‫الرئيسية‬ مفكرة الحرب د. هاشم ميرغني يكتب: شظايا مِن دفترِ الحربِ … نداء الوسيلة
مفكرة الحرب - 22 مايو 2023, 8:37

د. هاشم ميرغني يكتب: شظايا مِن دفترِ الحربِ … نداء الوسيلة

د. هاشم ميرغني

يا حميِّد اقيف شوف الخلوقْ مَحَنانةْ
كفكفِ دمعتَك والعَبْرة فوت خنقانة
عسلكْ سالْ بحَرْ فوقو النحل ونَّانة
يا من ضاق غرفْ ..جازاك دبابير دانة
“القدال”

أصغيتُ بعمق للنداءِ الذي أطلقه الشاعر بابكر الوسيلة مناشداً الشعراءَ والكتاب – ضمائرَ عصرهم، طلائعَ أنواره وربابنةَ سُفن نجاته – تدوينَ ما يحدث: ” اكتبوا .. اكتبوا ..إنها لحظةُ الكتابة، لحظةُ موجةِ الموتِ الجماعيِّ الغفير ، ومع ذلك هي لحظةُ النجاةِ إلى الداخل بأمان التأمُّل واسترداد قيمة المكان.. إن لم يُعمَّدِ المستقبلُ القريبُ بدمِ الكتابة فإنَّ هذا المكانَ سيعيشُ وفقَ خُطَّةِ الشرِّ الشرهِ يباساً سرمدياً بين منصَّات الأكاذيب وجداولِ الخُرافاتِ الطائرة..”

كتبَ أيضاً ضمن سطوره المضيئة: “اكتبوا ضِدَّ الخيانةِ لهذا التُّراب المقدَّسِ ، قولوا: لا للحرب بصوتٍ مجلجلٍ وحرفٍ غليظِ الرسوخ والتجذُّر والثَّبات، صوتٍ يُضيءُ هذا العمى والعماء في لحظةِ المشنقة الجماعية لبني طينته المختلطة الأنفاس ..”

لا يعني الشاعرُ الضميرُ بابكر الوسيلة بالكتابة قطعاً بوستات الفيس والواتس التي تنهال علينا صباحَ مساءَ دون أن تقول جديدا بالضرورة، بل يعني بالكتابة ما نسميه اختزالا بالأدب شعراً ونثراً.

فما الذي يفعله خطابُ الأدب؟
يدوِّن ما أهمله التاريخُ في أوراقهِ الرسمية ؛ ففي أي ورقة من أوراقه المصقولة يمكن أن نشمَّ رائحة الجثث المتفحِّمة في العراء؟ وفي أي صفحة من صفحاته تتبقع أيدينا بدم ضحاياه المنسيين؟

يفكِّكُ لبِناتِ العالم ليعيد بناءَه مرَّةً أخرى بصلصال المخيِّلة ، وطميِ اللغة، وعنفوانِ السرد مانحاً إياه معنى جديداً ، مغايراً ، متعدِّداً ومكتنزاً ببراءة انبثاقهِ البِكْرِ من طينِ بداياتِهِ.

يقلِّبُ مواجعَنا الصامتة ويمنحُها لساناً وصوتاً.
يفتِّحُ الجروحَ التي اندملتْ زُوراً .
يلتقطُ مفرداتِ الواقع الدقيقة التي أفلتت من أصابعِ المؤرِّخ الغليظة.
ويشير إلى عُريِ الإمبراطور بأصبعٍ صغير، ولكنَّهُ لا يهتز .
ما الذي يفعله الأدبُ أيضا بحزمةِ أدواته التي تتفلت بعيداً عن اللغة السائدة والمتداولة حتى الإنهاك؟

يستبدلُ السردياتِ الكُبرى التي صدَّعتنا بإجاباتها الجاهزة الخانقة عن أسئلتنا المؤرقة بسردياتنا الحميمة التي تشبه ما يصَّاعد من نوافيرِ أرواحنا.

