‫الرئيسية‬ مفكرة الحرب أكثر الحروب همجية : لماذا ؟
مفكرة الحرب - 28 مايو 2023, 7:41

أكثر الحروب همجية : لماذا ؟

د. هاشم ميرغني

حالْ هذا البلد بكَّانى ما سكتَّني
ريدتَن فيهُ كيفْ مالكاني .. كيف ملكتْني
ناراً فيها كيفْ ماكلانى كيفْ لهبتنى
إلَّا ترانى فى العرْضة
انحسِبْ برَّاني
والناس البتعرضْ جوَّة ما سِمعتنى
قلتَ أباصرْ أمرقْ مرَّة من أحزاني
وينْ قبَّلتَ
سفَكَتْ دَمَّي واتْعدتْنى “محمد بادي”

(1)
مِن أدهى الغرائب

أغربُ ما في هذه الحرب أنَّ الطرفين قد تخليَّا عن محاربةِ بعضِهما في زمن مبكر مِن بدايتها وتفرَّغا لمحاربة الشعب السوداني؛ فالجيش – أي ما يُسمَّى بالجيش تحرياً للدقة- تخلَّى تماما عن واجبه في حماية المدنيين، وحراسة المواقع الاستراتيجية حتى تلك التي تخصُّه، وترك الأرض مستباحة لمليشيات الجنجويد، ولم يتقدم شبرا واحدا للانتشار حتى في الأماكن التي أخلاها له الجنجويد بل يبدو وكأنه يستجديه للعودة لكل ارتكاز غادره مما أثار حتى نقمة أشدّ مناصريه بلاهةً في حربه هذه التي لا ترتقي بإحداثياتها التي نراها أمامنا حتى لوصفها بحرب العصابات حيث يتوفر الحد الأدنى للأخلاق ولا يُستهدف من هو خارج العصابتين المتقاتلتين، أما الطرف الثاني: ميليشيات الجنجويد فقد اشتغلوا على ما لا يعرفون غيره: قتل المدنيين العزل والنهب والاغتصاب والحرق وبوتيرةٍ جنونية متصاعدة كمن يسابق الزمن، كل هذا تزامنا مع استهداف المؤسسات كالجامعات والمكتبات ومراكز البحوث والبنوك والأسواق بالنهب، وفتح الباب – بعد ذلك مباشرة – لضباع عصابات النهب لتجهز على بقاياهم، وفي معيتهم الكبريت وجوالين الجاز والبنزين لإحراق ما يتركونه خلفهم ولو كانَ راكوبة خرِبة في أقاصي سوق الناقة، وفق سيناريو محفوظ ومكرر: يمهِّد فيه الجنجويد الطريق لهم ويتعهد بألا يمسَّ شعرة منهم، ويبتعد فيه الجيش تماما عن أرض النهب حتى لو كان قريباً جداً منها مثلما حدث في نهب وحرق شارعي الحرية والجمهورية حيث كانت قوات أبو طيرة – سيئة السمعة – على مرمى حجر منهما “وهي تقوم بواجبها في حراسة السوق العربي”، كأنَّ شارع الحرية يقع في أقاصي أم درمان !

كلُّ هذه الإحداثيات وغيرها تفتحُ البابَ واسعاً لأسئلة مثل:

هل هناك تواطؤ بين “الجيش” والجنجويد على تدمير وإحراق البلد لأسباب لها علاقة بصياغة وضع جديد يَقبلُ فيه المدنيون بكل ما يعرض عليهم مقابل أمنهم وسلامتهم وعودتهم إلى ديارهم وهو سيناريو تكرر كثيرا هنا وهناك ، أي في المحيطين الإقليمي والدولي؟

وهل كان لوقوع أُسُرِ البرهان وعددٍ من قيادات “الجيش” بقبضة الجنجويد يدٌ في إطلاق يد الجنجويد على الأرض مُقابلَ الإبقاء على أُسَرِهم أحياء؟

