاجات… أول ما بدأه أبي في أبوقوتة، ومن قبل أن يبدأ عمله الذي جاء من أجله، اصطفى له أصحاب من طرف السوق، مرحين وخفيفي الظل، يسرحون مرة، ويصغون لحديثه مرة، هكذا كانوا هم “خلقة الله” لا يقاطعونه ولا يغالطونه، ويضحكون لكل ما يصدر عنه، قدر أن هؤلاء يناسبونه وسيمنحونه وقتا مقدرا يأخذ فيه راحته ويسترسل في حكاياته التي دائما ما ينهيها بلازمته المفضلة.. ” شفت كيف؟”..، وفي كل ذلك لا يقاطعه أحد، كان يحكي لهم في قهوة عبد العاطي عن موسم انتخابات حضره في أمدر، قال إن السيد خلف الله خالد كان مرشحا في تلك الانتخابات عن حزب الشعب الديمقراطي، ورمزه كان الفاس، ومن جانب الاتحاديين كان المرشح الزعيم إسماعيل الأزهري، ورمزه الفيل، منافسو الأزهري كانوا يلقبونه بـ (أبو القدح)، كانت هناك ليلة سياسية يقيمها حزب الشعب الديمقراطي بموقع حديقة العمدة الحالية، جاء خلف الله خالد إلى الليلة وهو يحمل فأسا ضخما، وعلى رأسه طاقية رمادية أو سوداء، تشبه تلك الطاقية التي كان يضعها محمد علي جناح على رأسه، المسرح كان رصة من طاولات مكتبية صفت ملتصقة ببعضها بالطول والعرض، وفرشت عليها سجادة، صعد خلف الله خالد المسرح، وقف أمام المايكرفون، رفع فأسه إلى ما فوق رأسه وهزه بقوة، فالرجل برغم شيخوخته كان بصحته، وهو عسكريا، وأول وزيرا للدفاع في الحكومة الانتقالية، وهو من قام بسودنة قوة دفاع السودان، استمر الرجل يهز في فأسه بهمة وجماهير حزبه تهتف..”رمز الفيل يا خلف الله.. شقوا عديل يا خلف الله..” يوالي الرجل تعب هز فأسه وتوالي هتافات جماهيره طلبها بشق الفيل، بعد ساعة من الزمن بحت أصوات مناصري خلف الله خالد، وظل هو رافعا فأسه بشموخ، وفي مكان إخر وليلة سياسية أخرى كان مناصرو الأزهري يهتفون.. “الكهنوت مصيره الموت”، وفاز الأزهري. تولى أبي عمل النجارة لتلك المدارس واستعان بنجار آخر وبعض صبية وفدوا إليه ليعلمهم الصنعة… عمر عبدالله، من القطينة، وسالم وجبارة، من حلة (عبد الجليل) وهي قريبة من المسلمية، ثم علي عنكسة والفنان المعروف عبد الوهاب الصادق، والذي كان في ذاك الزمن صبيا، وما كان قد وفد إلى أمدرمان وعرف دروبها، وست الريد في زمن تلك الأيام ما كانت قسوتها في الخاطر ولا الدنيا كانت بزهايمر هذا الزمن، أنجزوا عمل مدارس ما تزال في مكانها الذي تركوها فيه، الفصَول بأبوابها وبشبابيكها الخشبية، وسقوف زنك يعود تاريخها للخمسينات بقيت لتظلل تلاميذها إلى يومنا… وصلت عربة الركاب التي كنت أستغلها إلى سوق أبوقوتة، تعمدت أن أكون آخر من ينزل منها، طوال الرحلة كان هاجسي المكان الذي سأقيم فيه، خاصة وأنا الآن لا أعرف أحدا في هذه البلد، في أثناء الطريق، وفي ونسة بين راكبين، استنتجت أن سائق العربة من أهالي أبوقوتة ومقيم فيها، تعمدت أن أكون آخر من ينزل عن العربة، انصرف الجميع، نزلت واتجهت نحو السائق، سلمت عليه، من ملامح وجهه بدا كمن خمن بأني غريب عن البلد، أطال السلام والترحيب، كأني لم أكن أحد ركاب عربته، انتظرته ليكمل عبارات الترحيب، قلت إنها ليست المرة الأولى التي أجيء فيها إلى هنا، لقد جئت لهذا البلد قبل مدة طويلة، أبي كان النجار الوحيد في أبوقوتة، بان عليه العجب، كأني أحدثه عن الإنسان الغوريلا ذاك ، أصدر صوتا ينم على الإستغراب.. “يا زول” واصلت حديثي.. الآن جاءت بي الحرب، وسأبقى هنا حتى نهايتها وربما إلى الأبد، لا أعرف أحدا، وقد جئت وحدي ولا أريد أن أقيم مع أسرة أو مع آخرين، أريد بيتا أستأجره لوحدي، ويكون قريبا من السوق، أحنى رأسه وسرح للحظات، أشار بيده وهو يقول.. شايف الدكيكينات الوسط السوق ديك، أمشي هناك واسأل من واحد بقولولو (ود الموية)، كان لميت فيه، هو البعدل راسك، باقي هو من الناس القدام في أبوقوتة، وسمسار أراضي وبيوت.. (ودالموية؟؟)