يستبدلُ دبابةَ الجنديِّ بجرَّار المزارع،
صولجانَ الحاكم بعصا الراعي،
نياشينَه البرَّاقةَ بأحزانِنا المطفأة،
خطاباتِه الفجَّةَ بالقصائدِ والأغنيات،
فرماناتِهِ الجهمةَ بضحكاتِنا الطليقة على عتهِ جنرالاته المسوخ.
بصوته الخافت، لكن النافذ كليزر يمكن للأدب بتعبير محمد برادة أنَّ” يتغلغلَ كعين سرية في الأعماق الفردية والجماعية لتستجلي المستور، وتجهرَ بما تكتمه خطاباتُ السلطة الرسمية ورقابتُها”، بعينهِ هذه التي ترى حتى في الظلام – بل خصوصاً في الظلام.
يمكن له أيضا أن يتنبأَ، أن يكشِفَ عن المستقبل المخبَّأ بين تلافيف الحاضر، فقبلَ أكثر من ثلاثة عقود ونيِّف كتب الشاعر الصادق الرضي مثلا في “غناء العزلة..” :
“كلُّ ما كُنَّا نغنِّيه
على شارعِ النيلِ
تغيَّبَ
وانطوى في الموج منسياً
حُطاماً
فى المرافئ.. أو طعاماً للطحالب
فى انزلاقِ الصوتِ للقاعِ
وفى صمتِ المسافاتِ القصيَّة
نَحنُ فى ساعةِ الحُزنِ
وميقاتِ الفجيعةِ
والفراغِ العاطفيِّ
الوطنيِّ
الآنَ لن نبكي
ولكِنْ مَنْ يساومُ بالغدِ الآتي
وماذا سوفَ نخسر؟”

يكتبُ التاريخُ مستريحَ الضمير أنَّ الحرب قد انتهت، وآنَ أوانُ الاحتفال؛ لأنَّه لم يعُدْ يسمعُ صوتَ البنادق التي انطفأتْ، لكنَّ الأدبَ وحده هو من يظلُّ ساهرا مؤرَّقاً يصغي لدويِّ طلقاتها في الدهاليزِ القصيَّةِ للروح، ويتسمَّع لدبيبها وهي تتجمَّعُ مرةً أخرى قطرةً قطرةً ، الحرب التي انتهت ظاهريا، لكنها ما زالت تنشب مخالبها في خلايانا، وفي أحلامِ أطفالنا، وفي مخازن الأسلحة التي تتراكم بعيداً عنَّا – الأسلحة التي تنتظر شركاتُها بصبر لتمزِّق جلودَنا كضباع.

