امريكا والسودان، من جزرة الانتقال إلى عصا الحرب
الكباشي أحمد عبدالوهاب
إبان ثورة ديسمبر المجيدة، بدا من الواضح أن ميراثا ثقيلا سيعوق عمل الحكومة الانتقالية لفترة من الزمن، ليست بالقصيرة قياسا بعمر الانتفال المضروب في المواثيق، فقد ترك نظام الإسلام السياسي المخلوع الذي استبد بالأمر لثلاثة عقود، ألغاما خطيرة داخلية مثل الدولة العميقة وتعدد الجيوش، وخارجية مثل العداوة مع الولايات المتحدة وخصوصا مسألة العقوبات الاقتصادية ووضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وعداوة المجتمع الدولي بصورة عامة.
بعد ثورة سلمية قادها الشباب والنساء أبهرت العالم أجمع، عقد السودانيون آمالا عراضا على تغيير حاضرهم ومستقبلهم بصورة سلسة، وإعادة بلدهم إلى النظام العالمي بعد غياب قسري طويل للمساهمة في التجربة الإنسانية واثراءها، فارتفع سقف التوقعات إلى عنان السماء، بيد أن الواقع كان أعقد مما يظنون.
خلال إدارة الرئيس ترمب، لم تولي الولايات المتحدة بصورة رسمية ثورة السودان وتحوله الديمقراطي اهتماما كبيرا، إلا بمقدار ما يحقق للإدارة من مكاسب تمكنها من التقدم والفوز في الاستحقاق الانتخابي التالي، لذلك ظلت الإدارة تتلكأ في رفع اسم السودان من القائمة المغضوب عليها، وتربصت بالديمقراطية الوليدة من رحم ثلاث عقود من دكتاتورية وفاشية نظام الإسلاميين المخلوع، لاستيلاد صفقة ناجحة من وراء البلد الذي كان يعتبر في أقصى درجات وهنه.
وبرغم تنبيه العديد من الأكاديميين والمفكرين والكتاب الغربيين لضرورة ادماج السودان في المجتمع الدولي بالسرعة المطلوبة، حيث جاء في مستهل خطاب مجموعة الأزمات الدولية لمجموعة اصدقاء السودان في مؤتمرهم الذي انعقد في الخرطوم بتاريخ 10 ديسمبر 2019 ” انتفال السودان على المحك” كما جاء في متن الخطاب ” يجب أن يعمل أصدقاء السودان للضغط على الولايات المتحدة، والتي هي جزء من المجموعة، أن تلغي تصنيفها القديم للسودان كدولة راعية للإرهاب” وجاء في الخطاب أيضا ” كلما زاد أمد واشنطن في تأجيل رفع تصنيف السودان من هذه القائمة فإن ذلك يعطي فرصة أكبر للجنرالات في زعزعة الثقة في انتقال السودان ومقدرة المدنيين على انجاز التحول الاقتصادي الذي تحتاجه البلاد”. ثم كتبت المسؤولة السابقة عن الشؤون الأفريقية في وزارة الخارجية خلال ولاية الرئيس بوش “جنداي فريزر” مقالا في صحيفة “ذا هيل” بتاريخ 22 يونيو 2020، حثت فيه الإدارة الامريكية على سرعة انجاز ملف تسوية تفجير السفارتين والمدمرة كول، حيث قالت ” يجب أن نتحرك الآن، فالوقت ليس لصالحنا” إلا أن ادارة الرئيس ترمب أصرت على الأخذ مقابل العطاء، وهي سياسة ترمب التي أتت من خلفيته كرجل أعمال ناجح يدير صفقات ناجحة، فتعاملت إدارته مع الملف السوداني على أساس مبدأ الصفقات التبادلية “Transactional politics/business” وفي مثل هذا النوع من المعاملات، لا يكون للقيم الإنسانية وزنا، لذلك فرضت إدارة ترمب شروطا على السودانيين لإتمام صفقة رفع تصنيف السودان وإعادة الحصانة السيادية الخاصة بالحكومات الأجنبية أمام المحاكم الأمريكية له.
كان أثقل هذه الشروط هو التطبيع مع اسرائيل، فقد جعل هذا الشرط رئيس الوزراء السابق د. حمدوك أمام مطرقة استمرار العقوبات وبالتالي خطر انهيار الانتقال المدني الديمقراطي من الناحية الاقتصادية، وسندان الغضب الشعبي الذي ظلت تهدد به قوى يمينية وأخرى يسارية متطرفة، وتداول السودانيون، تلك الأيام، هذا الأمر فيما بينهم بصورة واسعة، في عملية تلقائية أشبه بالحوار الوطني ولكن أغلبه على منصات التواصل الاجتماعي، فخلص الغالبية منهم على أهمية رفع تصنيف السودان مهما كلف ذلك، حتى وان كان الأمر هو التطبيع مع اسرائيل، وتداول العديد من الناشطين السودانيين، المادة رقم (13) الواردة في الفصل الثاني من الوثيقة الدستورية والتي تنص على ” وضع سياسة خارجية متوازنة تحقق المصالح الوطنية العليا للدولة وتعمل على تحسين علاقات السودان الخارجية وبنائها على أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة بما يحفظ سيادة البلاد وأمنها وحدودها” وبناء على ذلك، خلص غالبية السودانيون إلى حتمية ما ليس منه بد، فكان التطبيع، وفشلت جميع الأصوات المناهضة، يمينا ويسارا، ولم تفلح حتى في اخراج العشرات لإحراج الحكومة في مسألة تطبيعها مع اسرائيل، والذي كان شرطا أساسيا لإخراج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب واستعادة حصانته السيادية.
وعلى الرغم من اعتراضات رئيس الأقلية الديمقراطية في الكونغرس، السيناتور “جك شومر” وعضو لجنة العلاقات الخارجية السيناتور “بوب مينينديز” على مشروع رفع تصنيف السودان واستعادة حصانته السيادية وعرقلتهما الملف لشهور، إلا أن الكونغرس أخيرا أقر المشروع بإجماع الحزبين، ولكن نجح السيناتوران في اعادة مشروطة للحصانة السيادية، قرنت اعادتها كاملة بما ستفسر عنه التحقيقات الجارية حول دور السودان المزعوم في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
ولت حقبة ترمب بما لها وعليها، وأظلتنا إدارة الرئيس بايدن والتي شهد في عهدها الملف السوداني تجاذبات عديدة، تمثل أهمها في عدم وجود استراتيجية واضحة في التعاطي مع الملف السوداني منذ البداية، وطفا إلى السطح ما يشبه الانقسام بين المشرعين والتنفيذيين، حيث يرى المشرعون أن التنفيذيين لم يساندوا الانتقال الديمقراطي السوداني بما يكفي من القوة والضغط على المكون العسكري لإجباره على تسليم السلطة للمدنيين في المواقيت المحددة، ثم تطور ذلك الانقسام لاحقا وطال الإدارة التنفيذية نفسها، حيث كانت ترى “مولي في” وكيلة الشؤون الأفريقية الحالية أن الضغط الشديد وربما العقوبات على المكون العسكري لن يؤدي إلى حل، واتخذت من الدبلوماسية الناعمة سبيلا أوحدا للوصول للتحول الديمقراطي الكامل في السودان، إلا أنها واجهت ضغوطا شديدة من المشرعين والتنفيذيين على السواء بفشل هذه المقاربة، وتمظهرت حدة الخلاف اثر استقالة المبعوث الخاص للقرن الأفريقي “جيفري فيلتمان” الذي حل محله مبعوث آخر “ديفيد ساترفيلد” ولكن سرعان ما تم الاستغناء عنه بعد تعيين السفير “جون غودفري”.
ومن خلال جلسة الاستماع الأخيرة في الكونغرس والتي انعقدت بتاريخ العاشر من مايو 2023، هاجم المشرعون فيها سياسة الرئيس بايدن تجاه السودان هجوما شديدا، وأبدوا امتعاضهم الشديد من تساهل التنفيذيين تجاه المكون العسكري في السودان، خصوصا بعد الحرب التي اندلعت في 15 أبريل، وبعد العقوبات التي صدرت بالأمس ضد كيانات تتبع لطرفي النزاع في السودان، يبدو أن التيار المتشدد ضد المكون العسكري بشقيه، قد نجح في انتزاع زمام القيادة من التيار الآخر، ومع ذلك يرى البعض أن هذه العقوبات التي أعلن عن بعضها ولم يكشف عن البعض الآخر غير ذات أثر على الجنرالات، ولكن في تقديري هذه العقوبات ذات أثر كبير، خصوصا أنها ضربت عصب التمويل الذي يمكن من خلاله للطرفين إطالة أمد الصراع، ولكن الأهم من ذلك أن هذه العقوبات سيكون لها دور أكبر في تحجيم الداعمين الإقليميين الحاليين والمحتملين، بل وتحييدهم تماما، وهذا يصب مباشرة في إيقاف الحرب عن طريق تجفيف منابع التمويل ووقف التدخلات غير الحميدة، وبالأخذ في الاعتبار في حال اصرار طرفي النزاع على رهان الحسم العسكري واستمرار الحرب، فإن العقوبات يمكن أن تمتد للأشخاص أنفسهم، وهذا يعني ببساطة انهاء المستقبل السياسي لأي شخص يطاله سيف العقوبات الطويل، وبالتالي خروج قيادات الصف الأول الحالي في المكون العسكري بشقيه من معادلة الحل تماما، وربما يقود استمرار الانتهاكات المصاحبة للحرب من قبل الطرفين إلى تحقيقات دولية تؤدي إلى الإدانة بجرائم حرب في المحاكم الدولية.
بعد أن أثبت طرفا النزاع عدم جديتهما في الالتزام بالهدن التي تجاوز عددها الثمانية، بات من العسير والمحرج للإدارة الامريكية الاستمرار في مقاربة الدبلوماسية الناعمة، لإيقاف الحرب في السودان، فكان لزاما وحتما على التيار الذي لا يثق في القيادة العسكرية أن يسود. فإذا انتقلت العقوبات إلى الأشخاص، ستكون تلك هي الخطوة الأولى في درب اللا عودة، وسيفتح المجال لسيناريوهات أخرى، مثل التدخل العسكري الأممي تحت البند السابع، أو التدخل الأفريقي المدعوم من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي والولايات المتحدة، أو أي سيناريو آخر لا يضمن وجود القيادة العسكرية ولا المكون العسكري برمته في أي حل سياسي في المستقبل.
التعليقات مغلقة.
ماهي فاىده العقوبات الدوليه علي العسكرين او غيرهم فهاهو البشي واحمد هارون وغبره بسرحون وبمرحون !!