آية الصباغ تكتب: الحرب تبتلع حياتنا رويداً رويدا ..
آية الصباغ
أشعر أن مطرقةً لا تنفك تطرقُ على رأسي.. الحرب تبتلع حياتنا رويداً رويدا.. تداخلت حِرابها وبنادقها في كل تفصيلة ومنحى، صرنا ننام ونصحوا بها، حتى طعامنا بطعم نحاس الرصاص اللاذع وشربة الماء نبتلعها بغصة الفقد.. تتناثر حكايات السلب والنهب والقتل المجاني.. أما الترويع فصار كل حقير يمارسه.. عوضية تلك الفتاة ذات العينين اللوزيتين تؤانِسُنى بحكاياتها اللطيفة، تخفف عني ذاك التوتر، ويختفي ألم ذاك المسمار في أعلى حاجبي الأيمن، أجد نفسي دون أن أشعر مقطبة جبيني طوال الوقت، صار هذا الأمر يلازمني.. فاجأتني ذات يوم في أحد الأزقة وهي ذاهبة لابتياع حاجيات البيت في نهارٍ قائظ.. طاردها ثلاثة لصوص وهم يحملون اسلحة بيضاء وسواطير.. أخافوها، وطلبوا منها أن تتوقف، فما كان منها إلا أن أطلقت ساقيها للريح، لم تصرخ أو تستنجد… قالت لي: (ركضت لا ألوى على شيء)، كانت تركض بمسافة قريبة ومحددة إن تأخرت عنها فهم لامحالة سيلحقونها، لم يصادفها أحد.. ركضت قابضة على مشترايتها بكلتا يديها.. لم تلتقط أنفاسها وهي تعانى من الربو.. أثناء الجري انعطفت يسارا في أحد الأزقة وطرقت باب بيت صديقتها؛ حين فتحت لها الباب كان اللصوص قد ظهروا بنهاية الزقاق.. دلفت ولم تكن تستطيع التنفس.. تقول لي أن الخوف هو من حرك قدميها.. بعد استراحتها أوصلها أخو صديقتها.. كانت تحكي وعيناها تبرق على اتساع كأنها تحكي عن مغامرة.. ختمتها بضحكات قصيرة تنتهى بشهقات، شعرت بحنو ومسئولية أكثر نحوها.. حمدت الله أنها بخير …فتاة وديعة وذكية …ماذا لو حدث لي ما جرى لها؟! لم يخطر ببالي… قد أتسمّر. رغم أني قد قللت من مرات خروجي إلا أنه تصادفني أحداث تتصل بالحرب ذاتها.. رؤوس أقلامها الرصاص وصوتها البارود والقذيفة … حين رواحي قد أسمع صوت الطلقات، والرصاص يمر من فوقي، يخترق الهواء بعنوة وسرعة.. نعم تسمع صوت احتراق طبقات الهواء بفعل هذا الجسم الصغير المدبب… فقط اخفض رأسي، يا لبلاهتي.. وأقف برهة عند محل الترزي.. شيخ كبير، يبتسم بيقين، محله في ذات مسكنه.. هو أيضا رفض الخروج منه (المِن الله دي عبدك بستلقاها) أجده يجلس وراء آلة الخياطة القديمة مشغلا إياها بقدميه، محله قديم به سرير مجلد بالحبال وتلفزيون على قناة الأخبار، يتابع أخبار الحرب والكذب… يقول مطمئناً (زي ما بدت فجأة حاتنتهى فجأة) ضيافته كوز ماء بارد.. أشعر أنه يمر عبر أعصابي ويرويها ليجعلها لينة ويودعني بفيض من الدعوات… هناك قوم لا يستحقون ما يجري.. الحرب تبتلع البشر والشجر والحجر كفمِ وحشٍ هلاميٍ ذا أسنان مُدببة، تنبعث منه رائحة نتنة.. أشعر أن أعصابنا تتمدد كعلكة في نهار قائظ لا تنقطع، كلما حاولت قطعها ازدادت تمددا، تراودني ذكرى يوم ما قبل الحرب.. أكاد أجزم أن هذا الرمضان كان مميزا بطريقة ما.. الآمال كانت تتشكل لاتٍ مشرق .. الإحباطات كانت تكثفت وأخذت بالانحسار.. في يوم جآتني دعوة لحضور حفل لمحمد الفاتح (زولو)، أتسلطن بصوت هذا الشاب، ألحانه السباعية الحاضرة من دارفور.. يعلم كيف يشجيها بأهازيجه.. حينها شعرت بالأسى لظني أني لن أحضرها لأسباب عدة منها عدم تأمين وسيلة ذهاب وإياب … كنت قد أسلمت أمري.. رتب لي القدر ذلك دونما عناء مني.. بدعوة إفطار من رفقة أشخاص من مختلف الأعمار جمعهم العمل الطوعي، تجددت في أحد الأيام الرمضانية بعد انقطاع دام العام فما كان مني إلا أن ذهبت بعد تساهيل من أحد المنتسبين لهذا الكيان الطوعي.. رُتب المشوار.. ليس من عادتى ملاحقة التجمعات ..امقتها حين تنضح بالنفاق والاستعراض.. أاجدني آلف أحدهم بعد مضى وقت انسج العلاقة على مهل ودون تعجل.. أشبه نفسي بالقط، بإلفته للأماكن والشخوص، وليس بحيوانى المفضل.. يصف أبى ذلك بالانتهازية. في عصر ذاك اليوم من رمضان تيسر المشوار، كنت أسابق الشهر لأستمتع بمؤنساته وجلسات الأصدقاء النقية، حتى الندوات حرصت على حضورها.. كنت أستزيد تعويضاً لما تسرب منا في خضم الأيام والانكفاء.. حراك الثورة وتخبط الانقلاب.. في ذاك العصر وصلنا قبيل موعد الإفطار، كان هدفي سماع الندوة التي تليه، ورغم قلة المعارف جلست مع شاب وفتاة وفطرنا سويا، كان لي سابق معرفة بالشاب، اعتقدت أنهما شقيقان لاكتشف أنهما زوجان، كانا حديثي الزواج، تبادلنا الحديث كأننا نعرف بعضنا من زمن بعيد.. شعرت ببعض الحرج ولكن الزوجين بدداه …. ليظهر كم من الأصحاب، ساري صديقي المشاغب ذا الضحكة الشقية، ثم حسن مبارك، تفاجأنا ببعضنا وصرنا نضحك بغباء.. اعتذر متحدث الندوة.. ففكرت أن أتجه إلى شارع الجمهورية لحضور ندوة في دار (حيدر إبراهيم) تنظمها شبكة الصحفيين… لكن كيف المسير ؟.. أنا وساري وصديقنا الجديد ذو الشعر المبرم تبادلنا الحديث والأُنس، فبعد الفطور يأتي السرور … فجأة وجّه صديقه سؤاله لي: ما هي خطتك هذا المساء أجبت: لا شيء.. دعاني لأُمسية (الفاتح زولو) كدت أقفز من الفرح.. إنه يعني لي الكثير، ويرسم لنفسه مشروعاً يخصه.. هاتفت د. عطا.. أدروبي بورسوداني، مسرحي درامي، قادر على ضخ روح العمل والإنجاز في نفسي، تنامت صداقتنا أيامنا الأخيرة وأفتقده بشدة.. هاتفته لحضور الحفل.. بعث لي بالدعوة بعد أن وصلتني في وقت سابق..ثم هاتفت صديقي العزيز نجم.. هذا النجم… يُسعد كل من يعرفه.. ما أن وصلنا بعد حالة توهان عن المكان..في منتدى شباك.. صادفت صديقتي نُهى محسن كنا نلتقى كثيرا في الآونة الأخيرة.. كانت ليلة مصطفاة بالحنين وصحبة انتقاها القدر لي.. غنى زولو لدارفور، أطلق الأهازيج … كان يستنجد بالسلام والحب …كانت ليلة تهيؤنا لما هو قادم … رافقه في العزف عماد ببو … لابد أن جنياً يتلبس هذا الانسان حينما يلعب بأنامله على الجيتار … كنا منساقين ومترعين وكان زولو يسبح بنغمه …(الدم بحن للدم) التفت نجمٌ إليّ وعينيه الصغيرتان تبتسمان، قالها لي وأندى بها قلبي … لطالما ظننت أن الابتسامة تكون أصدق عبرهما …(الدم بحن للدم) غناها زولو وكأنه استشرف هذا المخاض الذي نعيشه … الدماء اليوم تتناثر وتتخثر بركاً … كان القدر ينوب عنا ليودع أيام السلام الخرطومي …أو ما اعتقدناه سلاما …صحوت من غمرة ذكرياتى حين لمحت أبى يتقوقع على كنبةٍ في غرفة المعيشة، بدا لي في هذا اليوم متعباً ساهماً بالتفكير … كان يدير القنوات الاخبارية؛ أخبار حربنا اللعينة تذيل آخر القائمة من الأحداث، يملؤننا سمعا كذوب …يوغلون فى التعنت والاتهام ..حين تعثر واستلقى بدا لي واهناً يقاوم الإعياء … لقد تهاوى قلبي داخل بطني … حاولت الثبات او تظاهرت به … سألته: ما بك … أجابني أنه يعاني صدااً منذ بداية اليوم … ولكن ازداد كصعقة .. عرق جبينه ينبض وبدا يتعرق كان مستقيماً وأخضر، يتعرج في نهايته … صار جسمه باردا، دار برأسي ما قد يصير من وعكات صحية … لا ليس مع أبي فهو قوي … أو هكذا كنت أراه دائما … لكن ما يحدث فوق الاستطاعة … وضعت يدي على ذلك العرق البارز .. ينبض بشدة … ألا تستكين؟! ماذا لو تعب؟ الساعة تقارب الثالثة صباحاً، ليس هناك من مراكز صحية، انكبت على ذاك العرق آلاف النبضات والتساؤلات … ترى؟ هل تتكور الهواجس وهل تمارس تخثرا في غير موضعه مسببة الجلطات؟! جائني خاطر مكالمة فائتة، صديقتي تهاني يعاني والدها مبادئ جلطة دماغية .. بدا صوتها تائهاً، فاق أي حزن (أبوى ما متذكرنا يا آية) عم إبراهيم ذا الوجه الصبوح قلما يبادرك بالابتسام … اللهم شفاؤك. لازال أبي مستلقيا، تكدس النبض فى هذا العرق … ما مصيرنا؟ … متى ينتهي هذا الاستنزاف … ولِما بالأساس حدث ما يحدث … انتقل إليّ ذات الألم، مسمار دُق على جبيني أسفل حاجبي …ادعيت الثبات … هذا الرجل النزق يربطنى به وجدان وشبك عصبي … على مر مراات وعكاته الماضية أُمارضه وحين يتماثل للشفاء يحين دوري بالمرض … صرت أضغط على رأسه … عله يهدأ … بدأ هو يهدأ … طلب منى وعاءً ممتلئاً بماءٍ فاتر … وضع قدميه فيه لبرهة … هدأ عرق جبينه الأخضر وهدأت … طلبت منه أن ينام …أطفات الضوء وانغرس المسمار على جبيني أسفل حاجبي وبدأ عرق جبيني ينبض …حان دوري واستعدت ذكرى ليلة ما قبل الحرب … ما (الدم بحن للدم).
#لا_للحرب