عن هذه الحرب التي لم تنتهِ إلا ظاهريا يكتب الشاعر شمس الرحمن مثلا من بنغلاديش:
حملتُ القفص الخالي
وعلَّقتُه في الشُّرفة
منتظراً عودةَ الطائرِ الأخضرِ الجميل،
حيثُ علاماتُ الخوفِ تنقشعُ واحدةً واحدةً،
ولكنَّ الدمَ في أوردتي وعقلي
ما زال يتدفَّقُ بتعليماتٍ من الخوف.
الدجاجاتُ تحت أشجار الجوافة..
فزِعت فجأةً،
لصوتِ الانفجار في رؤوسها،
وبالقرب من كومة القشِّ ارتعدَ الأرنب،
من ذكرى لمسِ سلك مكشوف
وفي كوابيسِها، أوراق الشجر ما زالتْ تبصرُ،
لهبَ غوطةٍ مشتعلة،
فتزوي مسودَّةً في الهواء اللافح المغبرِّ..
ومن النافذةِ يندفعُ ساعدٌ كثيفُ الشَّعرِ،
يحطِّمُ كلَّ ما في البيت،
سلطانيَّة الأرز البريئة
تصبحُ وجهَ كولونيل يكشِّر عن أنيابه
وتبدأ في القفز على الأرض
… فجأةً، ينقضُّ كلبي الأمين عليَّ،
ينشبُ أسنانَه المتعطِّشة للدمِ في رقبتي،
يعوي ابني بالضحك،
وهو يقدُّ رقبةَ أخيه.
جسدُ أختي معلَّقاً أراه،
يتأرجَّحُ من عارضةِ السَّقفِ في غرفتي”.
في أي كتاب من كتب التاريخ يمكن أن نجد أنفسنا في أتون ذلك الجحيم عن علل الحرب التي لا تُداوى؟
في أيِّ صفحةٍ من صفحاته يمكنُ أن نرى بريخت طالعاً من رماد حاضرنا لفضاء مستقبل بعيــــــــــــــــــــــــــــد لا نراه ملوِّحا لإنسانه :
“أنتم يا من ستظهرونَ
بعدَ الطوفانِ الذي غرقنا فيه
فكِّروا عندما تتحدثونَ عن ضعفِنا
في الزمنِ الأسود
الذي نجوتم منه
كنا نخوضُ حربَ الطبقات
ونهيمُ بين البلاد
نغيِّرُ بلداً ببلدٍ
أكثرَ مما نغيِّر حذاءً بحذاء
يكاد اليأسُ يقتلُنا
حين نرى الظُّلمَ أمامَنا
ولا نرى أحداً يثورُ عليه
نحنُ نعلمُ
أنَّ كُرهَنا للانحطاط يشوِّهُ ملامحَ الوجهِ
وأن سُخْطَنا على الظلمِ
يبحُّ الصوتَ
آه، نحنُ الذين أردنا أن نُمهِّدَ الطريقَ للمحبَّةِ
لم نستطعْ أن نُحبَّ بعضَنا بعضاً
أما أنتُم
فعندما يأتي اليومُ الذي سيصبحُ فيه الإنسانُ صديقاً للإنسان
فاذكرونا
وسامحُونا”.

إلى أن يأتي ذلك الزمن البعيد اكتبوا .

اكتبوا الآنَ.
سَمُّوا القتلةَ بأسمائهم،
والضحايا بدمائهم،
والبلادَ بقائمةِ خرائبها،
والجنجويدَ بسجلِّ مخازيه الخارجةِ عنْ كلِّ سويَّة بشرية،
و”جيشَـــ”هُم بانقياده كعِيرٍ لعصابة “الإنغازيين” الماحقةِ للحرثِ والنسل ،
وجنرالي حرب العصابات الهمجية هذي بألقابهما الأثيرة: جنرالي الخلا والبدروم ـــــ وهما يتقاتلانِ على أرض أجسادِنا ولا يوفران بنداً واحداً من بنود انتهاكات الحياة الإنسانية دون أن يرتكباه مضيفين إليها موبقاتٍ جديدةً لم تتفتَّقْ عنها ذهنيَّةُ أيِّ حربٍ سبقتهما، موبقاتٍ مستلَّة من تربيتهما معاً في حِجْرِ النظام الإنقاذي الزنيم .
اكتبوا
“إلى أنْ يعودَ الوجودُ لدورتهِ الدائرةْ:
النجومُ.. لميقاتِها
والطيورُ.. لأصواتِها
والرمالُ.. لذرَّاتِها
والقتيلُ لطفلتِهِ الناظرةْ”.

حاشية:
قصيدة بريخت من ترجمة عبد الغفار مكاوي ضمن ” قصائد من برتولد بريخت” ، وقصيدة شمس الرحمن بعنوان ” علامات الخوف” ضمن ” أصوات الضمير : خمسون قصيدة من الشعر العالمي” اختيار وترجمة وتقديم طلعت الشايب، كتاب الدوحة، والأبيات الأخيرة لأمل دنقل من قصيدته الذائعة ” لا تصالح”.

ماهو رأيك في هذا المقال ؟

Average rating 5 / 5. Total : 1

كن أول من يقيم هذا المقال

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *