فيصل محمد صالح يكتب: مفاوضات جدة: ضرورة تجاوز اتفاق مايو
فيصل محمد صالح
التسريبات التي تخرج من مفاوضات جدة بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع» محدودة جداً، ويبدو أن الوسيطين السعودي والأميركي، ومن انضم إليهما من المنظمات الإقليمية، قد نجحوا في فرض حالة من التعتيم والكتمان على مجريات التفاوض، كما فرض الوسطاء ناطقاً رسمياً باسم المفاوضات، وأقفلوا الباب بالتالي أمام التصريحات المتبادلة بين الطرفين، والتي كانت تقدم أحياناً تصريحات متناقضة بهدف تجيير النتائج لمصلحة أحد الطرفين.
هذا التكتم، مع استمرار التفاوض من دون معوقات أو تهديدات بالانسحاب، وغيرها من تكتيكات تقويض العملية التفاوضية، يقوي من الأمل باحتمالات التوصل لاتفاقات مُرضية يمكن أن توقف الحرب في السودان.
لا يجادل أحد في صعوبة المهمة، ولا في التعقيدات المحيطة بملف الحرب في السودان؛ لذلك فإن غاية ما يتطلع له السودانيون من هذه الجولة هو الاتفاق على وقف طويل لإطلاق النار، والفصل بين القوات، وتجميعها في معسكرات بعيدة عن المواقع المدنية. ولو نجحت الجولة الحالية من التفاوض في وقف الحرب، فإنها ستفتح الباب أمام مناقشة بقية التفاصيل في جولات لاحقة.
لم يكن سهلاً على الجيش السوداني الإعلان عن عودته لطاولة المفاوضات بعد التعبئة الطويلة ضد التفاوض وتوصيفه بالخيانة الوطنية، لذلك فقد ركز الإعلام الموالي للجيش على أن غرض التفاوض هو فقط إلزام قوات «الدعم السريع» بتطبيق اتفاق 11 مايو (أيار) لحماية المدنيين، الذي سبق التوقيع عليه، ثم لم يتم الالتزام به. والحقيقة أن سقف هذا الاتفاق منخفض جداً، ولا يمكن أن تعود المفاوضات بعد توقف خمسة أشهر لتقف عند نقطة ذلك الاتفاق.
هذا الاتفاق، كما يحدد اسمه، كان هدفه حماية المدنيين أثناء الحرب، لذلك فإن كل بنوده كانت متعلقة بوضع المدنيين والمنشآت المدنية ومراكز الخدمات في مواقع القتال، ولم يتوصل وقتها لوقف الحرب بشكل كامل ولا حتى وقف إطلاق النار لفترة زمنية.
ينص الاتفاق على أن مصالح وسلامة الشعب السوداني هي الأولويات الرئيسية، وتأكيد الالتزام بضمان حماية المدنيين في جميع الأوقات، في حين يتحدث البند الثاني عن مسؤولية الطرفين عن احترام القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان… «بما في ذلك الالتزام بالتمييز في جميع الأوقات بين المدنيين والمقاتلين، واتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب وتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين، ما يهدف إلى إخلاء المراكز الحضرية بما فيها مساكن المدنيين، فعلى سبيل المثال لا ينبغي استخدام المدنيين دروعاً بشرية». كما تحدث عن «الالتزام بحماية المستشفيات والمراكز الطبية وسيارات الإسعاف، ومراكز الخدمات مثل الماء والكهرباء».
وأكد الاتفاق على ضرورة الامتناع عن أي شكل من أشكال التعذيب أو غيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، بما في ذلك العنف الجنسي بجميع أنواعه. ومعاملة جميع الأشخاص المحرومين من حريتهم بطريقة إنسانية، وتمكين المنظمات الإنسانية الرئيسية من الوصول المنتظم إلى الأشخاص المحتجزين.
وفي نقطة أخرى، أكد على السماح باستئناف العمليات الإنسانية الأساسية وحماية العاملين والأصول في المجال الإنساني، وضمان حرية حركة العاملين في هذا المجال، وعدم التدخل في أنشطة العمل الإنساني. وحدد بند آخر تعيين نقاط اتصال للتعامل مع الجهات الفاعلة الإنسانية لتسهيل أنشطتها، وحدد بالاسم الهلال الأحمر السوداني والصليب الأحمر الدولي.
وختم الاتفاق بنقطة تتحدث عن إعطاء الأولوية للمناقشات الهادفة لوقف إطلاق النار لمدة قصيرة لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وهو ما لم يحدث، ومن ثم أعلن الوسطاء تعليق التفاوض لعدم جدية الطرفين.
هذا الاتفاق، كما هو واضح، نتاج مفاوضات الشهر الأول للحرب، ولذلك كان منخفض السقف، وغاية طموحه تنظيم عملية الحرب ومحاولة إلزام أطرافها بآداب وأخلاقيات الحرب المنصوص عليها في القانون الدولي، وتوفير نوع من الحماية للمدنيين. هذا السقف لا يناسب الوضع الحالي الذي انتشرت فيه الحرب في معظم ولايات السودان، مع استطالة أمد الحرب وتفاقم الأوضاع المأساوية للنازحين واللاجئين، وتحويل العاصمة إلى مدينة أشباح.
السقف الحالي الذي يتطلع إليه السودانيون هو وقف إطلاق نار طويل المدى تتزامن معه إعادة توزيع القوات العسكرية بشكل يبعدها عن المناطق المدنية، هذا هو أقل ما يمكن أن يقنع المواطنين المدنيين بجدوى عملية التفاوض، وإمكانية الوصول في المراحل المقبلة لمداخل حل سياسي ينقل السودان لمرحلة جديدة.