ما طبيعة الأيادي التي تشتغلُ على هذه الحرب حيث الطرفان ليسا سوى أداة بائسة بين أصابعها التي تحرِّكها من بعيد ــ لا أعني بطبيعة الحال الأيادي الداخلية والخارجية التي لم تعد خفية بل ظاهرةً للعيان، بل أعني تحديداً ما يمكن صياغته بهذا السؤال : إذا كانت هذه الحرب، كأيِّ حرب، بغرض السيطرة على المكان لنهبِ موارده مستقبلا فإلى أي مدى يمكن أن نوسِّع دائرة الطامعين في أرض بلا حكومة منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021 المشؤوم، وبلا جيش يُعتدُّ به بعد خيباته المريرة هذه والتي لم تفعل الحرب سوى إبرازها للعيان ، وبمليشيات “ملقَّطة” لا خَلاق لها يمكنها أن تبيعَ نفسها للأعلى سعرا ؟

هل الوسطاء جادون فعلا في الوصول لاتفاق عاجل لوقف إطلاق النار والعودة للعملية السياسية أم أنَّ إضعاف الطرفين عبر حرب طويلة نسبياً يمهِّدُ السبيل لهم لإملاء شروطهم على البلد بأسره علما بأنَّ الوسطاء، أي وسطاء، ليسوا كائناتٍ أثيريةً خيرية قادمة من الفضاء بل سياسيين كاملي الدسم يمثِّلون سلطاتِ بلادهم الرسميَّةَ ويعملون لصالحها ويأخذون مرتباتهم من خزائنها؟
هل…
هل..

(2)
في سببِ الحرب .. أيِّ حرب

ربما لم يكن “تنبرجن” و”لورينز” أول من اكتشفَ أنَّ سبب كل حرب هي المكان ، أي السيطرة على الأرض؛ فإثر دراستهما للعدوانية الحيوانية “اتَّضح فجأة أنَّ كل الحروب عبر التاريخ كانت تدور حول امتلاك المكان” كما يعبِّر كولن ولسون (1931 -2013) في تتبُّعهِ للتاريخ الإجرامي للجنس البشري.

وعلى ضوءِ ذلك يُمكنُ أن نقرأَ حركةَ الاستعمار الأوربي، الحروب العالمية حيث كان ملايين الجنود يموتون من أجل التقدم بضعةَ أمتار في أرض “العدو”، حروب هتلر ونابليون وجنكيز خان والإسكندر الأكبر … إلخ إلخ.

من هنا يمكن أن نقرأ ما يهدف إليه الجنرالان المعتوهان: جنرال الخلا وجنرال البدروم – ومَن خلفَهُما مِن البيادق المغرَّر بها ومَن أمامَهُما ممن يقودهما إلى المحرقة لصالحه – ألا وهو السيطرة على هذه الأرض: السودان التي لا تمثِّل في فكرهما الكسيح سوى مناجم ذهب ويورانيوم وتصدير مرتزقة لليمن وليبيا ــــ وروسيا إن اقتضى الأمر كما عرض أحدهما، وهو جنرال الخلا، وتمَّ الاعتذار له بلباقة بـــ:” أنْ عندهم مليشيات فاغنر وهي من سيدعمُكم لا العكس”.

ولعلَّ كل هذا يفسِّرُ لنا سياسة الأرض المحروقة التي تدار بها هذه الحرب، فما يطمح إليه الطرفانِ يكمن في باطن الأرض لا ظاهرِها.

ثمَّةَ سببٌ آخر لسياسة الأرض المحروقة هذه وهو الأدهى:
كلا الطرفين: رهط “الإنغازيين”، ومليشيا الجنجويد لم يسهم بحرف في تأسيس ذاكرة هذه البلد، ولم يخطَّ حرفا وضيئا في سطورها: لم يشيِّد معماراً، أو يعزف لحناً، أو ينظم بيتاً، أو يؤسِّس فكرا، كلاهما كان غائباً تماماً عن ذاكرة دائرة الوثائق القومية، ومتحف السودان، ومراكز سجِّلات الثقافة السودانية التي يسعيان الآن إلى محوِها كلِّها عبر النهب والحرق الجماعي؛ فكيف لا يحرقانها وهي لا تحتوي على أي ذكرٍ لهما إلا في باب المخازي والشرور – أي الباب الضيق للخروج من التاريخ لا الدخولِ فيه؟
(3)
أكثرُ الحروب خسةً وهمجية ..

وصفَتِ السيِّدة عائشة البصري الناطقة السابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور، والحائزة على جائزة دولية لكاشفي الحقيقة سنة 2015 الحربَ الدائرة في السودان بأنها “همجية”، وقد منعها الأدب فقط مِن وصفِها بأنها ليستْ همجيةً فحسب، بل من أكثرِ الحروب خِسَّةً ودناءةً وهمجيةً في العصر الحديث؛ إذ لم يترك الجنرالان الوالغان في دمنا منذ زمن يتعذَّرُ تحديدُه بنداً واحداً من بنود الحروب الهمجية دون أن يضعا عليه علامة ( √)، وبعد أن فرغا من كل بنود الانتهاكات الإنسانية المعروفة وضعا بنودا جديدة يُمكنُ تسجيلُها باسميهما كبراءة اختراع.

تبلغ قائمة جرائم الطرفين من الطول ما يخرجها عن مساحة أي مقال في صحيفة، كما أنها مبذولة وموثَّقة على قارعة آلاف الوسائط الاجتماعية لذا نفضَّل بدلا من كَرِّ مسبحتها المريرة أو تكدير الوسطاء الدوليين الذين يفضلون تجاهلها، نفضِّل بدلا من ذلك كتابة حاشيتين سريعتين عليها:

الأولى:
لأنَّ الطرفين لا يعرفان الشعب السوداني فقد ظنَّا أنَّ مثل هذه الجرائم المروِّعة التي يرتكبها الجنجويد ويشجِّعه “الجيش” عليها لسبب أو لآخر ستسبِّبُ الرهبةَ والفزع للسودانيين، لكنها- كما رأى غيرُ واحد – لم تسبِّب لهم سوى الغثيان، وعمَّقت لديهم الإحساس بفداحة غربة الجنجويد عن هذه الأرض التي لا يعرفون إنسانَها، والرثاء لغبائهم الذي لا يعرفُ حدودا، وقصر نظرهم الذي لا يعي فداحة المصير الذي يُقادونَ إليه كالقطعان، وهوانَ “جيش” لم يفرِّط في حمايتهم فحسب، بل شجَّع هذه الانتهاكات بصمته عن الردِّ عليها رداً حقيقياً، وبسلسلة بياناته الفاقدة للمصداقية تاركاً إدارة المعركة بأسرها لحفنة من الفلول الكيزانية الذين تعاملوا معها بوصفها معركةً للنباح الإعلامي كما اعتادوا في زمن “ساحات الفداء”؛ فلعلعت حناجرهم بـــــ “عنتريات الأكاذيب التي ما قتلت ذبابة”، وهاهم يحمِّلون “البرخان” الآن وِزرَ خيباتهم الثقيلة كأن المسكينَ المغرَّر به هو من يدير المعركة.

الثانية:
إنَّ سِجلَّ الجرائم هذه محفور بذاكرة شعب لا ينسى الإساءة أبداً ، وبوسعه أن يعدِّد لك بعد مائتي عام جرائم حملة الدفتردار 1822 ، أو فظائع عبد الله التعايشي إبان توليه إدارة الدولة السودانية (1885 – 1899) يعدِّدها واحدةً واحدةً ، فسجلُّ جرائم الحرب عنده كما في ” اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لسنة 1968″ لا يسقط بالتقادم، وستُكتب في مقرراتنا الدراسية القادمة حرفاً حرفاً، وسيكتب بعد نهاية كل درس أنها قد وضعت حدا فاصلا بينهم وبين الشعب السوداني إلى الأبد، وهو الفاصل الذي لن يُحلَّ بعودتهم للثكنات أو محاسبتهم القاسية عما اقترفوه، ولكن يحلُّ بإعادة السؤال جذرياً في معنى “جيش” لا يوجه رصاصاته إلا لصدور مواطنيه، ولا يفلح – بالتحالف مع شريكه السابق – إلا في تهريب الذهب والمرتزقة وبيع الأرض لوكلائه الإقليميين.

 

وآخر دعوانا : أنْ لا للحرب ، العسكر للثكنات والجنجويد ينحل.. بعد المحاسبة الشاملة لكليهما.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 5

كن أول من يقيم هذا المقال

تعليق واحد

  1. الدكتور هاشم ميرغني لقد وصلته إلى عمق الجرح الصدىء جزيت خيرا عنا ولك كل التقدير نرجو ان تستمر في إيصال صوتنا الخافت الذي أهلكته جرائم هؤلاء

‫التعليقات مغلقة.‬