… تذكرته، كان (وليد) في عام ٥٩م، غتيت، وقليل أدب، كان عنده كارو حمار ببرميل، ويوفر الماء للعاملين في دكان أبي، لكنه في بعض الأحيان، وفي غفلة منهم، يملأ الزير بماء الترعة بدلا عن ماء الكنار، ويغالط، وأبي يقول عنه وهو يسمع.. “الجنى دا ما ولدة نصاح”، ترى كيف هو الآن؟ ، توجهت نحو الدكيكينات، دخلت بين صفين منهم، أتلفت، وأتمعن بما في داخلهم من الهتش بحب استطلاع، رأيته.. (فضل الحداد)، مستغرقا في عمل بكلتا يديه داخل دكيكين، ما زال الناس يركبون الحمير ويسافرون على ظهور اللواري، ويسنون سكاكين ذبائح محتملة، كان فضل في زمن ٥٩ من المضامين، مسجون في إصلاحية أبوقوتة في جريمة قتل، ولكنه قضى أكثر من ثلثي المدة، وهو ذو أخلاق وأدب، فكانوا يسمحون له بالخروج ليتغيب طوال النهار، على أن يعود قبل صلاة المغرب للإصلاحية ويبيت فيها، وفي تلك الأيام كان دائم التواجد بالسوق، خاصة في يومي الاثنين والخميس لكسب رزقه، الآن أراه، صار عجوزا، وفي ونسة بعد ذلك قلت لود الموية، لقد رأيت فضل الحداد في السوق، قال لي: لقد تم إطلاق سراحه من زمان بعد أن صدر عنه عفو بمناسبة عيد الثورة، لا أدري عن عيد أي ثورة يتحدث، فإنهم كثر.. على الرغم من أن أبوقوتة لم تكن موطنه فقد بقي فضل فيها، يداه ترتجفان، وفكه يتحرك يمينا وشمالا مع صوت المبرد ومساساقته ، فيبدو كمن يمضغ شيئا، لكن الرجل ما زال هنا، ينفخ كيره ويسن تلك السكاكين لذبيح محتمل، وقفت لوقت طويل أتأمل فيه، ما كان منتبها لي، حين حولت نظري عنه، وفي اللحظة التي استدرت فيها لأواصل بحثي عن ود الموية، مر قريبا مني رجل يحمل دجاجات.. من فضلك.. نظر في اتجاهي وتوقف، سألته.. دكان ود الموية وين؟.. ما عنده دكان، ولا دكيكين، ضحك، قال وهو يشير بيده.. تراه داك قاعد في البنبر، قدام الدكيكين القبال الأخير، في إيدك اليمين، التفت إلى اتجاه وصف الرجل رأيته، مشنق طاقيته الحمراء كأنه عريس، ويحدق في عجيزة امرأة ضخمة تجاوزته، كانت تسير في الاتجاه المعاكس لي، صدق أبوي.. “الجنى دا ما ولدة نصاح”.. وقفت أمامه، سلمت، رد السلام، ونهض واقفا ومد يده لي.. ناولته يدي، أهلا وسهلا.. أهلا وسهلا، أمسك كفي بقوة وبدأ يهز يدي فسمعت طقطقة مفاصلها، أحسست بالألم وهو يضغط على أصابعي، أصبحت كفي في إيده اليمين عصفور، أهلا وسهلا.. حبابك. لم أستغرب لطول سلامه وترحيبه، فهو سمسار، إتفضل.. إتفضل ، قرب مني البنبر الذي كان يجلس عليه، دخل الدكيكن وعاد وهو يحمل بنبرا آخرا، جلسنا، وهو يكرر إتفضل.. إتفضل ، صمت للحظة، انتهزت الفرصة فسألته.. عرفتني؟.. نظر في وجهي، بدا مستحيا، كأنه يعتذر، كنت متأكدا أنه لن يعرفني، كما أني ما كنت سأعرفه لولا وصف الرجل صاحب الدجاجات، فقد مر ما يزيد عن الخمسين عاما، وكلانا أمسى نسايا، ما زال هو يفتش في ملامحي، غلب حماره، قال.. والله.. الوش ما غريب علي، لكن وين؟.. الله أعلم، لأزيل عنه الحرج عرفته بنفسي،… معقول؟؟.. إنت ود النجار الزمان؟؟ طيب من قبيل ما تقول لي كدا، لم يتذكر حتى اسم أبي، أكدت له بأني ود النجار الزمان، وذكرته بكارو الموية، وبالترعة وبالكنار.. و”الجنى دا ما ولدة نصاح” ضحك حتى استلقت رأسه خلف أكتافه وسقطت عنها طاقيته الحمراء، ضحتكه هي ذاتها، لم تتغير، ضحكة الجنى سيد كارو الموية، أنهاها فجأة، أعاد وضع رأسه بين كتفيه، وأرجع طاقيته إلى مكانها، وهو يردد؛.. يا سلام.. ياسلام، ناس أبوك ديل ما ناس أبوقوتة الزمان.. يا حليلهم، حكينا كثيرا ، وأعلمني بمن ماتوا، ومن نجعوا، في النهاية أبنت له بأني عدت إلى هنا بسبب الحرب، وأني سأبقى إلى نهايتها، وأريد بيتا للإيجار قريب من السوق، صمت للحظات كمن يفكر، ثم قال لي.. قريب من السوق مافي.. وما بتلقى.. أسألني أنا.. إنت براك ولا معاك عائلة؟.. قلت.. أنا لوحدي، العائلة سافرت لمكان آخر، عاد مرة أخرى للتفكير، رفع رأسه فجأة وقال لي.. طيب دكان أبوك ماله؟.. نهضت واقفا كملسوع، وقلت باستغراب دكان أبوي القديم؟؟… ضحك.. هو أبوك عنده دكان جديد؟.. ياهو ذاته القديم .. وموجود، أنا اشتريتو من سيدو، زمان كنت بشتري العيش، زمن الرخصة وبخزنه فيه، هسي فاضي، ومفتاحه معاي، واحتياجاتك، كان فرش ولا خلافه، أنا من بيتي بجيبها ليك، أقعد الوقت الداير تقعده، ووقت تبقى على المشي، سلمني المفتاح والله إعدل علينا وعليك، طوال حديثه كنت مندهشا، من وجود دكان أبي حتى إليوم، ومن السعادة ألتي أحسستها في تلك اللحظة،.. دكان أبوي؟؟.. “الجنى دا ما جنى نصاح” ، مرة أخرى دلف إلى داخل الدكيكن ، خرج وهو يحمل مفتاحا، إنه ذات المفتاح القديم الذي دائما ما كان في يد أبي أو في جيبه أو معلقا على مسمار بالحائط قرب نافذة الدكان الوحيدة، أحسست بظلال رطبة ومالحة تغشى عيني، انتابني حنين موجع، أمسكني من يدي وهو يقول.. أرح، تقدمني، سحبني من خلفه، فتبعته، كان دكان أبي “النجار الزمان” في الجهة الشمالية الغربية من السوق، لكنه كان خارج مربع الدكاكين الذي تحيط به ، وقد كان مواجها لدكان صلاح الدين ود القطينة ، ودكان (ودالقطينة) هو أول دكان من صف الدكاكين الشمالية الغربية، وقفنا أمام دكان أبي، أخرج ود الموية المفتاح من جيبه وأدخله في القفل، حدقت في التراب أمام العتبة، كأنما آثار أقدامهم ما تزال هنا، ترى أين ذهبوا؟.. ربما غادروا إلى قرية (فطيس)، لإكمال عملهم هناك، لكنهم ما قالوا أنهم سيذهبوا، ربما توجهوا لقهوة عبد العاطي، فهم من روادها المداومين، ففي المساء من كل يوم تجدهم فيها، يحتسون الفرنساوي (القهوة بالحليب) ويلعبون (الكونكان)، الوقت الآن نهار، لن يكونوا هناك، تقاذفتني عدة احتمالات، رفعت رأسي إلى أعلى الحائط الأمامي للدكان، رأيت يمامتين على حافة إحدى سبلوكات السقف، كانتا تتناجيان، ترى هل يفعلان ذلك بذات لغة الغزل التي كانت سائدة بينهم قبل أكثر من خمسين عاما، هل تفعل الطيور وبقية الحيوانات أشياءها بذات الطريقة التي كانت تفعلها بها قبل آلاف السنين؟.. ، تضاءل جسدي إلى بنية ذلك الصبي الذي كان هنا وبالكاد قد تجاوز التاسعة من عمره ، أحسست بأني أنكمش، أتضاءل، أصغر، يسقط جسدي عنه وعثاء السنين، وينفض غبار تفاصيله المتراكمة، ويمسح خربشات عبث الكهولة التي أحدثها الزمن في غفلة من مرايا العمر، تهيأت بأن لا أتذكر، بل علي أن أعيد الحياة إلى لحظاتها الأولى، أنشط خفقات قلبها، وأنتشلها من ركام الموت والنسيان، فتح ود الموية القفل، قال لي إن القفل قد دخله الصدأ، استغرق فتحه زمنا، الطلاء الأخضر لضلف الباب تحول إلى شحوب شيخوخة ينتهي إليها بهاء الألوان بسبب وحشة الأيام وغبشتها، وقسوة تعاقب الفصول ، الباب ظل صامدا، كل هذه السنوات العاصفة ما خلخلته ولا اقتلعته من الأرض، والجدران تتشبث به من جانبيه، أشرع ود الموية ضلفة واحدة من الباب، من داخل الدكان هبت نسمة دافئة بعبق رائحة خشب الموسكي المعتقة، دلف إلى الداخل وتبعته، أول ما رأيته كان زير الماء ، الزير القديم بذات ضخامته، وفي ركن الدكان الذي كان فيه منذ الأزل، شقوق رفيعة تحاول أن تخترقه فيصدها، فتظل معلقة به كشعرات ذيل حصان أشقر ، لون فخاره أمسى شاحبا كالعطش، من فوقه غطاؤه القديم وكوز التوتيا الأثري، في ركن آخر من الدكان ذلك الكرسي الخشبي، كان قويا، نجره أحد تلاميذ أبي، استهلك فيه خشبا كتيرا، صار ثقيلا كجذع شجرة سنط ، ارتكب ذاك التلميذ سبعة أخطاء مؤسسية في تركيب أجزاء الكرسي، بسبب تلك الأخطاء، لم يسلموه لمن صنع له، احتفطوا به، وما زال هنا… قال ود الموية بأنه سيذهب إلى مشوار ويعود، خرج، حملت الكرسي إلى خارج الدكان قريبا من العتبة، وجلست..
ترى ما الذي يحدث هناك، ربما أن النت معطل، بطارية موبايلي ضعيفة، ولن أنشط أبدا، سأنتظر هنا في دكان (النجار الزمان)، إلى اللحظة التي سيمسحوا بتلك المدن الأرض أو يحرقوها، سأسجل تلك اللحظة بكل جنونها في مكان سري من نن عيني، وفي خبايا الحزن الدفين في خريطة جسدي، سأدسها بداخل جراحي المفتوحة وأخيط فتوق تلك الجراح، ستكون لحظة احتراق تلك المدن، نادرة تاريخية ما كانت ولن تتكرر، فالأشياء لا تحترق مرتين، لم تأتِ تلك اللحظة بعد، إنهم الآن فقط ينهبون، ويفرغون البيوت من أهلها، يضعون فوهات بنادقهم في صدور العاجزين، يجتثون أثداء البنات ويعلقون الألغام في مكانها ، يقتلون، يهملون الجثث في دروب لعبنا فيها وعبرناها جزلين، يطلقون صقور رغباتهم البدائية من كتمة أسرها الأبدي، يغلقون الشوارع لتمر مواكب الكلاب والقطط الهاملة وهي تمزمز ما تبقى من أطراف أصابع الأطفال، سيغني القتلة إلى حين، ويرقصون، رقصة موتهم الأخيرة على إيقاعات حوافر أبقارهم المتوحلة، وكحة أبواقهم التي تتنفس دما صدئ.. سأصعد أعلى مبنى دكان أبي وأوجه منظاري نحو تلك المدن وأريافها، ما الذي يحدث هناك، متى ينسل درج علبة الكبريت من داخلها وتقفز منه عيدانها ذات الرأس القرمزي؟…
أغادر مقعدي ذا الأخطاء السبعة إلى داخل الدكان، كان ود الكشك قد أشرع ضلفتي النافذة، فغمر الضوء كامل الدكان، أتابع البحث في الأرضية الترابية، مسامير صدئة وملتوية، وأخرى مثبتة في الجدران، نشارة خشب تجمعت وانزوت في الأركان، آثار أقدامهم أكثر وضوحا من تلك التي في الخارج، حتى أني فكرت أن أبحث فيها عن أثر برطوش مركوب أبي الفاشري، خرجت، عدت مرة أخرى للجلوس على مقعد ذلك التلميذ أمام الدكان، الآن ساعة كاملة قد مضت، وود الموية ما عاد… ليس دكان أبي وحده من ظل هنا، أنا أجلس الآن في مواجهة دكان صلاح الدين (ود القطينة)، كانت له برندة بزاوية قائمة تفتح على اتجاهين، شمالية في مواجهة دكان أبي، وشرقية في مواجهة السوق، وفي الأخيرة يجلس إبليس الترزي خلف ماكينة خياطة، يقول إنها واحدة من اول رسالة لمكينات سنجر دخلت السودان، لكن من الذي يصدق إبليس؟.. في واحد من أيام الاثنين في ١٩٥٩م، منحني أبي قرشا، قررت أن أذهب للسوق وأتسكع قليلا وأبتاع شيئا، سرت حتى قهوة عبدالعاطي، دخلت من بابها الغربي وخرجت بالباب الجنوبي، وجدت نفسي في مواجهة موقف اللواري وفسحة سوق الحمير، من بينهما عبرت إلي داخل السوق، اشتريت بتعريفة حلاوة قصب بلون البنفسج، وبتعريفة ملء ظهر علبة صلصة من الفول المدمس، سرت عائدا، من بعيد تبينت أن ضلف دكان أبي موصدة، توجهت نحو البرندة الشرقية لدكان صلاح الدين، إبليس كان مشغولا، وماكنته تقح كأنها مصابة بالسعال الديكي، صرت على مسافة دانية منه، إبليس كان يقول بأنه صاحبي، غطى الشيب رأسه، وضعف بصره، في يوم السوق، أكون قريبا منه، حين ينقطع الخيط يستدعيني، أدخل طرف الخيط في فمي أستعدله بطرف لساني، ومن أول محاولة يكون الخيط قد مر من فم الإبرة إلى الجهة الأخرى، تعود الماكينة لنوبة جديدة من السعال، دنوت منه، رفع رأسه ونظر إلي، أخرجت له لساني وضحكت، كان لساني قد تحول إلي لون البنفسج، ما كنت أعشق حلاوة قصب إلا بسبب أنها تصبغ لساني بألوانها الزاهية، أحب الألوان حين تبلغ ذروتها فتشتعل، كنت قد لاحظت أن كل ألسنة المخلوقات بما في ذلك البشر بذات اللون، مع اختلاف خلقها وتكوينها، ماذا لو كان لون لساني ورديا.. برتقاليا أو مقوسا أوبألوان قوس قزح؟؟… كان هناك حمارا مربوطا بحبل طويل إلى أحد جانبي الجزء الأسفل من ماكينة الخياطة، هي أتان، اقتربت من إبليس أكثر، ناولته كل ما تبقى في جيبي من الفول المدمس، تناوله ييده اليسرى ومن غير أن يوقف عمله قذف به إلى فمه، طلبت منه ان يتركني “أتفسح بيها شوية”، سألني.. تتفسح بشنو؟.. كنت أعلم أنه كان قد فهم قصدي، وافق بشرط أن أعيد الحمارة من قبل أن يأتي صاحبها من داخل السوق، وعدته بأن لا تستغرق فسحتي كثير وقت، فضضت عقدة حبلها من أسفل جانب ماكينة الخياطة، قدت الأتان إلى خارج البرندة، اعتليت ظهرها، جلت بها عبر أمكنة بعيدة عن السوق حتى لا يراني صاحبها، قدتها إلى خلف طاحونة ود الزين وطابونة أبو قرون وحوض شرب البهائم ، هناك تركت الأتان تسابق اسطورة حمير الحسانية. كنت أريد أن أتسكع بها إلى قريب من الترعة، لكني خفت أن أتأخر، والترعة في الطرف البعيد من البلد، عدت بها وربطت حبلها في مكانه، وإبليس ينظر إلي، ذهبت وجلست في البرندة في الجهة الشمالية من الدكان، مر وقت قبل أن أسمع الهرج يأتي من جهة البرندة الشرقية، ذهبت لأستطلع الأمر، صاحب الأتان عاد ولم يجد حمارته، سأل إبليس، فقال إنه ذهب لبيت الأدب، وحين عاد لم يجدها، وأضاف أنه لاحظ أن ود النجار كان يتحاوم حولها طوال النهار، حين ظهرت أمامهم قادما من البرندة في الجهة الشمالية، صرخ إبليس..أهو دا.. “كأني كنت هاربا” أضاف.. يا ابن الكلب.. ودرتها؟.. طيب.. خلي أبوك لمن يجي يبقى راجل ويدفع ثمن الحمارة .. تعال هنا.. تعال .. وديت الحمارة وين؟.. اقتربت منه وقلت.. أن جبتها وربطتها، قاطعني إبليس.. كداب.. كدا..ا..اب.. أمشي أقعد هناك.. خلي أبوك يجي يشوف شغله معاك، أشار للجدار المواجه لمكان جلوسه، توجهت للمكان ألذي أشار إليه، أقعيت وسندت رأسي إلى ركبي وبكيت، جاء أعرابي من داخل السوق ليأخذ عراقي يخصه من إبليس، سمع الحكاية، سأل صاحب الأتان.. حمارتك دي والدة جديد، أجاب الرجل.. أي نعم. قال العربي.. جناها وين؟.. قال الرجل.. في الحلة، قال العربي.. أرجع الحلة بتلقى حمارتك هناك، وأضاف.. الحمارة الوليد ما ربطها قوي، ناتلت الحبل وحلته ورجعت لجناها، استغل صاحب الحمارة ظهر أحد اللواري لحلته البعيدة، وفي يوم السوق التالي جاء الرجل على ظهر حمارته لسوق أبوقوتة.
مضت أكثر من ساعتين وما عاد ودالموية من مشواره القصير. بقدر ما انتظرت أمام الدكان ما جاء منهم أحد، تذكرت أن أبي عاد لأمدرمان عودة نهائية سنة ١٩٦٢ م، ولأول مرة يشهد معنا حدثا استثنائيا، ثورة أكتوبر عام ١٩٦٤م، عادت له بشاشاته عن كبر ، عاد في هذه المرة وهو يتوكأ على عصاته ليغشى ألليالي السياسية والحوليات، ويدندن في لحظات إنبساطه بأصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باقي، ومات بعد سبع سنوات من عودته. جاء صاحب عربة كارو حمار، عربته محملة بأغراض، وتحت كل الأغراض عنقريب ومرتبة ووسادة، قال لي إن الأغراض أرسلها ود الموية، قلت له أن يحمل كل الأغراض إلى داخل الدكان ويترك العنقريب والوسادة في الخارج، سأنام أمام الدكان كما كنا نفعل أنا وأبي في زمن قديم، فعل ما قلته له وانصرف، حملت كرسي الأخطاء إلى داخل الدكان وعدت، طرحت المرتبة على العنقريب ووضعت الوسادة تحت رأسي، نمت… ورأيت فيما يرى الموسوس في نومه، جثة مخترقة بعشرات الرصاصات المدببة، وقد خلفت فيها تلك الرصاصات ثقوبا وقروحا ودمامل، كانت الهوامل من الهوام تتحاوم حولها، تتنازعها الضباع والكلاب والقطط والفئران والنمل والدود، وحتى لحظتها ما زالت تنتاشها فوهات البنادق، اقتربت منها، أردت أن أنظر فيها، قلت “إمكن تكون أنا”، وتكون هي جثتي، ورأيت فيما يرى النائم كتاب المطالعة القديم، والنسيم العليل يقلب صفحاته، ومن صفحة ٦٣، قفز أسد، كان ذلك أول أسد أراه في حياتي، رأيته في الحلم ، لعله “أسد الكداد الزام”، فهو ضخم وساخر، ومتعنطز، ويكاد يقول “يا دنيا ما فيك إلا أنا”، بلبدة كثيفة كأنها رأس جميزة عجوز تراكمت أغصانها والتفت، التصقت أوراقها بالفروع وتراكمت، فبدت من فوق الجذع كخلية نحل ضخمة، صار ظل نهارها ليلا داكنا، ما كان الهزبر خارجا من الغابة، بل من رسمة في كتاب المطالعة الأولية، وبالتحديد من طبعته الصادرة في١٩٥٧م من مكتب النشر التربوي ببخت الرضا، وقف ذلك الأسد ينظر بغضب، مستخفا بالسماء ونجومها وبالأرض وأوتادها، وبأولئك الرعاع، آكلي الفضلات، من الضباع والكلاب والقطط المتنمرة والحشرات وهوام الأرض التي تجمعت حول الجثة، زأر لمرة واحدة، تطايرت شظايا زئيره كصواعق سماوية، انهارت العمارات والدكاكين والبيوت ومحطات الكهرباء وخزانات المياه والمستشفيات والمدارس ورياض الأطفال، تراكمت كتل عظيمة من التراب والطين فأغلقت كل مداخل المدن الخراب، اندهش الرعاع من الحيوانات.. فالأسود لا تقفز من الكتب بل تخرج من الغابة، لكنه على أية حال أسد، انتاب هوامل الحيوانات الخوف والرعب، بدأت تتبارى في محاولة للهروب، لكن الأرض كانت تفتح شقوقها بشهية وتبتلعهم، انبسط الأسد، حتى كاد أن يرقص، تقدم نحو ما هو احتمال جثتي، مشى بخطوات ثقيلة وملوكية، كاد أن يخرق الأرض، وفي اللحظة التي أراد فيها أن يستأثر بالجثة لوحده، قفز من ذات صفحة كتاب المطالعة، شاب مفتول العضلات، وسيم، وبإطار يوسف وبعض ملامح جماله، ولو كان ذلك الصبي قد حاز كل ما تبقى من ذلك الحسن الإلهي لكان نبيا، لكن جمال الفتى ما بلغ حد النبوة، كان مكتفيا بإحتمالات الغواية، قفز الصبي من ذات الصفحة، ومن بقية خربشات الرسمة فيها، ترك وراءه فراغا أبيضا، كان الفتى يحمل رمحا طويلا كجذع نخلة، وقف على مسافة من الأسد، باعد ما بين قدميه، رفع يده التي تحمل الرمح، أمالها إلى خلف ظهره، أشرعها، قوس كل جسده وأطلقها، اخترق الرمح جسد الأسد من جانب وخرج نصفه من الجانب الآخر، سقط الأسد، انهار كجبل ضرغام، لو كان لجبل ضرغام أن ينهار، بخطوات مستقيمة اقترب الفتى من مكان مصرع الأسد، انتزع رمحه من بين أحشائه، حمل الرمح في يده، ضغط عليه بأصابع كف واحدة فتقلص، استدار وسار في اتجاه كتاب المطالعة الأولية، وقف قريبا من غلاف الكتاب، كان غلافا سماويا ومقوى، احتاجت الريح لكامل قوتها لتنحيه جانبا، بللت النسمة إصبعها السبابة باللعاب، وشرعت في تقليب صفحات الكتاب، ورقة ورقة، توقف إصبعها عند صفحة الرقم ٦٣، كان عنوانها (أندرو والأسد) وفي المكان الخالي من الكتابة والصور، قفز الشاب وأعاد طبع رسمته هناك، كان في رسمته جميلا ووسيما ، ممسكا بحربته َومبتسم، فأحب قصته التلاميذ، ظلت تلك الرسمة هناك، في المكان الذي وضعها فيه شرحبيل، وظل التلاميذ يطالعونها حتى ذلك الوقت الذي أغلقت فيه دار النشر بمعهد بخت الرضا نهائيا.
استيقطت مذعورا، فتحت أعيني، للحظات ما أدركت أين أنا، ميت أم حي، لاجئ أم نازح، أم أنهم يحاصرونني بقلب المدينة، رفعت رأسي من الوسادة، نظرت إلى السماء، إنها ليست هي ذاتها، وتلك النجوم ليست نجوم بيتنا، ولا القمر قمر مدينتي، أرخيت عيني.. أين أنا؟.. رأيت تلكما اليمامتين، أدركت بأني ما زلت هنا، كانتا تتناجيان بحميمية تخصهما وحدهما، ربما سييبقيان هنا لأبد الدهر، فالطيور لا تتعب من الحب ولا تمل، تمنيت أن لا يكون هناك قصف يفسد عليهما مناجاتهما، تمنيت أن يقصف الله عمر العذول، ومن يهشهما من المكان الذي تعودتا أن تتناجيا فيه وتتسافحان.
كنت مرهقا، وجائعا، وأحس بالنعاس، ومع ذلك ما أردت أن أغمض عيني وأنام، فلو نمت لفاتني الكثير، انقلبت على جنبي الآخر، كانت هناك ملابس منشورة في حبل، على مسافة ليست بعيدة عن مكاني، تذكرت ذلك المكوجي، إنه هو نفسه، نهضت وأنا أغالب التعب، توجهت نحو تلك الملابس التي في الحبل، إنه مكوجي عام ١٩٥٩م بشحمه ولحمه، كل ما اقتربت من مكانه، يغمرني إحساس لحد اليقين بأنه آدم، لا لسبب سوى رغبتي في أن يكون هو آدم، كنت أحس بالوحشة، وأشتاق لشخص كنت أعرفه، حتى إن لم يكن له وجود أو غير اسمه أو مات، لابد أن يكون من هناك هو آدم الغسال، وجدت أمام الدكان رجلا عجوزا مستلقيا على عنقريب بدون مرتبة، وهلاهيل مخدة تحت رأسه، داخل الدكان كان هناك صبي يعمل بكي الملابس، بدا أنه ابن الرجل، اقتربت من العجوز أكثر، إنه آدم، كيف سمح لملامحه أن تغيره لهذا الشكل، كيف سمح للزمن بان يخرب خلقته الأولى ووسامته الصبية، وعلى كل ما زال هو آدم، وما صار شخصا آخرا.. إزيك يا عم آدم، لم يرد السلام، بدلا عن ذلك رفع رأسه ونظر إلي، أسند آلام ظهره مستعينا بما تبقى لديه من القدرة وجلس، لامست قدماه المتورمتين الأرض الندية، عرفته بنفسي، قال إنه يتذكر أبي وكل الصناعية الذين كانوا معه، لكن ذلك كان من زمن بعيد، نسي اسم أبي، وأسماء اولئك الصبيان، لماذا يعيش الإنسان لزمن ينسى فيه وتتورم قدماه، كرر القول.. نسيت الأسماء، ابني يذكرني باسم أمه، لكن الناس ليست أسماء، يكفي أن نتذكر ملامح من كنا قد عرفناهم، ونسمع صدى أصواتهم، فنتعرف عليها حتى بعد رحيلهم وموتهم، قال إنه لا يعلم من الذي مات منهم ولا يعلم من لا يزال حيا، لكنهم أحيانا يمرون من على مسافة قريبة منه ويسلمون، أضاف لقد جئت لهذا البلد قبل بناء هذه الدكاكين، أشار بيده ناحية السوق، جئت من الغرب، كنت بعمر أصغر من عمر ابني الذي تراه بالداخل، سنين طويلة لم أعد فيها لقريتي أو لأهلي، يئسوا من عودتي، زوجوني دون علمي، وأرسلوا لي تلك الفتاة الصغيرة، أم ولدي الذي تراه في الداخل، أنجبته، فطمته، وتركته لي، قالت إنها ستذهب في زيارة قصيرة لأهلها وحتما ستعود، انتظرتها، ولم تعد، ماتت في الحروب التي دامت هناك، والتي يبدو أن ليس لها نهاية، أحرقوا قريتها واغتصبوها، وما صارت الحياة أفضل كما كان يتخيل الواهمون، كلهم ماتوا، ما تركت خلفها سوى هذا الصبي، ما ذهبت إلى هناك، ولم أذهب للخرطوم أبدا، عمري كله قضيته في هذا البلد، وفي هذا الدكان، ما رأيتها في حياتي، سألته.. من؟؟.. قال.. الخرطوم. قلت إنها ليست بعيدة، هل تريد أن تراها؟.. سأل.. بعد هذا العمر؟؟.. ما بي قدرة على السفر الآن، وسمعت أن فيها (كتلة)، قلت ستراها من غير أن تسافر إليها، عدوت في اتجاه دكان النجار الزمان، تناولت منظار حبوبة وعدت، وقفت أمام عنقريبه مرة أخرى، طلبت منه الوقوف، نظر إلي مليا، تناول عصاته، بدا يتململ كمن يريد أن ينهض، ناولته يدي وأسندته، كان في أثناء ذلك يقول كلاما، ما تبينت منه سوى “المروة بقت كملانة ” اعتدل بالحد الممكن الذي يتيحه له تقوس ظهره، أدخلت يدي من تحت إبطه وتدرجنا، كان سيرنا بطيئا، ومع ذلك خرجنا للخلاء، ما كانت هناك سوى معيز عائدة من الخلاء للحِلة ، وأشجار متوحدة، وبعيدة عن بعضها البعض، توقفنا عند حدبة من الأرض، وضعت المنظار أمام عينيه، قلت له أن ينظر فيه إلى أبعد ما يمكن ان يراه، حدق في المنظار مندهشا، بقي صامتا لوقت طويل والمنظار أمام عينيه، منحته كل ما يحتاجه من الوقت، ثم سألته ماذا رأيت؟.. قال َ.. لا شيء.. ألوان حمراء وألوان برتقالية تتشابى مدا وجزرا متل أمواج نهر من الحمم، نهر ينبع من أسفل ويصب في الفضاء قلت.. إنه اللهب.. “لكن لماذا يكون لون اللهب هو ذاته لون البرتقال” قال.. من فوق اللهب دخان اسود، وتحلق من فوقهما طيور، تؤرجح أجنحة مثل كير نار يستنشق حمما ويستنثر حمما، قلت.. شفق أحمر أو برتقالي ذلك هو ذاته اللهب، من فوقه سحاب أسود وذلك هو الدخان، ومن فوقهما تحلق الآلاف من طيور عنقاء النار .. إنها أعواد علبة الكبريت، أخيرا أشعلوها… أنت تراها الآن.. تلك هي الخرطوم وأريافها ومدن أخرى.
______________________

(الصورة من أعمال تحية حليم)

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 0 / 5. Total : 0

كن أول من يقيم هذا المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *